منتدى نافذة ثقافية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الحديث الثامن والعشرون

    بص وطل
    بص وطل
    Admin


    عدد المساهمات : 2283
    تاريخ التسجيل : 29/04/2014

    الحديث الثامن والعشرون Empty الحديث الثامن والعشرون

    مُساهمة من طرف بص وطل الإثنين مايو 22, 2017 4:29 pm

    الحديث الثامن والعشرون Game10

    بّسم الله الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الحديث الشريف
    جامع العلوم والحكم
    الحديث الثامن والعشرون 1410
    ● [ الحديث الثامن والعشرون ] ●

    عَن العِرْبَاض بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - قالَ : وَعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَوعِظَةً ، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ ، فَقُلْنا : يَا رَسول الله ، كأنَّها مَوعِظَةُ مُودِّعٍ، فأوْصِنا ، قال : ( أوصيكُمْ بتَقوى الله ، والسَّمْعِ والطَّاعةِ ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ ، وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافاً كَثيراً ، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ
    الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمور ، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ ). رواه أبو داود والتِّرمذيُّ، وقال : حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ.
    هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من رواية ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، زاد أحمد في روايةٍ له ، وأبو داود : وحُجْر بن حجر الكلاعي ، كلاهما عن العِرباض ابن سارية ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحافظ أبو نعيم : هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين، قال : ولم يتركه البخاري ومسلمٌ من جهة إنكارٍ منهما له ، وزعم الحاكمُ أنَّ سببَ تركهما له أنَّهما توهّما أنَّه ليس له راوٍ عن خالد بن معدان غيرَ ثور بن يزيد ، وقد رواه عنه أيضاً بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما.
    قلتُ : ليس الأمرُ كما ظنَّه ، وليس الحديثُ على شرطهما ، فإنَّهما لم يخرِّجا لعبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، ولا لحُجْرٍ الكلاعي شيئاً ، وليسا ممَّن اشتهر بالعلم والرواية.
    وأيضاً ، فقد اختُلِفَ فيه على خالد بن معدان ، فروي عنه كما تقدَّم ، وروي عنه عن ابن أبي بلال ، عن العِرباض ، وخرَّجه الإمام أحمد مِنْ هذا الوجه أيضاً ، وروي أيضاً عن ضمرة بن حبيب ، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي ، عن العِرباض ، خرَّجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه، وزاد في حديثه : ( فقد تركتُكم على البيضاءِ ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ ) ، وزاد في آخر الحديث : ( فإنَّما المؤمن كالجمل الأنِفِ ، حيثما قيدَ انقاد ).
    وقد أنكر طائفةٌ مِنَ الحُفَّاظ هذه الزيادة في آخر الحديث ، وقالوا : هي مدرجةٌ فيه ، وليست منه ، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره ، وقد خرَّجه الحاكم، وقال في حديثه : وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث : ( فإنَّ المؤمن كالجملِ الأنِفِ ، حيثما قيد انقاد ).
    وخرَّجه ابن ماجه أيضاً من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثني يحيى ابن أبي المطاع ، سمعتُ العرباض فذكره ، وهذا في الظاهر إسناد جيد متَّصلٌ ، ورواته ثقات مشهورون ، وقد صرَّح فيه بالسَّماع ، وقد ذكر البخاري في " تاريخه " : أنَّ يحيى بن أبي المطاع سمع من العِرباض اعتماداً على هذه الرواية ، إلاَّ أنَّ حفَّاظ أهلِ الشَّام أنكروا ذلك ، وقالوا : يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ، ولم يلقه ، وهذه الرواية غلطٌ ، وممَّن ذكر ذلك أبو زرعة الدِّمشقي ، وحكاه عن دُحيم، وهؤلاء أعرفُ بشيوخهم من غيرهم، والبخاري - رحمه الله - يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام ، وقد رُوي عن العِرباض من وجوه أخر ، ورُوي من حديث بُريدة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إلاَّ أنَّ إسنادَ حديثِ بُريدة لا يثبت، والله أعلم.
    فقولُ العِرباض : وعظنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ، وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي : ( بليغة ) ، وفي روايتهم أنَّ ذلك كانَ بعد صلاةِ الصُّبح ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يَعِظُ أصحابَه في غير الخُطَبِ الرَّاتبة ، كخطب الجمع والأعياد ، وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : { وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }، وقال : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }، ولكنَّه كان لا يُديم وعظهم ، بل يتخوّلُهُم به أحياناً ، كما في " الصحيحين " عن أبي وائل ، قال : كان عبدُ الله بنُ مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمان ، إنَّا نحبُّ حديثَك ونشتهيه ، ولَودِدْنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ ، فقال : ما يمنعني أنْ أحدِّثكم إلا كراهةَ أنْ أُمِلَّكم ، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوَّلنا بالموعظة كراهة السآمة علينا.
    والبلاغةُ في الموعظة مستحسنةٌ ؛ لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوب واستجلابها ، والبلاغةُ : هي التَّوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسنِ صُورةٍ مِنَ الألفاظ الدَّالَّة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب . وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر خطبتها ، ولا يُطيلُها ، بل كان يُبلِغُ ويُوجِزُ .
    وفي " صحيح مسلم " عن جابر بنِ سمُرة قال : كنتُ أُصلِّي معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت صلاتُه قصداً ، وخطبته قصداً.
    وخرَّجه أبو داود ولفظه : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُطيلُ الموعظةَ يومَ الجمعة ، إنَّما هو كلمات يسيرات.
    وخرَّج مسلم من حديث أبي وائل قال : خطبنا عمارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلغَ ، فلما نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفَّستَ ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ ، وقِصَر خُطبتِهِ ، مَئِنَّةٌ من فقهه ، فأطيلوا الصَّلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإنَّ من البيان سحراً ).
    وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث الحكم بن حزن ، قال : شهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة فقام متوكئاً على عصا أو قوسٍ ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه كلماتٍ خفيفاتٍ طيِّباتٍ مباركاتٍ .
    وخرَّج أبو داود عن عمرو بنِ العاص : أنَّ رجلاً قام يوماً ، فأكثر القولَ ، فقال عمرٌو : لو قَصَد في قوله ، لكان خيراً له ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لقد رأيتُ - أو أمرتُ - أنْ أتجوَّزَ في القول ، فإنَّ الجواز هو خير ).
    وقوله : ( ذرفت منها العيونُ ووَجِلت منها القلوب ) هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عندَ سماع الذكر كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }، وقال : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }، وقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ }، وقال : { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ }، وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ }. وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغيَّرُ حالُه عند الموعظة ، كما قال جابر : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خطبَ ، وذكر الساعةَ ، اشتدَّ غضبه ، وعلا صوتُه ، واحمرَّت عيناه ، كأنَّه منذرُ جيش يقول : صبَّحَكم ومسَّاكم . خرَّجه مسلم بمعناه.
    وفي " الصحيحين " عن أنس : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمسُ ، فصلى الظُّهرَ ، فلمَّا سلم ، قام على المنبر ، فذكر السَّاعة ، وذكر أنَّ بَيْنَ يديها أموراً عظاماً ، ثم قال : ( من أحبَّ أنْ يسألَ عن شيءٍ فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ أخبرتُكم به في مقامي هذا ) ، قال أنس : فأكثر النَّاسُ البكاءَ ، وأكثر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يقول : ( سلوني ) ، فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ، قال : ( النار ) ، وذكر الحديث .
    وفي " مسند الإمام أحمد " عن النُّعمان بن بشير : أنَّه خطب ، فقال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يقول : ( أنذرتكم النَّار ، أنذرتكم النَّار ) حتّى لو أنَّ رجلاً كان بالسُّوق لسمعه من مقامي هذا ، قال : حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.
    وفي " الصحيحين " عن عدي بن حاتمٍ ، قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اتقوا النَّار ) ، قال : وأشاح ، ثم قال : ( اتقوا النَّار ) ، ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنَّه ينظر إليها ، ثم قال : ( اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ ، فمن لم يجد فبكلمة طيِّبةٍ ).
    وخرَّج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن سلمة ، عن عليٍّ ، أو عنِ الزُّبير ابن العوّام ، قال : كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبنا ، فيذكِّرُنا بأيَّامِ الله ، حتّى يُعرَف ذلك في وجهه ، وكأنه نذيرُ قوم يُصبِّحهم الأمرُ غُدوةً ، وكان إذا كان حديثَ عهدٍ بجبريلَ لم يتبسَّمْ ضاحكاً حتَّى يرتفع عنه.
    وخرَّجه الطبراني والبزارُ من حديث جابر ، قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الوحيُّ ، أو وعظَ ، قلت : نذير قوم أتاهُم العذابُ ، فإذا ذهبَ عنه ذلك ، رأيت أطلقَ الناس وجهاً ، وأكثَرهم ضَحِكاً ، وأحسنهم بِشراً - صلى الله عليه وسلم -.
    وقولهم : ( يا رسول الله كأنَّها موعظةُ مودِّع ، فأوصنا ) يدلُّ على أنَّه كان - صلى الله عليه وسلم - قد أبلغَ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها ، فلذلك فَهِموا أنَّها موعظةُ مودِّعٍ ، فإنَّ المودِّع يستقصي ما لا يستقصي غيرُه في القول والفعل ، ولذلك أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُصلي صلاة مودِّعٍ وورد أيضاً عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك ؛ لأنَّه مَنِ استشعر أنَّه مودِّع بصلاته ، أتقنها على أكمل وجوهها . ولرُبما كان قد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - تعريضٌ في تلك الخطبة بالتَّوديع ، كما عرَّض بذلك في خطبته في حجة الوداع ، وقال : ( لا أدري ، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )، وطفق يودِّعُ الناس ، فقالوا : هذه حجة الوداع ، ولمّا رجع من حجِّه إلى المدينة ، جمع الناس بماءٍ بين مكة والمدينة يُسمى خُمَّاً، وخطبهم ، فقال : ( يا أيُّها النّاس ، إنّما أنَا بَشرٌ يوشِكُ أنْ يأتيني رسولُ ربِّي فأجيب ) ثم حضَّ على التمسُّك بكتابِ الله ، ووصَّى بأهل بيته ، خرَّجه مسلم.
    وفي " الصحيحين " ولفظه لمسلم عن عقبةَ بنِ عامرٍ ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحدٍ ، ثم صَعِدَ المنبر كالمودِّع للأحياء والأموات ، فقال : ( إنِّي فَرَطُكُم على الحوض ، فإنَّ عَرْضَهُ ، كما بين أيلةَ إلى الجُحفةِ ، وإنِّي لست أخشى عليكم أنْ تُشركوا بعدي ، ولكن أخشى عليكُم الدُّنيا أنْ تنافسوا فيها ، وتقتتلوا ، فتهلكوا كما هلك مَنْ كان قبلكم ) . قال عقبة : فكانت آخرَ ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر.
    وخرَّجه الإمام أحمد وأخرجه : البخاري 5/120 ( 4042 ) بهذا اللفظ من حديث عقبة بن عامر. ولفظه : صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحُدٍ بعد ثمانِ سنين كالمودِّع للأحياء والأموات ، ثم طلَعَ المنبرَ ، فقال : ( إنِّي فرطُكم ، وأنا عليكم شهيد ، وإنَّ موعدَكم الحوضُ ، وإنِّي لأنظرُ إليه ، ولستُ أخشى عليكم الكُفر ، ولكن الدُّنيا أنْ تنافسوها ).
    وخرَّج الإمام أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودِّع ، فقال : ( أنا محمد النَّبيُّ الأُميُّ - قال ذلك ثلاث مرَّات - ولا نبيَّ بعدي ، أُوتيتُ فواتِحَ الكَلِم وخواتمَه وجوامعه ، وعلمت كم خزنةُ النَّار ، وحملةُ العرش ، وتَجَوَّزَ لي ربِّي وعُوفيتُ وعُفِيَتْ أُمَّتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمتُ فيكم ، فإذا ذُهِبَ بي ، فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله ، وحرِّموا حرامه ). فلعلَّ الخطبة التي أشار إليها العرباضُ بنُ سارية في حديثه كانت بعضَ هذه الخطب ، أو شبيهاً بها ممَّا يُشعر بالتوديع .
    وقولهم : ( فأوصنا ) ، يعنون وصيةً جامعةً كافية، فإنَّهم لمَّا فهموا أنَّه مودِّعٌ ، استوصوهُ وصيَّةً ينفعهم التمسُّك بها بعدَه ، ويكون فيها كفايةٌ لمن تمسَّك بها ، وسعادةٌ له في الدنيا والآخرة.
    وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوصيكم بتقوى الله ، والسَّمع والطَّاعة ) ، فهاتان الكلمتان تجمعان سعادةَ الدُّنيا والآخرة.
    أمَّا التَّقوى ، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمن تمسَّك بها ، وهي وصيةُ الله للأوَّلين والآخرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ }، وقد سبق شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ.
    وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين ، ففيها سعادةُ الدُّنيا، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم ، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - : إنَّ الناسَ لا يُصلحهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجر ، إنْ كان فاجراً عبدَ المؤمنُ فيه ربَّه ، وحمل الفاجر فيها إلى أجله.
    وقال الحسن في الأمراء : هم يلونَ من أمورنا خمساً : الجمعةَ والجماعة والعيد والثُّغور والحدود ، والله ما يستقيم الدِّين إلاَّ بهم ، وإنْ جاروا وظلموا ، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون ، مع أنَّ - والله - إنَّ طاعتهم لغيظٌ ، وإنَّ فرقتهم لكفرٌ.
    وخرّج الخلال في كتاب " الإمارة " من حديث أبي أمامة قال : أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه حينَ صلَّوا العشاء : ( أنِ احشُدوا ، فإنَّ لي إليكم حاجةً ) فلمّا فرغ مِنْ صلاةِ الصُّبح ، قال : ( هل حشدتم كما أمرتكم ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( اعبدوا الله، ولا تُشركوا به شيئاً، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً، قلنا: نعم، قال: ( أقيموا الصَّلاةَ، وآتوا الزَّكاة ، هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً . قلنا : نعم ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ) ثلاثاً ، ( هل عقلتم هذه ؟ ) ثلاثاً ، قلنا : نعم ، قال : فكنَّا نرى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتكلَّم كلاماً طويلاً ، ثم نظرنا في كلامه ، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كلَّه.
    وبهذين الأصلين وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع أيضاً ، كما خرَّج الإمامُ أحمد والترمذي من رواية أمِّ الحصين الأحمسية ، قالت : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجّةِ الوداع ، فسمعتُه يقول : ( يا أيُّها النَّاسُ ، اتَّقوا الله ، وإنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ مجدَّعٌ ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله ).
    وخرَّج مسلم منه ذكرَ السمعِ والطاعة.
    وخرَّج الإمام أحمد والترمذي أيضاً من حديث أبي أُمامة ، قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجَّةِ الوداع ، يقول : ( اتَّقوا الله ، وصلُّوا خمسَكُم ، وصوموا شهركم ، وأدُّوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخُلُوا جنَّةَ ربِّكم )، وفي روايةٍ أخرى أنَّه قال : ( يا أيُّها النَّاس ، إنَّه لا نبيَّ بعدي ، ولا أمَّةَ بعدكم ) وذكر الحديث بمعناه.
    وفي " المسند " عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من لقِيَ الله لا يشركُ به شيئاً ، وأدّى زكاةَ مالهِ طيِّبةً بها نفسُه محتسباً ، وسمع وأطاع ، فله الجنَّة ، أو دخل الجنَّة ).
    وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ ) ، وفي روايةٍ : ( حبشي ) هذا مما تكاثرت به الرِّوايات عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مما اطلع عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أمرِ أُمته بعده ، وولاية العبيد عليهم ، وفي " صحيح البخاري " عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( اسمعوا وأطيعوا ، وإنِ استُعمِلَ عَلَيكُمْ عبدٌ حبشيٌّ ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ ).
    وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال : إنَّ خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أنْ أسمع وأطيع ، ولو كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف . والأحاديث في المعنى كثيرة جداً.
    ولا يُنافي هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش ما بقي في النَّاس اثنان )، وقوله : ( النّاس تبعٌ لقريش )، وقوله : ( الأئمة من قريش ) ؛ لأنَّ ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام قرشي ، ويشهد لذلك ما خَرَّجَه الحاكمُ من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الأئمة من قريش أبرارُها أمراءُ أبرارها ، وفجارُها أمراءُ فجارها ، ولكلٍّ حقٌّ ، فآتوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، وإنْ أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً مجدعاً ، فاسمعوا له وأطيعوا ) وإسناده جيد ، ولكنَّه روي عن عليٍّ موقوفاً، وقال الدارقطني : هو أشبه .
    وقد قيل : إنَّ العبدَ الحبشيَّ إنَّما ذكر على وجه ضرب المثل وإنْ لم يصحَّ وقوعُه ، كما قال : ( مَن بنى مسجداً و لو كَمَفْحَصِ قطاة ).
    وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن يعِشْ منكم بعدي ، فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي ، عَضُّوا عليها بالنواجذ ) . هذا إخبارٌ
    منه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع في أُمَّته بعدَه من كثرة الاختلاف في أصول الدِّين وفروعه ، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات ، وهذا موافقٌ لما روي عنه من افتراقِ أُمَّته على بضعٍ وسبعين فرقة ، وأنَّها كلَّها في النَّار إلاَّ فرقة واحدة، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابُه ، وكذلك في هذا الحديث أمر عندَ الافتراق والاختلاف بالتمسُّك بسنَّته وسنَّةِ الخلفاء الرَّاشدين من بعده ، والسُّنة : هي الطريقة المسلوكةُ ، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الرَّاشدونَ مِنَ الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السُّنةُ الكاملةُ ، ولهذا كان السلف قديماً لا يُطلقون اسم السُّنَّةِ إلا على ما يشمل ذلك كلَّه ، ورُوي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفُضيل بن عياض.
    وكثيرٌ من العُلماء المتأخرين يخصُّ اسم السُّنة بما يتعلق بالاعتقادات ؛ لأنَّها أصلُ الدِّين ، والمخالفُ فيها على خطرٍ عظيم ، وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسَّمع والطَّاعة لأُولي الأمر إشارةٌ إلى أنَّه لا طاعةَ لأولي الأمر إلاّ في طاعة اللهِ ، كما صحَّ عنه أنَّه قال : ( إنَّما الطَّاعةُ في المعروف ).
    وفي " المسند " عن أنس : أنَّ معاذَ بن جبل قال : يا رسول الله ، أرأيتَ إنْ كان علينا أمراءُ لا يستنُّون بسنَّتك ، ولا يأخذون بأمركَ ، فما تأمرُ في أمرهم ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا طاعة لمن لم يُطع الله - عز وجل - ).
    وخرَّج ابن ماجه من حديث ابن مسعود : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( سيلي أمورَكم بعدي رجالٌ يطفئون من السنة ويعملون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ) فقلت : يا رسول الله إنْ أدركتُهم ، كيف أفعلُ ؟ قال : ( لا طاعة لمن عصى الله ).
    وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتِّباع سنَّته ، وسنَّة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لوُلاةِ الأُمور عموماً دليلٌ على أنَّ سنةَ الخلفاء الراشدين متَّبعة ، كاتِّباع سنته ، بخلاف غيرهم من وُلاة الأمور.
    وفي " مسند الإمام أحمد " و" جامع الترمذي " عن حُذيفة قال : كنَّا عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلوساً ، فقال : ( إني لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكم ، فاقتدوا باللَّذيْنِ من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسَّكوا بعهدِ عمَّار ، وما حدَّثكم ابنُ مسعودٍ ، فصدقوه ) ، وفي روايةٍ : ( تمسَّكوا بعهد ابنِ أم عبدٍ ، واهتدوا بهدي عمار ) . فنصَّ - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره على من يُقتدى به مِنْ بعده ، والخُلفاء الراشدون الذين أمر بالاقتداء بهم هم : أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ ، فإنَّ في حديث سفينة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الخلافةُ بعدي ثلاثونَ سنة، ثم تكونُ ملكاً ) ، وقد صححه الإمام أحمد ، واحتجَّ به على خلافة الأئمة الأربعة.
    ونصَّ كثيرٌ من الأئمَّة على أنَّ عمر بنَ عبد العزيز خليفةٌ راشد أيضاً ، ويدلُّ عليه ما خرَّجه الإمام أحمد من حديث حُذيفة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تكونُ فيكم النبوَّةُ ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوَّة ، فتكونُ ما شاءَ الله أنْ تكونَ ، ثم يرفعُها الله إذا شاء أنْ يرفعها ، ثمَّ تكونُ مُلكاً عاضَّاً ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكونُ مُلكاً جبرية ، فتكون ما شاء الله أنْ تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها ، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوَّة ) ثُمَّ سكت . فلما ولي عمر بن عبد العزيز ، دخل عليه رجلٌ ، فحدَّثه بهذا الحديث ، فسُرَّ به ، وأعجبه.
    وكان محمد بن سيرين أحياناً يسأل عن شيءٍ مِنَ الأشربةِ ، فيقول : نهى عنه إمامُ هدى : عمرُ بن عبد العزيز.
    وقد اختلف العلماء في إجماع الخُلفاء الأربعة : هل هو إجماعٌ ، أو حُجَّةٌ ، مع مخالفة غيرهم مِنَ الصَّحابة أم لا ؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام ، ولم يعتدَّ بمن خالف الخُلفاء ، ونفذ حكمه بذلك في الآفاق.
    ولو قال بعضُ الخلفاء الأربعة قولاً ، ولم يُخالفه منهم أحدٌ ، بل خالفه غيرُه من الصَّحابة ، فهل يقدم قولُه على قول غيره ؟ فيه قولان أيضاً للعلماء ، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه يُقدمُ قوله على قولِ غيره من الصَّحابة ، وكذا ذكره الخطابيُّ وغيره ، وكلامُ أكثرِ السَّلفِ يدلُّ على ذلك ، خصوصاً عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فإنَّه روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنَّه قال : ( إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمرَ وقلبِه ). وكان عمرُ بن عبد العزيز يتَّبع أحكامَه ، ويستدلُّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّ الله جعلَ الحقَّ على لسان عمرَ وقلبه ).
    وقال مالكٌ : قال عمرُ بنُ عبد العزيز : سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وولاةُ الأمر من بعده سُنناً ، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتابِ الله ، وقوَّةٌ على دين الله ، ليس لأحدٍ تبديلُها ، ولا تغييرُها ، ولا النظرُ في أمرٍ خالفَها ، مَنِ اهتدى بها ، فهو مهتدٍ ، ومن استنصر بها ، فهو منصور ، ومن تركها واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين ، ولاَّه اللهُ ما تولَّى ، وأصلاه جهنَّم ، وساءت مصيراً. وحكى عبدُ الله بن عبد الحكم عن مالك : أنَّه قال : أعجبني عَزْمُ عمرَ على ذلك ، يعني : هذا الكلام . وروى عبدُ الرحمان بنُ مهدي هذا الكلام عن مالكٍ ، ولم يحكِه عن عمرَ .
    وقال خلَفُ بنُ خليفة : شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطبُ النَّاس وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنَّ ما سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه ، فهو وظيفةُ دينٍ ، نأخذ به ، وننتهي إليه. وروى أبو نعيم من حديث عَرْزب الكندي : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّه سيحدث بعدي أشياء ، فأحبها إلي أنْ تلزموا ما أحدث عمر ).
    وكان عليٌّ يتبع أحكامه وقضاياه ، ويقول : إنَّ عمرَ كان رشيدَ الأمر.
    وروى أشعثُ ، عن الشَّعبيِّ ، قال : إذا اختلف الناسُ في شيءٍ ، فانظروا كيف قضى فيه عمرُ ، فإنَّه لم يكن يقضي في أمر لم يُقْضَ فيه قبلَه حتى يُشاوِرَ.
    وقال مجاهد : إذا اختلف الناسُ في شيءٍ ، فانظروا ما صنع عمر ، فخُذُوا به. وقال أيوب ، عن الشعبيِّ : انظروا ما اجتمعت عليه أمَّةُ محمد ، فإنَّ الله لم يكن ليجمعها على ضلالةٍ ، فإذا اختلفت ، فانظروا ما صنعَ عُمَر بنُ الخطاب ، فخذوا به.
    وسئل عكرمة عن أم الولد ، فقال : تعْتقُ بموت سيدها ، فقيل له : بأيِّ شيء تقولُ ؟ قال : بالقرآن ، قال : بأيِّ القرآن ؟ قال : { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }، وعمرُ من أولي الأمر.
    وقال وكيع : إذا اجتمع عمرُ وعليٌّ على شيءٍ ، فهو الأمرُ.
    وروي عن ابن مسعود أنَّه كان يحلف بالله : إنَّ الصِّراط المستقيم هو الذي ثبت عليه عمر حتى دخل الجنَّة.
    وبكلِّ حالٍ ، فما جمع عمرُ عليه الصَّحابةَ ، فاجتمعوا عليه في عصره ، فلا شكَّ أنَّه الحقُّ ، ولو خالف فيه بعدَ ذلك مَنْ خالف ، كقضائه في مسائلَ مِنَ الفرائض كالعول ، وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أنَّ للأمِّ ثلث الباقي ، وكقضائه فيمن جامعَ في إحرامه أنَّه يمضي في نسكه وعليه القضاءُ والهديُ ، ومثل ما قضى به في امرأةِ المفقودِ ، ووافقه غيره مِنَ الخُلفاء أيضاً ، ومثلُ ما جمع عليه النَّاسَ في الطَّلاق الثَّلاث ، وفي تحريم متعة النِّساء ، ومثل ما فعله من وضع الدِّيوان ، ووضع الخراج على أرض العنوة ، وعقد الذِّمة لأهل الذِّمة بالشُّروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك.
    ويشهد لصحة ما جمع عليه عمرُ الصحابة ، فاجتمعوا عليه ، ولم يُخالف في وقته قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( رأيتني في المنام أنزِعُ على قليبٍ ، فجاء أبو بكرٍ ، فنزع ذَنُوباُ أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعفٌ ، والله يغفر له ، ثم جاء ابنُ الخطَّاب ، فاستحالت غَرْباً ، فلم أرَ أحداً يفري فَرْيَهُ حتَّى رَوِيَ النَّاس ، وضربوا بعَطَنٍ ) ، وفي روايةٍ : ( فلم أرَ عبقرياً من النَّاسِ يَنْزِعُ نزعَ ابنِ الخطاب ) وفي روايةٍ : ( حتى تولَّى والحوض يتفجَّرُ ).
    وهذا إشارةٌ إلى أنَّ عمرَ لم يمت حتَّى وضع الأمورَ مواضعها ، واستقامت الأمورُ ، وذلك لِطول مدَّته ، وتفرُّغه للحوادث ، واهتمامه بها ، بخلاف مدَّةِ أبي بكر فإنَّها كانت قصيرةً ، وكان مشغولاً فيها بالفُتوح ، وبعث البُعوث للقتال ، فلم يتفرَّغ لكثيرٍ من الحوادث ، وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلُغه ، ولا يُرفَعُ إليه ، حتَّى رفعت تلك الحوادثُ إلى عمرَ ، فردَّ النَّاس فيها إلى الحقِّ وحملهم على الصَّواب.
    وأمَّا ما لم يجمع عمرُ النَّاسَ عليه ، بل كان له فيه رأيٌ ، وهو يسوِّغ لغيره أنْ يرى رأياً يُخالف رأيه ، كمسائل الجَدِّ مع الإخوة ، ومسألة طلاق البتة ، فلا يكونُ قولُ عمر فيه حجَّةً على غيره مِنَ الصَّحابة ، والله أعلم.
    وإنَّما وصف الخلفاء بالراشدين ؛ لأنَّهم عرفوا الحقَّ وقَضَوا به ، فالراشدُ ضدُّ الغاوي ، والغاوي مَنْ عَرَفَ الحقَّ ، وعمل بخلافه.
    وفي رواية ( المهديين ) ، يعني : أنَّ الله يهديهم للحقِّ ، ولا يُضِلُّهم عنه ، فالأقسام ثلاثة : راشدٌ وغاوٍ وضالٌّ ، فالراشد عرف الحقَّ واتَّبعه ، والغاوي : عرفه ولم يتَّبعه ، والضالُّ : لم يعرفه بالكليَّة ، فكلُّ راشدٍ ، فهو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامَّةً ، فهو راشد ؛ لأنَّ الهدايةَ إنَّما تتمُّ بمعرفة الحقِّ والعمل به أيضاً.
    وقوله : ( عَضُّوا عليها بالنواجذ ) كناية عن شدَّةِ التَّمسُّك بها ، والنواجذ : الأضراس.
    قوله : ( وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور ، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة ) تحذيرٌ للأمة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المحدَثَةِ المبتدعَةِ ، وأكَّد ذلك بقوله : ( كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ) ، والمراد بالبدعة : ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه ، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه ، فليس ببدعةٍ شرعاً ، وإنْ كان بدعةً لغةً ، وفي " صحيح مسلم " عن جابر : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته : ( إنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ الله ، وخير الهدي هديُ محمد ، وشرُّ الأمور محدثاتها ، وكلُّ بدعة ضلالة ).
    وخرَّج الترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن عبد الله المزني - وفيه ضعف - عن أبيه ، عن جده ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسولُه ، كان عليه مثلُ آثام مَنْ عمل بها ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أوزارهم شيئاً ).
    وخرَّج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الثُّمالي قال : بعث إليَّ عبدُ الملك بنُ مروان ، فقال : إنا قد جمعنا الناس على أمرين : رفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة ، والقصص بعد الصُّبح والعصر ، فقال : أما إنَّهما أمثلُ بدعتكم عندي ، ولست بمجيبكم إلى شيءٍ منها ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما أحْدَثَ قومٌ بدعةً إلا رُفعَ مثلُها منَ السُّنَّة ) فتمسُّكٌ بسنَّةٍ خيرٌ من إحداث بدعةٍ . وقد رُوي عن ابن عمر من قوله نحو هذا.
    فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلُّ بدعة ضلالة ) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيءٌ ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدِّين ، وهو شبيهٌ بقوله : ( مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ )، فكلُّ من أحدث شيئاً ، ونسبه إلى الدِّين ، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه ، فهو ضلالةٌ ، والدِّينُ بريءٌ منه ، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
    وأما ما وقع في كلام السَّلف مِنِ استحسان بعض البدع ، فإنَّما ذلك في البدع اللُّغوية ، لا الشرعية ، فمِنْ ذلك قولُ عمر - رضي الله عنه - لمَّا جمعَ الناسَ في قيامِ رمضان على إمامٍ واحدٍ في المسجد ، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك فقال : نعمت البدعةُ هذه . وروي عنه أنَّه قال : إنْ كانت هذه بدعة ، فنعمت البدعة. وروي أنَّ أبيَّ بن كعب ، قال له : إنَّ هذا لم يكن ، فقال عمرُ : قد علمتُ ، ولكنَّه حسنٌ . ومرادُه أنَّ هذا الفعلَ لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ، ولكن له أصولٌ منَ الشَّريعةِ يُرجع إليها، فمنها : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحُثُّ على قيام رمضان ، ويُرَغِّبُ فيه، وكان النَّاس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرِّقةً ووحداناً ، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه في رمضانَ غيرَ ليلةٍ ، ثم امتنع مِنْ ذلك معلِّلاً بأنَّه خشي أنْ يُكتب عليهم ، فيعجزوا عن القيام به ، وهذا قد أُمِنَ بعده - صلى الله عليه وسلم - . ورُويَ عنه أنَّه كان يقومُ بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر.
    ومنها : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتِّباع سنة خلفائه الراشدين ، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين ، فإنَّ النَّاس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمانَ وعليٍّ.
    ومن ذلك : أذانُ الجمعة الأوَّل ، زاده عثمانُ لحاجةِ النَّاسِ إليه ، وأقرَّه عليٌّ ، واستمرَّ عملُ المسلمينَ عليه ، وروي عَن ابن عمر أنَّه قال : هو بدعة، ولعلَّه أرادَ ما أراد أبوه في قيام رمضان.
    ومِنْ ذلك جمع المصحف في كتابٍ واحدٍ ، توقَّف فيه زيدُ بنُ ثابتٍ ، وقال لأبي بكر وعمر : كيف تفعلان ما لم يفعلْهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ ثم علم أنَّه مصلحةٌ ، فوافق على جمعه، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ بكتابة الوحي ، ولا فرق بَيْنَ أنْ يُكتب مفرقاً أو مجموعاً ، بل جمعُه صار أصلح.
    وكذلك جمعُ عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشيةَ تفرُّق الأمة ، وقد استحسنه عليٌّ وأكثرُ الصحابة ، وكان ذلك عينَ المصلحة.
    وكذلك قتال من منع الزكاة : توقف فيه عمر وغيرُه حتى بيَّن له أبو بكر أصلَه الذي يرجعُ إليه مِنَ الشَّريعة، فوافقه الناسُ على ذلك.
    ومِنْ ذلك القصص ، وقد سبق قولُ غضيف بن الحارث : إنَّه بدعةٌ ، وقال الحسن : القصص بدعةٌ ، ونعِمَت البدعةُ ، كم من دعوة مستجابة ، وحاجة مقضية ، وأخٍ مستفاد. وإنَّما عني هؤلاء بأنَّه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين ، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له وقت معيَّن يقصُّ على أصحابه فيهِ غير خطبه الراتبة في الجُمَعِ والأعياد ، وإنَّما كان يذكرهم أحياناً ، أو عندَ حدوث أمرٍ يحتاجُ إلى التَّذكير عنده ، ثم إنَّ الصحابة اجتمعوا على تعيين وقتٍ له كما سبق عن ابنِ مسعودٍ : أنَّه كان يُذَكِّرُ أصحابه كلَّ يوم خميس.
    وفي " صحيح البخاري " عن ابن عبَّاسٍ قال : حدِّث الناس كلَّ جمعة مرَّةً ، فإنْ أبيتَ فمرَّتين ، فإنْ أكثرت ، فثلاثاً ، ولا تُمِلَّ الناس .
    وفي " المسند " عن عائشة أنَّها وصَّت قاصَّ أهلِ المدينة بمثل ذلك . وروي عنها أنَّها قالت لعُبيد بن عُميرٍ : حدِّثِ النَّاسَ يوماً ، ودعِ النَّاس يوماً ، لا تُملَّهم. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنَّه أمر القاصَّ أنْ يقصَّ كلَّ ثلاثة أيام مرَّة . ورُوي عنه أنَّه قال له : روِّح الناسَ ولا تُثقِلْ عليهم ، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء .
    وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد ، حدثنا حرملة ابن يحيى قال : سمعتُ الشافعي - رحمة الله عليه - يقول : البدعة بدعتان : بدعةٌ محمودةٌ ، وبدعة مذمومةٌ ، فما وافق السنة فهو محمودٌ ، وما خالف السنة فهو مذمومٌ . واحتجَّ بقول عمر : نعمت البدعة هي.
    ومراد الشافعي - رحمه الله - ما ذكرناه مِنْ قبلُ : أنَّ البدعة المذمومة ما ليس لها أصل منَ الشريعة يُرجع إليه ، وهي البدعةُ في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة ، يعني : ما كان لها أصلٌ مِنَ السنة يُرجع إليه ، وإنَّما هي بدعةٌ لغةً لا شرعاً ؛ لموافقتها السنة.
    وقد روي عَنِ الشَّافعي كلام آخر يفسِّرُ هذا ، وأنَّه قال : والمحدثات ضربان : ما أُحدِثَ مما يُخالف كتاباً ، أو سنةً ، أو أثراً ، أو إجماعاً ، فهذه البدعة الضلال ، وما أُحدِث مِنَ الخير ، لا خِلافَ فيه لواحدٍ مِنْ هذا ، وهذه محدثة غيرُ مذمومة.
    وكثير من الأمور التي حدثت ، ولم يكن قد اختلفَ العلماءُ في أنَّها هل هي بدعةٌ حسنةٌ حتّى ترجع إلى السُّنة أم لا ؟ فمنها : كتابةُ الحديث ، نهى عنه عمرُ وطائفةٌ مِنَ الصَّحابة ، ورخَّص فيها الأكثرون ، واستدلوا له بأحاديث من السُّنَّة.
    ومنها : كتابة تفسير الحديث والقرآن ، كرهه قومٌ من العُلماء ، ورخَّصَ فيه كثيرٌ منهم.
    وكذلك اختلافُهم في كتابة الرَّأي في الحلال والحرام ونحوه ، وفي توسِعَةِ الكلام في المعاملات وأعمالِ القلوب التي لم تُنقل عَنِ الصحابة والتابعين . وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك.
    وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعُلوم السلف يتعيَّن ضبطُ ما نُقِلَ عنهم مِنْ ذلك كلِّه ، ليتميَّزَ به ما كان من العلم موجوداً في زمانهم ، وما حدث من ذلك بعدَهم ، فيُعْلَم بذلك السنةُ من البدعة.
    وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال : إنَّكم قد أصبحتُم اليومَ على الفطرة ، وإنَّكم ستُحدِثونَ ويُحدَثُ لكم ، فإذا رأيتم محدثةً ، فعليكم بالهَدْيِ الأوّل. وابنُ مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين.
    وروى ابن مهدي ، عن مالك قال : لم يكن شيءٌ من هذه الأهواء في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان. وكأنَّ مالكاً يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرُّق في أُصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممَّن تكلَّم في تكفير المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، أو في تخليدهم في النار ، أو في تفسيق خواصِّ هذه الأمة ، أو عكس ذلك ، فزعم أنَّ المعاصي لا تضرُّ أهلَها ، أو أنَّه لا يدخلُ النَّار مِنْ أهل التوحيدِ أحدٌ.
    وأصعبُ من ذلك ما أُحدِث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره ، فكذب بذلك من كذب ، وزعم أنَّه نزَّه الله بذلك عن الظلم.
    وأصعبُ من ذلك ما أُحدِثَ مِنَ الكلام في ذات الله وصفاته ، ممَّا سكت عنهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتَّابعونَ لهم بإحسّانٍ ، فقومٌ نَفَوا كثيراً ممَّا ورَدَ في الكتاب والسُّنة من ذلك ، وزعموا أنَّهم فعلوه تنْزيهاً لله عمَّا تقتضي العقولُ تنْزيهه عنه ، وزعموا أنَّ لازِمَ ذلك مستحيلٌ على الله - عز وجل - ، وقومٌ لم يكتفوا بإثباته ، حتى أثبتوا بإثباتهِ ما يُظَنُّ أنَّه لازمٌ له بالنسبة إلى المخلوقين ، وهذه اللَّوازم نفياً وإثباتاً دَرَجَ صدْرُ الأمَّة على السُّكوت عنها.
    ومما أُحدِث في الأمة بعْدَ عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي ، وردُّ كثيرٍ ممَّا وردت به السُّنة في ذلك لمخالفته للرَّأي والأقيسة العقلية.
    ومما حدث بعد ذلك الكلامُ في الحقيقة بالذَّوق والكشف ، وزعم أنَّ الحقيقة تُنافي الشريعة ، وأنَّ المعرفة وحدَها تكفي مع المحبَّة ، وأنَّه لا حاجةَ إلى الأعمالِ ، وأنَّها حجابٌ ، أو أنَّ الشَّريعة إنَّما يحتاجُ إليها العوامُّ ، وربما انضمَّ إلى ذلك الكلامُ في الذَّات والصَّفات بما يعلم قطعاً مخالفتُه للكتاب والسُّنة ، وإجماع سلف الأمة ، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

    الحديث الثامن والعشرون Fasel10

    جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
    منتدى ميراث الرسول
    صلى الله عليه وسلم
    الحديث الثامن والعشرون E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 1:00 pm