بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة الحديث الشريف جامع العلوم والحكم
● [ تابع الحديث الحادي والثلاثون ] ●
عَنْ سهلِ بنِ سعْدٍ السَّاعِديِّ قال : جاءَ رجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ : يا رَسولَ الله دُلَّني عَلى عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي الله ، وأحَبَّنِي النَّاسُ ، فقال : ( ازهَدْ فِي الدُّنيا يُحِبَّكَ الله ، وازهَدْ فيمَا في أيدي النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ ) . حديثٌ حسنٌ رَواهُ ابنُ ماجه (1) وغيرُهُ بأسانِيدَ حَسَنةٍ. وقد اختلف العلماء : أيُّما أفضلُ : من طلبَ الدُّنيا منَ الحلال ، ليصل رحمَه ، ويقدِّم منها لنفسه ، أم من تركها فلم يطلبها بالكُليَّة ؟ فرجَّحت طائفةٌ من تركها وجانبها ، منهم : الحسن وغيره ، ورجَّحت طائفةٌ من طلبها على ذلك الوجه ، منهم : النخعي وغيره ، وروي عن الحسن عنه نحوه. والزَّاهدون في الدُّنيا بقلوبهم لهم ملاحظُ ومشاهدُ يشهدونها ، فمنهم من يشهدُ كثرةَ التَّعب بالسَّعي في تحصيلها ، فهو يزهدُ فيها قصداً لراحةِ نفسه . قال الحسن : الزُّهد في الدُّنيا يُريح القلب والبدن. ومنهم من يخافُ أنْ ينقصَ حظُّه من الآخرة بأخذ فضولِ الدُّنيا . ومنهم من يخافُ من طُولِ الحساب عليها ، قال بعضهم : من سأل الله الدُّنيا ، فإنَّما يسأل طولَ الوُقوفِ للحساب. ومنهم من يشهدُ كثرةَ عُيوبِ الدُّنيا ، وسرعة تقلُّبها وفنائها ، ومزاحمةَ الأراذِلِ في طلبها ، كما قيل لبعضهم : ما الذي زهَّدكَ في الدُّنيا ؟ قالَ : قلَّةُ وفائها ، وكثرةُ جفائها ، وخسة شُركائها. ومنهم من كان ينظر إلى حقارةِ الدُّنيا عند الله ، فيقذرها ، كما قال الفضيلُ : لو أنَّ الدُّنيا بحذافيرها عرضت عليَّ حلالاً لا أحاسب بها في الآخرة ، لكنت أتقذرها كما يتقذر الرَّجلُ الجيفةَ إذا مرَّ بها أنْ تصيبَ ثوبه. ومنهم من كان يخافُ أنْ تشغلَه عن الاستعدادِ للآخرة والتزوُّدِ لها . قال الحسن : إنْ كان أحدهم ليعيش عمره مجهوداً شديدَ الجهد ، والمالُ الحلال إلى جنبه ، يقال له : ألا تأتي هذا فتُصيب منه ؟ فيقول : لا والله لا أفعل ، إنِّي أخافُ أنْ آتيه ، فأصيبَ منه ، فيكون فسادَ قلبي وعملي. وبُعِثَ إلى عمر بن المنكدر بمالٍ ، فبكى ، واشتدَّ بكاؤه ، وقال : خشيت أنْ تغلب الدُّنيا على قلبي ، فلا يكون للآخرة فيه نصيب ، فذلك الذي أبكاني ، ثم أمر به ، فتُصُدِّقَ به على فقراء أهل المدينة. وخواص هؤلاء يخشى أنْ يشتغلَ بها عن اللهِ ، كما قالت رابعة : ما أحبُّ أنَّ لي الدُّنيا كلَّها مِنْ أوَّلها إلى آخرها حلالاً ، وأنا أنفقُها في سبيل الله ، وأنَّها شغلتني عنِ الله طرفةَ عينٍ. وقال أبو سليمان : الزهد ترك ما يشغل عن الله. وقال : كلُّ ما شغلك عن اللهِ مِنْ أهلٍ ومالٍ وولدٍ ، فهو مشؤوم. وقال : أهلُ الزُّهد في الدُّنيا على طبقتين : منهم من يزهدُ في الدُّنيا ، فلا يُفْتَحُ له فيها روح الآخرة ، ومنهم من إذا زَهِدَ فيها ، فُتحَ له فيها روحُ الآخرة، فليس شيءٌ أحبَّ إليه من البقاء ليطيع الله. وقال : ليس الزاهد من ألقى همومَ الدُّنيا ، واستراح منها ، إنَّما الزَّاهد من زَهِدَ في الدُّنيا ، وتعب فيها للآخرة. فالزُّهد في الدُّنيا يُرادُ به تفريغُ القلب منَ الاشتغال بها ؛ ليتفرَّغ لِطلب الله ، ومعرفته ، والقرب منه ، والأُنس به ، والشَّوقِ إلى لقائه ، وهذه الأمورُ ليست مِنَ الدُّنيا كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( حُبِّبَ إلي من دُنياكم النِّساءُ والطِّيبُ ، وجُعلت قرَّةُ عيني في الصَّلاة )، ولم يجعل الصَّلاةَ ممَّا حُبِّبَ إليه مِنَ الدُّنيا ، كذا في " المسند " و" النسائي "، وأظنُّه وقع في غيرهما : ( حبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث )، فأدخل الصلاة في الدُّنيا ، ويشهدُ لذلك حديث : ( الدُّنيا ملعونةٌ ، ملعونٌ ما فيها ، إلاَّ ذكر الله وما والاه ، أو عالماً أو متعلماً ) خرَّجه ابن ماجه والترمذي، وحسَّنه من حديث أبي هريرة مرفوعاً . وروي نحوه من غير وجه مرسلاً ومتصلاً. وخرَّج الطبراني من حديث أبي الدرداء مرفوعاً قال : ( الدُّنيا ملعونةٌ ، ملعونٌ ما فيها إلا ما ابتُغِيَ به وجه الله ) . وخرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا موقوفاً ، وخرَّجه أيضاً من رواية شهر بن حوشب، عن عبادة ، أراه رفعه ، قال : ( يُؤتى بالدُّنيا يومَ القيامة ، فيقال : مِيزوا منها ما كان لله - عز وجل - ، وألقوا سائرها في النار ). فالدُّنيا وكلُّ ما فيها ملعونة ، أي : مُبعدَةٌ عن الله ؛ لأنَّها تَشغلُ عنه ، إلاَّ العلمَ النَّافع الدَّالَّ على الله ، وعلى معرفته ، وطلب قُرْبِه ورضاه ، وذكر الله وما والاه ممَّا يُقَرِّبُ مِنَ الله ، فهذا هو المقصودُ مِنَ الدُّنيا ، فإنَّ الله إنَّما أمرَ عبادَه بأنْ يتَّقوه ويُطيعوه ، ولازِمُ ذلك دوامُ ذكره ، كما قال ابن مسعود : تقوى الله حقّ تقواه أنْ يُذكَرَ فلا يُنسى. وإنَّما شرعَ الله أقام الصَّلاةِ لذكره ، وكذلك الحج والطَّواف . وأفضلُ أهل العبادات أكثرُهم ذكراً لله فيها ، فهذا كلُّه ليس مِنَ الدُّنيا المذمومة ، وهو المقصودُ من إيجاد الدُّنيا وأهلها ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }. وقد ظنَّ طوائفُ مِنَ الفقهاء والصُّوفيَّة أنَّ ما يُوجدُ في الدُّنيا مِنْ هذه العبادات أفضلُ ممَّا يُوجد في الجنَّة مِنَ النَّعيم ، قالوا : لأنَّ نعيمَ الجنَّةِ حقُّ العبد ، والعباداتُ في الدُّنيا حقُّ الربِّ ، وحقُّ الربِّ أفضلُ من حظِّ العبد ، وهذا غلطٌ ، ويقوِّي غلطَهم قولُ كثيرٍ من المفسِّرين في قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } قالوا : الحسنةُ : لا إله إلا الله ، وليس شيءٌ خيراً منها . ولكنَّ الكلامَ على التَّقديم والتَّأخير ، والمراد : فله منها خيرٌ ، أي : له خيرٌ بسببها ولأجلها. والصَّوابُ إطلاقُ ما جاءت به نصوصُ الكتاب والسُّنة أنَّ الآخرة خيرٌ مِنَ الأُولى مطلقاً . وفي " صحيح الحاكم " عن المستورد بن شدَّادٍ ، قال : كنَّا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فتذاكروا الدُّنيا والآخرة ، فقال بعضهم : إنَّما الدُّنيا بلاغٌ للآخرة ، وفيها العمل ، وفيها الصلاةُ ، وفيها الزَّكاةُ . وقالت طائفة منهم : الآخرةُ فيها الجنَّةُ ، وقالوا ما شاء الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما الدُّنيا في الآخرة إلاَّ كما يَمشي أحدكم إلى اليمِّ ، فأدخل إصبعه فيه ، فما خرج منه ، فهو الدُّنيا ) ، فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدُّنيا ، وما فيها من الأعمال. ووجه ذلك : أنَّ كمالَ الدُّنيا إنَّما هو في العلم والعمل ، والعلمُ مقصودُ الأعمالِ ، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبةَ لِمَا في الدُّنيا إليه ، فإنَّ العلم أصلُه العلمُ بالله وأسمائه وصفاته ، وفي الآخرة ينكشفُ الغِطاءُ ، ويصيرُ الخبر عياناً ، ويصيرُ علمُ اليقين عينَ اليقين ، وتصيرُ المعرفةُ بالله رؤيةً له ومشاهدةً ، فأين هذا مما في الدُّنيا ؟ وأما الأعمال البدنية ، فإنَّ لها في الدُّنيا مقصدين : أحدهما : اشتغالُ الجوارح بالطَّاعة ، وكدُّها بالعبادة. والثاني : اتِّصالُ القلوب بالله وتنويرُها بذكره. فالأوَّلُ قد رُفعَ عن أهل الجنَّة ، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همُّوا بالسُّجودِ لله عند تجلِّيه لهم يقال لهم : ارفعوا رؤوسكم فإنَّكم لستم في دار مجاهدة. وأما المقصود الثاني ، فحاصلٌ لأهل الجنَّة على أكمل الوُجُوهِ وأتمِّها ، ولا نسبةَ لما حصل لقلوبهم في الدُّنيا من لطائف القُرْبِ والأنس والاتِّصال إلى ما يُشاهدونه في الآخرة عياناً ، فتتنعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقرْبِ الله ورؤيته ، وسماع كلامه ، ولاسيما في أوقات الصَّلوات في الدُّنيا ، كالجُمَع والأعياد ، والمقرَّبون منهم يحصلُ ذلك لهم كلَّ يومٍ مرَّتين بكرةً وعشياً في وقت صلاة الصُّبح وصلاة العصر ، ولهذا لمَّا ذكرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهل الجنَّةِ يرونَ ربَّهم حضَّ عقيب ذلك على المحافظة على صلاةِ العصر وصلاة الفجر ؛ لأنَّ وقت هاتين الصَّلاتين وقتٌ لرؤية خواصِّ أهلِ الجنَّةِ ربَّهم وزيارتهم لهُ ، وكذلك نعيمُ الذِّكر وتلاوةُ القرآن لا ينقطعُ عنهم أبداً ، فيُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمونَ النَّفسَ . قالَ ابنُ عيينة : لا إله إلا الله لأهلِ الجنَّة ، كالماء البارد لأهل الدُّنيا ، فأينَّ لذَّة الذِّكرِ للعارفين في الدُّنيا مِنْ لذَّتهم به في الجنَّة. فتبيَّن بهذا أن قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } على ظاهره ، فإنَّ ثواب كلمة التَّوحيد في الدُّنيا أنْ يصِلَ صاحبها إلى قولها في الجَنَّةِ على الوجه الذي يختصُّ به أهل الجنّةِ. وبكلِّ حال ، فالذي يحصُلُ لأهلِ الجنَّةِ مِنْ تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ومن قُربه ومشاهدته ولذَّةِ ذكره ، هو أمرٌ لا يمكنُ التَّعبيرُ عن كُنهه في الدُّنيا ؛ لأنَّ أهلها لم يُدرِكوه على وجهه ، بل هو ممَّا لا عينٌ رأت ، ولا أُذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشرٍ ، والله تعالى المسؤول أنْ لا يَحْرِمنا خيرَ ما عنده بشرِّ ما عندنا بمنِّه وكرمه ورحمته آمين. ولنرجع إلى شرح حديث : ( ازهد في الدُّنيا يحبَّك الله )، فهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ الله يحبُّ الزاهدين في الدُّنيا ، قال بعض السَّلف : قال الحواريون لعيسى - عليه السلام - : يا روحَ الله ، علِّمنا عملاً واحداً يُحبُّنا الله - عز وجل - عليهِ ، قالَ : أبغِضُوا الدُّنيا يحبكُم الله - عز وجل -. وقد ذمَّ الله تعالى من يحبُّ الدُّنيا ويؤثِرُها على الآخرة ، كما قال : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ }، وقال : { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً }، وقال : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }، والمراد حبُّ المال ، فإذا ذمَّ من أحبَّ الدُّنيا دلَّ على مدحِ مَنْ لا يحبُّها ، بل يرفُضها ويترُكُها. وفي " المسند " و" صحيح ابن حبان " عن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أحبَّ دُنياه أضرَّ بآخرته ، ومن أحبَّ آخرتَه ، أضرَّ بدُنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ). وفي " المسند " و" سنن ابن ماجه " عن زيد بن ثابت ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من كانت الدُّنيا همه ، فرَّق الله عليه أمره ، وجعل فقرَه بين عينيه ، ولم يأته من الدُّنيا إلا ما كُتب له ، ومن كانت الآخرة نيَّتَه ، جمعَ الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ ) . وخرَّجه الترمذي من حديث أنس مرفوعاً بمعناه. ومن كلام جندب بن عبد الله الصَّحابي : حبُّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ، وروي مرفوعاً ، ورُوي عن الحسن مرسلاً. قال الحسن : من أحبَّ الدُّنيا وسرَّته ، خرج حبُّ الآخرة من قلبه. وقال عونُ بن عبد الله : الدُّنيا والآخرةُ في القلب ككفَّتي الميزان بِقَدْرِ ما ترجحُ إحداهُما تخِفُّ الأخرى. وقال وهب : إنَّما الدُّنيا والآخرة كرجلٍ له امرأتانِ : إنْ أرضى إحداهما أسخط الأخرى. وبكلِّ حالٍ ، فالزُّهد في الدُّنيا شعارُ أنبياءِ الله وأوليائه وأحبَّائه ، قال عمرو بن العاص : ما أبعدَ هديكُم مِنْ هدي نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - ، إنّه كان أزهدَ النَّاس في الدُّنيا ، وأنتم أرغبُ الناس فيها ، خرَّجه الإمام أحمد. وقال ابن مسعود لأصحابه : أنتم أكثرُ صوماً وصلاةً وجهاداً من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهُمْ كانوا خيراً منكم ، قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : كانوا أزهدَ منكم في الدُّنيا ، وأرغب منكم في الآخرة. وقال أبو الدَّرداء : لَئِنْ حَلفتُمْ لِي على رجلٍ أنَّه أزهدُكم ، لأحلفنَّ لكم أنَّه خيرُكم. ويروى عن الحسن ، قال : قالوا : يا رسول الله ، من خيرُنا ؟ قال : ( أزهدُكم في الدُّنيا ، وأرغبُكم في الآخرة ) والكلام في هذا الباب يطولُ جداً . وفيما أشرنا إليه كفاية إنْ شاء الله تعالى. الوصية الثانية : الزهدُ فيما في أيدي الناس، وأنَّه موجبٌ لمحبَّة الناس. وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى رجلاً ، فقالَ: ( ايأَسْ ممَّا في أيدي النَّاس تكُن غنياً ) خرَّجه الطبراني وغيره. ويروى من حديث سهل بن سعد مرفوعاً : ( شرف المؤمن قيامُه بالليل ، وعزُّه استغناؤُه عن الناسِ ). وقال الحسن : لا تزالُ كريماً على الناس ، أو لا يزالُ الناسُ يكرمُونَك ما لم تَعاطَ ما في أيديهم ، فإذا فعلتَ ذلك ، استخفُّوا بكَ ، وكرهوا حديثك ، وأبغضوك. وقال أيوب السَّختياني : لا يَنْبُلُ الرجلُ حتى تكونَ فيه خصلتان : العفَّةُ عمَّا في أيدي الناس ، والتجاوزُ عمّا يكون منهم. وكان عمر يقول في خطبته على المنبر : إنَّ الطمع فقر ، وإنَّ اليأس غنى ، وإنَّ الإنسانَ إذا أَيِسَ من الشيء استغنى عنه. وروي أنَّ عبد الله بن سلام لقيَ كعب الأحبار عند عمر ، فقال : يا كعب ، مَنْ أربابُ العلم ؟ قال : الذين يعملون به ، قال : فما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد إذ حفظوه وعقلوه ؟ قال : يُذهبه الطمعُ ، وشرَهُ النفس ، وتطلبُ الحاجات إلى النَّاس ، قال : صدقت. وقد تكاثرت الأحاديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم ، فمن سألَ النّاس ما بأيديهم ، كرهوه وأبغضوه ؛ لأنَّ المال محبوبٌ لنفوس بني آدم ، فمن طلب منهم ما يحبُّونه ، كرهوه لذلك. وأما من كان يرى المِنَّة للسائل عليه ، ويرى أنَّه لو خرج له عن مُلكِه كُلِّه ، لم يفِ له ببذل سؤاله له وذِلَّته له ، أو كان يقول لأهله : ثِيابُكم على غيركم أحسن منها عليكم ، ودوابُّكم تحتَ غيركم أحسن منها تحتكم ، فهذا نادرٌ جداً من طباع بني آدم ، وقد انطوى بساطُ ذلك من أزمانٍ متطاولةٍ. وأما من زهد فيما في أيدي الناس ، وعفَّ عنهم ، فإنَّهم يحبُّونه ويُكرمونه لذلك ويسود به عليهم ، كما قال أعرابيٌّ لأهل البصرة : من سيِّدُ أهل هذه القرية ؟ قالوا : الحسن ، قال : بما سادهم ؟ قالوا : احتاجَ الناسُ إلى علمه ، واستغنى هو عن دنياهم، وما أحسن قول بعض السَّلف في وصف الدُّنيا وأهلها : وما هِيَ إلاَّ جِيفةٌ مستحيلةٌ ● عليها كلابٌ هَمُّهُنَّ اجتذابُها فإنْ تَجْتَنبها كنتَ سِلْماً لأهلها ● وإنْ تجتذبها نازعتك كِلابُها
جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي منتدى ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم