بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة الحديث الشريف جامع العلوم والحكم
● [ الحديث السابع والعشرون ] ●
عَنِ النَّواسِ بنِ سَمعانِ - رضي الله عنه - ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ ، والإثْمُ : ما حَاكَ في نَفْسِكَ ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ ) . رواهُ مسلمٌ. وعَنْ وابِصَةَ بن مَعْبَدٍ قال : أتيتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالَ : ( جِئْتَ تَسأَلُ عن البرِّ والإثمِ ؟ ) قُلْتُ : نعَمْ ، قال : ( استَفْتِ قَلْبَكَ ، البرُّ ما اطمأنَّتْ إليهِ النَّفْسُ ، واطمأنَّ إليهِ القلبُ ، والإثمُ ما حَاكَ في النَّفسِ ، وتَردَّدَ في الصَّدْرِ ، وإنْ أفتاكَ النَّاسُ وأَفْتوكَ ). .قال الشيخ - رحمه الله - : حديثٌ حسنٌ رويناه في " مسنَدَي " الإمامين أحمد والدَّارميِّ بإسنادٍ حسنٍ . أما حديث النوَّاس بن سمعان ، فخرَّجه مسلم من رواية معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمان بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن النوَّاس ، ومعاوية وعبد الرحمان وأبوه تفرَّد بتخريج حديثهم مسلم دونَ البخاري. وأما حديث وابصة فخرَّجه الإمام أحمد من طريق حماد بنِ سلمة ، عن الزبير ابن عبد السلام ، عن أيوب بن عبد الله بن مِكرز ، عن وابصة بن معبد ، قال : أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أريدُ أنْ لا أدع شيئاً من البرِّ والإثم إلاَّ سألتُ عنه ، فقال لي : ( ادنُ يا وابصةُ ) ، فدنوتُ منه ، حتّى مست ركبتي ركبتَه ، فقال : ( يا وابصة أُخبرك ما جئتَ تسأل عنه أو تسألني ؟ ) قلت : يا رسول الله أخبرني ، قالَ : ( جئتَ تسألني عن البرِّ والإثم ) ، قلت : نعم ، فجمع أصابعَه الثلاث ، فجعل يَنكُتُ بها في صدري ، ويقول : ( يا وابصة ، استفتِ نفسَك ، البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلب ، واطمأنَّت إليه النفسُ ، والإثمُ : ما حاك في القلبِ ، وتردَّد في الصَّدر وإنْ أفتاك الناسُ وأفتوك ). وفي روايةٍ أخرى للإمام أحمد أنَّ الزبيرَ لم يسمعه من أيوب ، قال : وحدَّثني جلساؤه ، وقد رأيتُه ، ففي إسناد هذا الحديث أمران يُوجب كلٌّ منهما ضعفه : أحدهما : انقطاعه بين الزبير وأيوب ؛ فإنَّه رواه عن قوم لم يسمعهم . والثاني : ضعف الزبير هذا ، قال الدارقطني : روى أحاديث مناكير ، وضعفه ابن حبان أيضاً ، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام ، فأخطأ في اسمه ، وله طريق آخر عن وابصة خرَّجه الإمام أحمد أيضاً من رواية معاوية بن صالح ، عن أبي عبد الله السلمي ، قال : سمعتُ وابصةَ ، فذكر الحديث مختصراً ، ولفظه : قال : ( البرُّ ما انشرحَ له صدُرك ، والإثمُ ما حاك في صدرك ، وإنْ أفتاك عنه الناس ). والسُّلمي هذا : قال عليُّ بن المديني : هو مجهول. وخرَّجه البزار والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي ، وقال البزار : لا نعلم أحداً سماه ، كذا قال ، وقد سمي في بعض الروايات محمداً . قال عبد الغني ابن سعيد الحافظ : لو قال قائلٌ : إنَّه محمد بن سعيد المصلوب ، لما دفعتُ ذلك ، والمصلوب هذا صلبه المنصورُ في الزَّندقة ، وهو مشهورٌ بالكذب والوضع ، ولكنه لم يدرك وابصةَ، والله أعلم . وقد رُوي هذا الحديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعدِّدة وبعضُ طرقه جيدة ، فخرَّجه الإمامُ أحمدُ، وابن حبان في " صحيحه " من طريق يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جدِّه ممطور ، عن أبي أُمامة ، قال : قال رجلٌ : يا رسولَ الله ، ما الإثم ؟ قالَ : ( إذا حاك في صدرك شيءٌ فدعه ) وهذا إسنادٌ جيِّدٌ على شرط مسلم ، فإنَّه خرَّج حديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، وأثبت أحمد سماعَه منه ، وإنْ أنكره ابنُ معين. وخرَّج الإمام أحمد من رواية عبد الله بن العلاء بن زَبْر : سمعتُ مسلم بن مِشْكَم قال : سمعتُ أبا ثعلبة الخشني يقول : قلتُ : يا رسول الله ، أخبرني ما يحلُّ لي و ما يحرُمُ عليَّ ، فقال : ( البرُّ ما سَكَنَتْ إليه النَّفسُ ، واطمأنَّ إليه القلبُ ، والإثم ما لم تسكن إليه النَّفسُ ، ولم يطمئنَّ إليه القلب ، وإنْ أفتاك المفتون ) ، وهذا أيضاً إسنادٌ جيد ، وعبد الله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور ، وخرَّجه البخاري ، ومسلم بن مِشْكَم ثقةٌ مشهورٌ أيضاً. وخرَّج الطبراني وغيرُه بإسنادٍ ضعيفٍ من حديث واثلة بن الأسقع قال : قلتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أفتني عن أمرٍ لا أسألُ عنه أحداً بعدَك ، قال : ( استفت نفسَك ) ، قلت : كيف لي بذاك ؟ قالَ : ( تدعُ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك ، وإنْ أفتاك المفتون ) ، قلتُ : وكيف لي بذاك ؟ قال : ( تضعُ يدكَ على قلبك ، فإنَّ الفؤاد يسكن للحلالِ ، ولا يسكن للحرام ) . ويُروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسنادٍ ضعيفٍ أيضاً. وروى ابنُ لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أنَّ سويدَ بن قيسٍ أخبره عن عبد الرحمان بن معاوية : أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ما يَحِلُّ لي مما يحرمُ عليَّ ؟ وردَّدَ عليهِ ثلاث مِرارٍ ، كلَّ ذَلِكَ يسكتُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قالَ : ( أين السائل ؟ ) فقالَ : أنا ذا يا رسول الله ، فقالَ بأصابِعه : ( ما أنكر قلبُك فدعه ) . خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه "، وقال : لا أدري عبد الرحمان بن معاوية سمع من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ ولا أعلم له غير هذا الحديث . قلتُ : هو عبد الرحمان بن معاوية بن حديج جاء منسوباً في كتاب " الزهد " لابن المبارك ، وعبد الرحمان هذا تابعيٌّ مشهور ، فحديثه مرسل . وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال : الإثم حوازُّ القلوب ، واحتجَّ به الإمام أحمد ، ورواه عن جرير ، عن منصور ، عن محمد بن عبد الرحمان ، عن أبيه ، قال : قال عبد الله : إياكم وحزَّاز القلوب ، وما حزَّ في قلبك من شيءٍ فدعه. وقال أبو الدرداء : الخير في طمأنينة ، والشرُّ في ريبة. وروي عن ابن مسعود من وجهٍ منقطعٍ أنَّه قيل له : أرأيتَ شيئاً يَحيكُ في صدورنا ، لا ندري حلال هو أم حرامٌ ؟ فقال : إيَّاكم والحَكَّاكَاتِ ، فإنَّهنَّ الإثم، والحَزُّ والحكُّ متقاربان في المعنى ، والمراد : ما أثَّر في القلب ضِيقاً وحَرجاً ، ونُفوراً وكراهة. فهذه الأحاديثُ اشتملت على تفسير البرِّ والإثم ، وبعضُها في تفسير الحلال والحرام ، فحديثُ النَّوَّاس بن سمعان فسَّرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيه البرَّ بحُسن الخلق، وفسَّره في حديث وابصة وغيره بما اطمأنَّ إليه القلب والنفس، كما فسَّر الحلالَ بذلك في حديث أبي ثعلبة . وإنَّما اختلف تفسيرُه للبر ؛ لأنَّ البرَّ يُطلق باعتبارين معينين: أحدُهما : باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، وربما خصَّ بالإحسانِ إلى الوالدين ، فيقال : برُّ الوالدين ، ويطلق كثيراً على الإحسان إلى الخلق عموماً ، وقد صنّف ابنُ المبارك كتاباً سماه كتاب " البر والصلة "، وكذلك في "صحيح البخاري" و" جامع الترمذي " : كتاب " البر والصلة " ، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموماً ، ويقدَّم فيه برُّ الوالدين على غيرهما . وفي حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده : أنَّه قال : يا رسول الله مَنْ أبرُّ ؟ قالَ : ( أمك ) ، قالَ : ثُمَّ من ؟ قال : ( ثم أباك ) ، قال : ثم من ؟ قالَ : ( ثُمَّ الأقرب فالأقرب ). ومن هذا المعنى : قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الحجُّ المبرور ليس لهُ جزاءٌ إلاَّ الجنَّة ). وفي " المسند " : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن برِّ الحجِّ ، فقال : ( إطعامُ الطَّعام ، وإفشاءُ السلام ) ، وفي روايةٍ أخرى : ( وطيبُ الكلام ). وكان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يقول : البرُّ شيءٌ هيِّنٌ : وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ. وإذا قرن البرُّ بالتَّقوى ، كما في قوله - عز وجل - : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }، فقد يكون المرادُ بالبرِّ معاملةَ الخلق بالإحسّان ، وبالتَّقوى : معاملة الحقِّ بفعل طاعته ، واجتناب محرَّماته ، وقد يكونُ أُريد بالبرِّ : فعل الواجبات ، وبالتقوى : اجتناب المحرَّمات، وقوله تعالى : { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ } قد يُراد بالإثم : المعاصي ، وبالعدوان : ظُلم الخلق ، وقد يُراد بالإثم : ما هو محرَّم في نفسه كالزِّنى ، والسرقة ، وشُرب الخمر ، وبالعُدوان : تجاوز ما أذن فيه إلى ما نُهي عنه ممَّا جنسُه مأذونٌ فيه ، كقتل مَن أُبيح قتلُه لِقِصاصٍ ، ومن لا يُباح ، وأخذُ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها ، ومجاوزة الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك. والمعنى الثاني من معنى البرِّ : أنْ يُراد به فعلُ جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، كقوله تعالى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }، وقد رُوي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الإيمان ، فتلا هذه الآية. فالبرُّ بهذا المعنى يدخل فيه جميعُ الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبُّه الله ، وإقام الصَّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، والوفاء بالعهد ، والصَّبرِ على الأقدار ، كالمرض والفقر ، وعلى الطَّاعات ، كالصَّبر عِند لقاءِ العدوِّ. وقد يكون جوابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث النوَّاس شاملاً لهذه الخصال كلِّها ؛ لأنَّ حُسنَ الخُلق قد يُراد به التخلُّقُ بأخلاق الشريعة ، والتأدُّبُ بآداب الله التي أدَّبَ بها عبادَه في كتابه ، كما قال تعالى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }، وقالت عائشة : كان خُلُقُه - صلى الله عليه وسلم - القرآن، يعني : أنَّه يتأدَّب بآدابه ، فيفعل أوامرَه ويجتنب نواهيه ، فصار العملُ بالقرآن له خُلقا كالجبلَّة والطَّبيعة لا يُفارِقُه ، وهذا أحسنُ الأخلاق وأشرفُها وأجملُها. وقد قيل : إنَّ الدِّين كلَّه خُلُقٌ . وأما في حديث وابصة ، فقال : ( البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلبُ ، واطمأنت إليه النفس )، وفي رواية : ( ما انشرح إليه الصَّدرُ )، وفسر الحلالَ بنحوِ ذلك كما في حديث أبي ثعلبة وغيره ، وهذا يدلُّ على أنَّ الله فطرَ عبادَه على معرفة الحق ، والسكون إليه وقبوله ، وركَّز في الطباع محبةَ ذلك ، والنفور عن ضدِّه. وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حِمار : ( إني خلقتُ عبادي حنفاءَ مسلمين ، فأتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم ، فحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم ، وأمَرَتهُم أنْ يُشرِكوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً ). وقوله : ( كلُّ مولودٍ يُولدُ على الفطرةِ ، فأبواه يهوِّدانه ، وينصِّرانه ، ويمجِّسانه ، كما تُنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء ، هل تُحِسُّونَ فيها من جدعاء ؟ ) قال أبو هريرة : اقرؤوا إنْ شئتم : { فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ }. ولهذا سمَّى الله ما أمرَ به معروفاً ، وما نهى عنه منكراً ، فقال : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ }، وقال في صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }، وأخبر أنَّ قلوب المؤمنين تطمئنُّ بذكره ، فالقلبُ الذي دخله نورُ الإيمان ، وانشرح به وانفسح ، يسكن للحقِّ ، ويطمئن به ويقبله ، وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله. قال معاذ بن جبل : أحذركم زيغةَ الحكيم ، فإنَّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، فقيل لمعاذ : ما يُدريني أنَّ الحكيمَ قد يقول كلمة الضلالة ، وأنَّ المنافق يقول كلمةَ الحقِّ ؟ قال : اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يُقال : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه ، فإنَّه لعلَّه أنْ يُراجع ، وتَلَقَّ الحقَّ إذا سمعته ، فإنَّه على الحقِّ نوراً ، خرَّجه أبو داود. وفي روايةٍ له قال : بل ما تشابه عليك من قول الحكيمِ حتَّى تقول : ما أراد بهذه الكلمة ؟ فهذا يدل على أنَّ الحقَّ والباطل لا يلتبِسُ أمرُهما على المؤمن البصير ، بل يعرف الحقَّ بالنُّور الذي عليه ، فيقبله قلبُه ، ويَنفِرُ عن الباطل ، فينكره ولا يعرفه ، ومِنْ هذا المعنى قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( سيكون في آخر الزَّمان قوم يحدِّثونَكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإيَّاكم وإياهم )، يعني : أنَّهم يأتون بما تستنكره قلوبُ المؤمنين ، ولا تعرفه ، وفي قوله : ( أنتم ولا آباؤكم ) إشارةٌ إلى أنَّ ما استقرَّت معرفتُه عند المؤمنين مع تقادُمِ العهد وتطاول الزَّمان ، فهو الحقُّ ، وأنَّ ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر ، فلا خيرَ فيه. فدلَّ حديثُ وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، فما إليه سكن القلبُ ، وانشرح إليه الصَّدرُ ، فهو البرُّ والحلالُ ، وما كان خلافَ ذلك ، فهو الإثم والحرام. وقوله في حديث النوَّاس : ( الإثم ما حاك في الصدر ، وكرِهتَ أنْ يطَّلع عليه الناس ) إشارةٌ إلى أنَّ الإثم ما أثَّر في الصدر حرجاً ، وضيقاً ، وقلقاً ، واضطراباً ، فلم ينشرح له الصَّدرُ، ومع هذا ، فهو عندَ النَّاسِ مستنكرٌ ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه ، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عندَ الاشتباه ، وهو ما استنكره النَّاس على فاعلِه وغير فاعله. ومن هذا المعنى قولُ ابن مسعود : ما رآه المؤمنون حسناً ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المومنون قبيحاً ، فهو عند الله قبيح. وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة : ( وإنْ أفتاك المفتون ) يعني : أنَّ ما حاك في صدر الإنسان ، فهو إثمٌ ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ ، فهذه مرتبةٌ ثانيةٌ ، وهو أنْ يكونَ الشيءُ مستنكراً عندَ فاعله دونَ غيره ، وقد جعله أيضاً إثماً ، وهذا إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان ، وكان المفتي يُفتي له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعيٍّ ، فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه ، وإنْ لم ينشرح له صدرُه ، وهذا كالرخص الشرعية ، مثل الفطر في السفر ، والمرض ، وقصر الصَّلاة في السَّفر ، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال ، فهذا لا عبرةَ به. وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم ، فيمتنعون من فعله ، فيغضب منْ ذلك ، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم ، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم ، والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية ، فكرهوه ، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه ، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم. وفي الجملة ، فما ورد النصُّ به ، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }. وينبغي أنْ يتلقى ذلك بانشراح الصَّدر والرِّضا ، فإنَّ ما شرعه الله ورسولُه يجبُ الإيمانُ والرضا به ، والتَّسليمُ له ، كما قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }. وأما ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله ولا عمَّن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة ، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنِّ قلبه بالإيمان ، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيءٌ ، وحكَّ في صدره لشبهة موجودة ، ولم يجد مَنْ يُفتي فيه بالرُّخصة إلاَّ من يخبر عن رأيه ، وهو ممن لا يُوثَقُ بعلمه وبدينه ، بل هو معروفٌ باتباع الهوى ، فهنا يرجعُ المؤمن إلى ما حكَّ في صدره ، وإنْ أفتاه هؤلاء المفتون. وقد نصَّ الإمامُ أحمد على مثل هذا ، قال المروزي في كتاب "الورع" : قلتُ لأبي عبد الله : إنَّ القطيعة أرفقُ بي من سائر الأسواق ، وقد وقع في قلبي من أمرها شيءٌ ، فقال : أمرُها أمرٌ قذر متلوِّث ، قلت : فتكره العملَ فيها ؟ قال : دع ذا عنك إنْ كان لا يقعُ في قلبك شيء ، قلت : قد وقع في قلبي منها ، قال : قال ابن مسعود : الإثم حوازُّ القلوب. قلت : إنَّما هذا على المشاورة ؟ قال : أيُّ شيءٍ يقع في قلبك ؟ قلت : قد اضطربَ عليَّ قلبي ، قال : الإثم حَوازُّ القلوب. وقد سبق في شرح حديث النُّعمان بن بشير : ( الحلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ بيِّنٌ )، وفي شرح حديث الحسين بن علي : ( دع ما يريبُك إلى ما لا يريبُك )، وشرح حديث : ( إذا لم تستحي ، فاصنع ما شئت ) شيءٌ يتعلَّقُ بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا. وقد ذكر طوائفُ مِن فقهاءِ الشافعيَّة والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام : هل هو حجَّةٌ أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافاً بينهم ، وذكر طائفةٌ من أصحابنا أنَّ الكشفَ ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمِّ المتكلِّمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفةٌ من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نصَّ أحمد هاهنا بالرُّجوع إلى حوازِّ القلوب ، وإنَّما ذمَّ أحمدُ وغيرُه المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامُهم في ذلك لا يستندُ إلى دليلٍ شرعيٍّ ، بل إلى مجرَّد رأي وذوقٍ ، كما كان ينكرُ الكلامَ في مسائلِ الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي من غير دليلٍ شرعيٍّ . فأمَّا الرُّجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حوازِّ القلوب ، فقد دلَّت عليه النُّصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف يُنكره الإمام أحمد بعدَ ذلك ؟ لا سيَّما وقد نصَّ على الرُّجوع إليه موافقةً لهم . وقد سبق حديث : ( إنَّ الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة )، فالصدق يتميَّزُ من الكذب بسكونِ القلب إليه ، ومعرفته ، وبنفوره عن الكذب وإنكاره، كما قال الربيعُ بن خثيم : إنَّ للحديث ضوءاً كضوء النَّهار تعرفه، وظلمةً كظُلمة الليل تُنكره. وخرَّج الإمام أحمد من حديث ربيعة ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد ، عن أبي حميد وأبي أُسيد : أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا سمعتُمُ الحديثَ عنِّي تعرفُهُ قلوبُكم ، وتلينُ له أشعارُكم وأبشارُكم ، وترَوْنَ أنَّه منكم قريبٌ ، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتُم الحديث عنِّي تُنكره قلوبُكم ، وتَنفرُ منه أشعارُكم وأبشارُكم ، وترون أنَّه منكم بعيدٌ ، فأنا أبعدكم منه ) . وإسناده قد قيل : إنَّه على شرط مسلم ؛ لأنَّه خرَّج بهذا الإسناد بعينه حديثاً(2) ، لكن هذا الحديث معلول، فإنَّه رواه بُكير بن الأشج ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن عباس بن سهل ، عن أبيِّ بن كعب من قوله، قال البخاري : وهو أصحُّ. وروى يحيى بنُ آدم ، عن ابن أبي ذئبٍ ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إذا حُدِّثتُم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ، فصدِّقُوا به ، فإنِّي أقولُ ما يُعرف ولا يُنكر ، وإذا حُدِّثتُم عنِّي حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه ، فلا تصدقوا به ، فإنِّي لا أقول ما يُنكر ولا يعرف )، وهذا الحديث معلولٌ أيضاً ، وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب ، ورواه الحفَّاظ عنه ، عن سعيد مرسلاً ، والمرسل أصحُّ عند أئمة الحفَّاظ ، منهم : ابنُ معين والبخاري وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة ، وقال : ما رأيتُ أحداً من عُلماء الحديث يُثبت وصلَه. وإنَّما تُحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحَّتها - على معرفة أئمة الحديث الجهابذة النُّقَّاد ، الذين كَثُرت ممارستهم لكلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وكلام غيره ، ولحال رُواةِ الأحاديث ، ونَقَلَةِ الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم ، فإنَّ هؤلاء لهم نقدٌ خاصٌّ في الحديث يختصون بمعرفته ، كما يختصُّ الصيرفي الحاذق بمعرفة النُّقود ، جيِّدِها ورديئها ، وخالصها ومشوبِها ، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكنُ أنْ يُعبِّرَ عن سبب معرفته ، ولا يُقيم عليه دليلاً لغيره ، وآيةُ ذلك أنَّه يُعرَضُ الحديثُ الواحدُ على جماعة ممن يعلم هذا العلم ، فيتَّفقونَ على الجواب فيه مِنْ غير مواطأة. وقد امتحن هذا منهم غيرَ مرَّةٍ في زمن أبي زُرعة وأبي حاتم ، فوُجِدَ الأمرُ على ذلك ، فقال السائل : أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهامٌ . قال الأعمش : كان إبراهيم النَّخعي صيرفياً في الحديث ، كنت أسمعُ مِنَ الرِّجالِ ، فأعرض عليه ما سمعته. وقال عمرو بن قيس : ينبغي لصاحب الحديث أنْ يكونَ مثل الصيرفيّ الذي ينتقد الدراهم ، فإنَّ الدراهم فيها الزائفَ والبَهْرَجَ وكذلك الحديث. وقال الأوزاعي : كنا نسمع الحديث فنَعرِضُهُ على أصحابنا كما نَعرِضُ الدرهم الزَّائف على الصيارفة ، فما عرفوا أخذنا ، وما أنكروا تركنا. وقيل لعبد الرحمان بن مهدي : إنَّك تقولُ للشيء : هذا صحيح وهذا لم يثبت ، فعن من تقولُ ذلك ؟ فقال : أرأيتَ لو أتيتَ الناقد فأريتَه دراهمك ، فقال : هذا جيد ، وهذا بهرَجٌ أكنت تسأله عن من ذلك ، أو كنت تسلم الأمر إليه ؟ قال : لا ، بل كنت أسلمُ الأمر إليه ، قال : فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخُبْرة به. وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضاً ، وأنَّه قيل له : يا أبا عبد الله تقولُ : هذا الحديث منكر ، فكيف علمتَ ولم تكتب الحديث كلَّه ؟ قال : مثلنا كمثل ناقدِ العين لم تقع بيده العَيْنُ كلُّها ، وإذا وقع بيده الدينارُ يعلم أنَّه جيدٌ ، وأنَّه رديء. وقال ابنُ مهدي : معرفة الحديث إلهام. وقال : إنكارُنا الحديث عند الجهال كهانةٌ. وقال أبو حاتم الرازي : مَثَلُ معرفة الحديث كمثل فصٍّ ثمنه مئة دينار ، وآخر مثله على لونه ، ثمنُه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقدِ أنْ يُخبر بسبب نقده ، فكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيأُ لنا أنْ نُخبِر كيف علمنا بأنَّ هذا حديثٌ كذِبٌ ، وأنَّ هذا حديثٌ مُنكرٌ إلا بما نعرفه ، قال : وتُعرَفُ جودةُ الدينارِ بالقياسِ إلى غيره ، فإنْ تخلف عنه في الحمرة والصَّفاء علم أنَّه مغشوش ، ويُعلم جنسُ الجوهر بالقياس إلى غيره ، فإنْ خالفه في المائيَّة والصَّلابة ، علم أنَّه زجاج ، ويُعلَمُ صحةُ الحديث بعدالة ناقليه وأنْ يكون كلاماً يصلح مثلُه أنْ يكون كلامَ النبوّة ، ويُعرف سُقمه وإنكاره بتفرُّد من لم تصحَّ عدالته بروايته ، والله أعلم . وبكلِّ حالٍ فالجهابذةُ النقادُ العارفون بعلل الحديث أفرادٌ قليلٌ من أهل الحديث جداً ، وأوَّل من اشتهر بالكلام في نقد الحديث ابنُ سيرين ، ثم خلفه أيوبُ السَّختياني ، وأخذ ذلك عنه شعبةُ، وأخذ عن شعبة يحيى القطّان وابنُ مهدي ، وأخذ عنهما أحمد ، وعليُّ بن المديني ، وابن معين ، وأخذ عنهم مثلُ البخاري وأبي داود وأبي زُرعة وأبي حاتم. وكان أبو زرعة في زمانه يقول : قلَّ من يفهم هذا ، وما أعزَّه إذا دفعت هذا عن واحد أو اثنين ، فما أقلَّ من تجد من يُحسن هذا ! ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : ذهب الذي كان يُحسن هذا - يعني : أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا. وقيل له بعدَ موت أبي زُرعة : تعرف اليوم أحداً يعرف هذا ؟ قالَ : لا. وجاء بعد هؤلاء جماعة ، منهم : النَّسائي والعقيلي وابنُ عدي والدارقطني ، وقلَّ من جاء بعدهم ممَّن هوَ بارع في معرفة ذَلِكَ حتَّى قالَ أبو الفرج بن الجوزي في أوَّل كتابه " الموضوعات " : قد قلَّ من يفهم هذا بل عُدِمَ ، والله أعلم.
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي منتدى ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم