من طرف بص وطل الأحد أبريل 15, 2018 6:41 pm
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة التاريخ
عجائب الآثار
الجزء الأول
{ الفصل الثاني }
في ذكر حوادث مصر وولاتها واعيانها ووفيات
فى سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة
{ احداث شهر رمضان سنة 1220 }
واستهل شهر رمضان بيوم السبت وفي هذا اليوم شح وجود اللحم وغلا سعره لعدم المواشي وتوالى الظلم والعسف والفرد والكلف على القرى والبلاد حتى بلغ الرطل اللحم الجفيط الهزيل خمسة وعشرين نصفا أن وجد والجاموسي اثني عشر نصفا وامتنع وجود الضاني بالاسواق بالكلية رأسا ولما استهل رمضان انكب الناس على من يوجد من الجزارين اللحم الخشن وكذلك شح وجود السمن وعدم بالكلية واذا وجد منه شىء خطفه العسكر وذهبوا به الى سوق انبابة يوم السبت اول رمضان ونهبوا ما وجدوه مع الفلاحين من الزبد والجبن وغير ذلك وزاد فحشهم وقبحهم وتسلطهم على ايذاء الناس وكثروا بالبلد وانحشروا من كل جهة وتسلطوا على تزوج النساء قهرا اللاتي مات ازواجها من الامراء المصرلية ومن ابت عليهم اخدوا ما بيدها من الالتزام والايراد واخرجوها من دارها ونهبوا متاعها فما يسمعها الا الاجابة والرضا بالقضاء وتزوج بعضهم بزوجة حسن بك الجداوي وهي بنت احمد بك شنن وامثالها ولم ينفعهن الهروب ولا الاختفاء ولا الالتجاء وتزيوا بزي المصريين في ملابسهم وركبوا الخيول المسومة بالسروج المذهبة والقلاعيات والرخوت المكلفة واحدق بهم الخدم والاتباع والقواسة والسواس والمقدمون ووصل كل صعلوك منهم لما لا يخطر على باله او يتوهمه أن يتخيله ولا في عالم الرؤيا مع انحراف الطبع والجهل المركب وعمى البصيرة والفظاظة والقساوة والتجارى وعدم الدين والحياء والخشية والمروءة ومنهم من تزوج الاثنتين والثلاث وصار له عدة دور وفيه تواترت الاخبار بما حصل لياسين بك وانه بعد انهزامه هرب بجماعة قليلة وذهب عند سليمان بك المرادي وانضم اليه
وفي ثالث عشره نهبوا بيت ياسين بك المذكور واخذوا ما فيه ونفوا محمد افندي اباه وانزلوه في مركب وذهبوا به الى بحرى وقيل انهم قتلوه
وفيه وردت الاخبار بانه غرق بمينا الاسكندرية احد عشر غليونا من الكبار وذلك انه في اواخر شعبان هبت رياح غربية عاصفة ليلا فقطعت مراسي المراكب ودفعتها الرياح الى البر فانكسرت وتلف ما فيها من الاموال والانفس ولم ينج منها الا القليل وكذلك تلف ثمان واربعون مركبا واصلة من بلاد الشام الى دمياط ببضائع التجار
وفيه حضر جماعة من الألفية الى بر الجيزة وطلبوا كلفا من اقليم الجيزة وقبضوها ورجعوا الى الفيوم ومضى في اثرهم عربان اولاد علي من ناحية البحيرة وعاثوا باراضي الجيزة فعينوا لهم طاهر باشا الذي كان مسافرا الى بلاد الحجاز وخرج بعساكره وخيامه وموكبه الى خارج باب النصر ونصب وطاقة وصار يضرب في كل ليلة مدافعه وطلبه ونوبته واستمر مقيما على ذلك نحو ثلاثة شهور وهم يجمعون له الأموال ويفردون الفرد على الأقاليم ويقولون برسم تشهير العسكر المسافر للخوارج واستخلاص البلاد الحجازية من ايديهم ولم يزالوا يحتجون بعدم اخذ النفقة وفي كل يوم يتسللون شيئا بعد شىء ويدخلون الى المدينة ويتفرقون الى الجهات حتى لم يبق منهم الا القليل ثم انهم ارتحلوا من مخيمهم بحجة العرب وطردهم من الجيزة فلما عادوا الى الجيزة دخلوا الى دورها وسكنوها غصبا عن اهلها واستولوا على فراشهم ومتاعهم ولم يخرج منهم احد للعرب ولم يتعدوا خارج السور وبطل امر السفرة المذكورة
وفي تاسع عشره ارسل محمد علي من قبض على الاغا الشمعدانجي وعثمان أغا كتخذا بك سابقا وقت المغرب وانزلوهما الى بولاق في مركب وذهبوا بهما يقال انهم قتلوهما ومعهما اثنان أيضا من كبار العسكر ولم يعلم سبب ذلك وانزلوا حصصهم في المزاد
وفيه فتحوا طلب الميري من الملتزمين عن سنة احدى وعشرين مع أن سنة تاريخه لم يستحق منها الثلث وكانوا فتحوها معجلة لقدر الاضتياج وقبضوا نصفها وطلبوا النصف الاخر بعد اربعة اشهر واما هذا فطلبوها بالكامل قبل اوانها بسنة وخصوصا في شهر رمضان مع الناس فيه من ضيق المعاش وغلو الاسعار في كل شىء بل وعدم وجود الاقوات ووقوف العسكر خارج المدينة يخطفون ما ياتي به الفلاحون من السمن والجبن والتبن والبيض وغير ذلك ومن دونهم العرب ومثل ذلك في البحر والمراكب حتى امتنع وجود المجلوبات برا وبحرا وطلبوا المراكب لسفر العساكر بالتجاريد فتسامع القادمون فوقفوا عن القدوم خوفا من النهب والتسخير ولم يبق بسواحل البحر مركب ولا قارب وبطل ديوان العشور ووصل سعر العشرة ارطال السمن ستمائة نصف فضه ان وجد والعشرة من البيض بخمسة عشر فضة أن وجد والدجاجة بأربعين نصفا والرطل الصابون بستين نصفا ولم يزل يتزايد حتى وصل الرطل الى مائة وعشرين والراوية الماء باربعين نصفا والرطل القشطة بستين نصفا والرطل من السمك الطري بستة عشر نصفا والقديد المملوح بعشرة انصاف وقد كان يباع بنصفين وبالعدد من غير وزن والحوت الفسيخ باربعين نصفا وقس على ذلك
وفي عشرينه رجع خازندار طاهر باشا الى جهة العادلية ثانيا ومعه جملة من العسكر وصاروا يضربون في كل ليلة مدفعين واستمر طاهر باشا بالجيزة
وفيه كتب محمد علي باشا مكاتبة الى الامراء القبالي وارسل بها مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي ليصطلحوا على امر
وفيه وصل أيضا جماعة من الألفية الى جهة سقارة وبلاد الجيزة وطلبوا منها كلفة ودراهم فامر محمد علي بخروج العساكر فتلكؤا واحتجوا بطلب العلوفة فعزم على الخروج بنفسه
فلما كان ليلة الاربعاء سادس عشرينه طلب كبار العساكر وركب معهم الى مصر القديمة وشرعوا في التعدية بطول الليل وهم محمد علي وعسكره وخواصه وعابدي بك وعمر بك وصالح قوش والدلاة وكبيرهم وعلي كاشف الذي تزوج بنت شنن واتباعه في تجمل وكبير الدلاة وطائفته وركب الجميع وقت الشروق وبرزوا الى الفضاء وانفرد كل كبير بعسكره خمسة طوابير وستة ونظروا على البعد منهم فرأوا خيالة من العربان وغيرهم متفرقين كل جماعة في ناحية فحمل كل طابور على جماعة منهم فانهزموا امامهم فساقوا خلفهم فخرج عليهم كمائن من خلفهم ووقع بينهم الضراب وحمل علي كاشف وآخر يقال له اوزى في جماعتهم فراوه مجملا فظنوه محمد علي فاحتاطوا به وتكاثروا عليه واخذوه اسيرا هو ومن ومعه وفر من نجا منهم ووقعت فيهم الهزيمة ورجع الجميع القهقري وعدوا الى بر مصر من غير تأخير وذهب من الارنؤد طائفة الى الاخصام وانضموا اليهم
وفي هذه الايام وقع بين اهل الازهر منافسات بسبب امور واغراض نفسانية يطول شرحها وتحزبوا حزبين حزب مع الشيخ عبدالله الشرقاوي وحزب مع الشيخ محمد الامير وهم الاكثر وجعلوا الامير ناظرا على الجامع وكتبوا له تقريرا بذلك من القاضي وختم عليه المشايخ والشيخ السادات والسيد عمر افندي النقيب وكانت النظارة شاغرة من ايام الفرنسيس وكان يتقلدها احد الامراء فلما خرج الامراء من مصر صارت تابعة للمشيخة لوقت تاريخه فانفعل لذلك الشيخ الشرقاوي ولما فعلوا ذلك اجتهد الشيخ الامير في النظر لخدمة الجامع بنفسه وبابنه واحضر الخدمة وكنسوا الجامع وغسلوا صحنه ومسحوه وفرشوا المقصورة بالحصر الجدد وعلقوا قناديل البوائك وصار كل يوم يقف على الخدمة ويأمرهم بالتنظيف وغسل الميضاة والمراحيض وامر بغلق الابواب من بعد صلاة العشاء ما عدا الباب الكبير ورتبوا له بوابا وطردوا من يبيت به من الاغراب الذين يتلفون بالحصر ويلوثونها ببولهم وغائطهم ونحو ذلك
وفي غايتة ليلة الاحد التي هي ليلة العيد عدى طائفة من العسكر الى بر الجيزة وانضموا الى الاخصام وحصل في العسكر ارتجاج واختلافات وعملوا شنكا في تلك الليلة في الازبكية بعدما اثبتوا هلال شوال بعد العشاء الاخيرة وقد كانوا اسرجوا المساجد وصلوا التراويح ثم اطفؤا المنارات في ثالث ساعة من الليل
{ أحداث شهر شوال سنة 1220 }
شهر شوال استهل بيوم الاحد المذكور وجميع الامور مرتبكة والحال على ما هو عليه من الاضطراب ولم يحصل في شهر رمضان للناس جمع حواس ولا حظوظ ولا امن وانكف الناس عن المرور في الشوارع ليلا خوفا من اذية العسكر وفي كل وقت يسمع الانسان اخبار ونكات وقبائح من افاعيلهم من الخطف والقتل وأذية الناس
وفي رابعه قلدوا مناصب كشوفات الاقاليم وتهيؤا للذهاب وعملوا قوائم فرد ومظالم على البلاد خلاف ما تقدم وخلاف ما ياخذه الكشاف لانفسهم وما يأخذونه قبل نزولهم وذلك انه عندما يترشح الشخص منهم لتقليد المنصب يرسل من طرفه معينين الى الاقليم الذي سيتولي عليه باوراق البشارات وحق طرق باسم المعينين اما عشرين الفا او اكثر او اقل فاذا قبضوا ذلك اتبعوها باوراق اخرى ويسمونها اوراق تقبيل اليد وفيها مثل ذلك واكثر او اقل ثم كذلك اوراق لبس القفطان ونحو ذلك وقد يتفق بعد ذلك جميعه انه يتولى خلافه ويستأنف العمل الى غير ذلك هذا وكتخذا بك مستمر في سرحاته بالاقاليم وجمع الاموال والعسف والجور مرة بالمنوفية ومرة بالغربية ومرة بالشرقية ولا يقرر الا الاكياس من الشهريات والمغارم وحق الطرق والاستعجالات المترادفة مما لا يحيط به دفتر ولا كتاب
وفي ثامنه توفي ابراهيم افندي كاتب البهار وترك ولدا صغيرا فقلدوا مملوكه حسنا في منصبه وكيلا عن ولده
وفي هذه الايام كثر تحرك العسكر والمناداة عليهم بالخروج الى نواحي طرا والجيزة وذلك بسبب أن بعض الالفية عدى الى ناحية الشرق واخذوا كلفا من البلاد وبعضهم وصل الى وردان بالبر الغربي
وفي عاشره حضر جملة من الدالاتية وغيرهم من ناحية الشام فمنهم من حضر في البحر على دمياط ومنهم من حضر في البر وعدى طاهر باشا الذي كان مسافرا على جدة
وفيه أيضا سافرت القافلة المتوجهة الى السويس وصحبتها نحو المائتين من العسكر وعليهم كبير من طرف طاهر باشا بدلا عنه وسافر صحبتهم حسن افندي القاضى المنفصل ليكون قاضيا بمكة حسب القانون
وفي خامس عشره وصلت قوافل التجار من السويس فأرسل محمد علي وفتح الحواصل واراد اخذ بضائع التجار وفروق البن فانزعج التجار بوكائل الجمالية وغيرها وذلك بعد أن دفعوا عشورها ونو لونها واجرها وما جعلوه عليها من المغرم السابقة وانحط الامر على المصالحة عن كل فرق خمسون ريالا ولم ينتطح في ذلك شاتان
وفي حادي وعشرينه حضر كتخدا بك الى مصر بعدما جمع الاموال من الاقاليم وفعل ما فعله من الفرد والمظالم الخارجة عن الحد
وفي يوم الاربعاء خامس وعشرينه توفي عثمان افندي العباسي
{ أحداث شهر ذي القعدة سنة 1220 }
شهر ذي القعدة استهل بيوم الثلاثاء والاجتهاد حاصل بخروج العسكر للتجريد في كل يوم ونصبوا عرضيهم ببر الجيزة وناحية طرا من ابتداء شعبان كما تقدم وفي كل يوم يخرجون طوائف ويعودون كذلك
وفي يوم الأربعاء تاسعه حضر مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وعلي جاويش الفلاح الذين كانوا تواجهوا الى قبلي لاجل الصلح وحضر صحبتهم نيف وثلاثون مركبا من السفار والمتسببين فيها غلال وادهان وجلود وتمر وغير ذلك ولم يعلم حقيقة ما حصل
وفي يوم الجمعة حادي عشره نودى على العسكر بالخروج من الغد بالتركي والعربي والتحذير من التأخير
وفي يوم الاحد رجع مصطفى أغا بجواب ثانيا هجانا من طريق البر
وفي يوم الاثنين رابع عشرة اخرجوا المحمل والكسوة وعين للسفر بهما من القلزم مصطفى جاويش العنتبلي ومعه صراف الصرة دفعوا له ربعها وثمنها وهذا لم يتفق نظيره
وفي يوم الثلاثاء خامس عشره ورد نحو السبعين ططريا ومعهم البشارة لمحمد علي باشا بوصول الاطواخ الى رودس ووصل معهم أيضا مراسيم بمنصب الدفتردارية الى سكندرية في ايام احمد باشا خورشيد وجانم افندى الدفتردار ومنعوه عنها وكتبوا في شأنه عرضا للدولة بعدم قبوله وان اهل البلد راضون على جانم افندي فلما حصل ما حصل لخورشيد باشا وعزل عن مصر وعزل أيضا جانم افندي حضر أيضا احمد افندي المذكور بمراسيم اخر وفيها الوكالة لسعيد أغا مجددة له ونظر الخاصكية لحافظ سليمان واستمر من ذلك الوقت بمصر فوصل اليه الامر بتقليد الدفتردارية وكان حسن افندي الروزنامجي هو المتقلد لذلك فلما كان يوم الخميس سابع عشره اجتمع بديوان محمد علي صالح أغا قابجي باشا وسعيد أغا ونقيب الاشراف وبعض المشايخ ولبس احمد افندي خلعة الدفتردارية وشرطوا عليه انه لا يحدث حوادث كغيره فان حصل منه شىء عزلوه وعرضوا في شأنه وقبل ذلك على نفسه
وفي يوم الجمعة ثامن عشره ارتحلت القافلة وصحبتها الكسوة والمحمل اواخر النهار من ناحية قايت باي بالصحراء وذهبوا الى جهة السويس ليسافروا من القلزم
وفيه وصلت الاخبار بان بونابارته كبير الفرنسيس ركب في جمع كبير واغار على بلاد النمساوية وحاربهم حربا عظيما وظهر عليهم وملك تختهم وقلاعهم وطلب ملكهم بعد خروجه من حصونه فأعاده لمملكته بعد ما شرط عليه شروطه وملك غير ذلك من القرانات والحصون ثم سار الى بلاد الموسقو ووقع بينه وبينهم هدنة على ثلاثة اشهر
وفي اليوم الاربعاء ثالث عشرينه خرج حسن باشا طاهر الى ناحية مصر القديمة
وفي يوم السبت سادس عشرينه حضر مبشرون بحصول مقتلة عظيمة وانهم اخدوا من الاخصام جملة عسكر اسرى ورؤوس فضربوا مدافع لذلك واظهروا السرور
وفي يوم الاحد وصلت الرؤوس والاسرى وهى احدى وعشرون رأسا وذراع مقطع وسبعة عشر اسيرا ليس فيهم من يعرف ولا من جنس الاجناد وغالبهم فلاحون فاعطى محمد علي لكل اسير نصف دينار واطلقهم ووضعوا الرؤوس والذراع عند باب زويلة
وفيه وصلت القافلة من السويس ووصل أيضا صحبتهم جنرال من الانكليز راكب في تخت وحملته ومتاعه على نحو سبعين جملا فذهب عند قنصلهم فلما كان يوم الاربعاء غايته ركب في التخت وذهب عند محمد علي بالازبكية فتلقاه وعمل له شنكا ومدافع وقدم له هدية وتقادم ثم رجع الى مكانه
{ أحداث شهر ذى الحجة سنة 1220 }
شهر ذى الحجة الحرام استهل بيوم الخميس فيه حضر مصطفى أعا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي من الجهة القبلية وقد تقدم انهما ذهبا وعادا ثم رجعا ثانيا على الهجن لتقرير الصلح ثم رجعا ولم يظهر اثر لذلك الصلح وحكى الناس عنهما أن المذكورين لما ذهبا الى اسيوط وجدا ابراهيم بك قد انتقل الى ناحية طحطا واجتمعا بعثمان بك حسن البرديسي فلم يرضيا بالتوجيه الذي وجه به اليهم وهو من حدود جرجا وقالا لا يكفينا الامن حدود المنية فان الفرنساوية كانوا اعطوا حكم البلاد القبلية من حدود المنية لمراد بك بمفرده فكيف انه يكفينا نحن الجميع من جرجا وشرطوا أيضا انه استقر الصلح على مطلوبهم لابد من اخلاء الاقليم من هذه العساكر الذين لايتحصل منهم الا الضرر والخراب والدمار والفساد ولايبقى الباشا منهم الا مقدار الفي عسكري وقالوا انه أيضا اذا لم يعطنا مطلوبنا فهو لايستغني عن اناس من العسكر يقيمون بالبلاد التي يبخل علينا بها فنحن اولى له واحسن منهم ونقوم بما على البلاد من المال والغلال وعند ذلك يحصل الامن وتسير المسافرون في المراكب وترد المتاجر والغلال ويحصل لنا وله الراحة واما اذا استمر الحال على هذا المنوال فانه لم يزل متعبا من كثرة العسكر ونفقاتهم وكذلك سائر البلاد على انه أن لم يرض بذلك فهاهي البلاد بايدينا والامر مستمر معنا ومعهم على التعب والنصب
وفي رابعه ورد الخبر بأن جماعة من كبار العسكر وفيهم سليمان أغا الارنؤدي الذي تولى كسوفية منفلوط ومعهم عدة وافرة من العسكر عدوا من المنية الى البر الشرقي بالمطاهرة بسبب ما عندهم من القحط وعدم الاقوات لاحاطة المصريين بهم فلما دخلوا الى بلدة المطاهرة وملكوها وصل اليهم بعض الامراء والاجناد المصرية واحاطوا بهم وحاربوهم ايام حتى ظهروا عليهم وقتلوا منهم وهرب من هرب وهو القليل واسروا الباقي وفيهم سليمان أغا المذكور فالتجاء الى بعض الاجناد فحماه من القتل وقابل به كبار الامراء فانعموا عليه بكسوة ودراهم وسلاح واقام معهم اياما ثم استأذنهم للعود وحضر الى مصر وجلس بداره
وفيه ورد الخبر أيضا بموت الامير بشتك بك المعروف بالالفي الصغير مبطونا
وفيه أيضا حضر حجاج الخضري الرميلاتي الى مصر وقد كان خرج من مصر بعد حادثة خورشيد باشا خوفا من العسكر وذهب الى بلدة بالمنوات ثم ذهب عند الألفي واقام في معسكره الى هذا الوقت ثم أن الألفي طرده لنكتة حصلت منه فرجع الى بلده وارسل الى السيد عمر فكتب له امانا من الباشا فحضر بذلك الامان وقابل الباشا وخلع عليه ونادوا له في خطته بانه على ما هو عليه في حرفته وصناعته ووجاهته بين اقرانه فصار يمشي في المدينة وبصحبته عسكري ملازم له
وفي يوم الجمعة تاسعه كان يوم الوقوف بعرفة وفي ذلك اليوم ركب محمد علي بالابهة الكاملة وصلى الجمعة بالمشهد الحسيني ولم يركب من وقت ولايته بالهيئة الا في هذا اليوم وفي عصر تلك الليلة ضربوا عدة مدافع من القلعة اعلاما بالعيد وكذلك في صبحها وفي كل وقت من لاوقت الخمسة مدة ايام التشريق
وفي رابع عشره حضر جاههين بك الألفي ومعه طوائف من العربان الى اقليم الجيزة واخذوا الكلف واغناما من البلاد ودراهم واشيع بذلك وامروا بخروج العساكر اليهم وركب محمد علي باشا في يوم الخميس وخرج الى ناحية بولاق وانزلوا من القلعة جبخانة ومدافع وطفقوا يخطفون الحمير من الاسواق أن وجدوها وعدى طائفة من العساكر الخيالة الى بر الجيزة وعدى طاهر باشا الى بر انبابة وصحبته عساكر كثيرة وازعجوا أهل القرية وخرجوهم من دورهم وسكنوا بها واطلقوا دوابهم وخيولهم على المزارع فأكلوها بأجمعها ولم يبقوا منها ولا عودا اخضر في ايام قليلة
وفيه اختفى حجاج الخضري أيضا بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر
وفي عشرينه شرع عساكر حسن باشا في التعدية من ناحية معادي الخبيري الى البر الاخر
وفي يوم الاحد خامس عشرينه عدى حسن باشا أيضا
وفي يوم الاثنين نودي في الاسواق على العساكر الذين لم يكونوا في قوائم العسكر الذين يقال لهم السير بالسفر والخروج الى بلادهم ومن وجد منهم بعد ثلاثة ايام قتل وكذلك كتبوا فرمانات وارسولها الى البلاد بمعنى ذلك ومن كان من اهل البلد او المغاربة او الاتراك بصورة العسكر ومتزييا بزيهم فلينزع ذلك وليرجع الى زيه الاول
وفيه أيضا نودي على المعاملة الناقصة لاتقبض الا بنقص ميزانها لان المعاملة فحش نقصها جدا وخصوصا الذهب البندقي الذي كان احسن اصناف العملة في الوزن والعيار والجودة فان العسكر تسلطوا عليه بالقص فيقصون من المشخص الواحد مقدار الربع او اكثر او اقل ويدفعونه في المشتروات ولايقدر المتسبب على رده او طلب ارش نقصه وكذلك الصيرفي لايقدر على رده او وزنه وقتل بذلك قتلى كثيرة واغلق الصيارف حوانيتهم وامتنعوا من الوزن خوفا من شرهم وكذلك نودي على التعامل في بيع البن بالريال المعاملة وهو تسعون نصفا وقد كان الاصطلاح في بيع البن بالفرانسة فقط وبلغ صرف الفرانسة مائة وثمانين نصفا ضعف الاول وعز وجوده لرغبة الناس فيه لسلامته من الغش والنقص لان جميع معاملة الكفار قولة السير هكذا في نسخ وفي بعض النسخ القبسير ولم نقف بعد المراجعة عليها كذ بهامش النسخة المطبوعة سالمة من الغش والنقص بخلاف معاملات المسلمين فإن الغالب على جميعها الزيف والخلط والغش والنقص فلما انطبعوا على ذلك ونظروا الى معاملات الكفار وسلامتها تسلطوا عليها بالقطع والتنقيص والتقصيص تتميما للغش والخسران والانحراف عن جميع الاديان وقال صلى الله عليه و سلم الدين المعاملة ومن غشنا فليس منا فيأخذون الريالات الفرانسة الى دار الضرب ويسبكونها ويزيدون عليها ثلاثة ارباعها تحاسا ! ويضربنونها قروشا يتعاملون بها ثم ينكشف حالها في مدة يسيرة وتصير نحاسا احمر من اقبح المعاملات شكلا ووضعا لافرق بينها وبين الفلوس النحاس التي كانت تصرف بالارطال في الدول المصرية السابقة في الكم والكيف بل تلك اجمل من هذه في الشكل وقد شاهدنا كثيرا منها وعليها اسماء الملوك المتقدمين ووزن الواحد منها نصف اوقية وكان الدرهم المتعامل به اذ ذاك من الفضة الخالصة على وزن الدرهم الشرعي ستة عشر قيراطا ويصرف بثلاثة ارطال من الفلوس النحاس فيكون صرف الدرهم الواحد اثنين وسبعين فلسا تستعمل في جميع المشتروات والمرتبات والمعاليم واللوازم للبيوت والجزئيات والمحروقات فلما زالت الدولة القلوونية وظهرت دولة الحراكسة واستقر الملك المؤيد شيخ في سلطنة مصر وبدا الاختلال اختصر الدرهم المتعامل به وجعله نصف درهم وهو ثمانية قراريط وسمي نصف مؤيدي ولم تزل تتناقص حتى صارت في اخر الدولة الجركسية اقل من ربع الدرهم واختل امر الفلوس النحاس والمرتبات والوظائف بالاوقاف المشروط فيها صرف المعاليم بالفلوس ولم يزل الحال يختل ويضعف بسبب الجور والطمع والغش وغباوة اولي الامر وعمي بصائهم عن المصالح العامة التي بها قوام النظام حتى تلاشى امر الدراهم جدا في الوزن والعيار وصار الدرهم المعبر عنه بالنصف اقل من العشر للدرهم وفيه من الفضة الخالصة نحو الربع فيكون في النصف الذي هو الان بدل الدرهم الاصلي من الفضة الخالصة اقل من ربع العشر فيكون في النصف الواحد من معاملتنا الان الذي وزنه خمس قمحات قيراط وربع ثلث قيراط من الفضة وذلك بدل عن ستة عشر قيراطا وهو الدرهم الاصلي الخالص فانظروا الى هذا الخسران الخفي الذي انمحقت به البركة في كل شئ فان الدرهم الفضة الان صار بمنزلة الفلس النحاس القديم فتأمل واحسب تجد الامر كذلك فاذا فرضنا أن انسانا اكتسب ألف درهم من دراهمنا هذه فكأنه اكتبسب خمسة وعشرين لاغير وهو ربع عشرها على انه اذا حسبنا قيمة الخمسة وعشرين في وقتنا هذا عن كل درهم ثلاثون نصفا فانها تبلغ سبعمائة وخمسين ويذهب الباقي وهو مائتان وخمسون هدرا واما الذهب فإن الدينار كان وزنه في الزمن الاول مثقالا من الذهب الخالص ثم صار في الدولة الفاطمية وما بعدها عشرين قيراطا وكان يصرف بثلاثين درهما من الفضة فلما نقص الدرهم زاد صرف الدينار الى أن استقر وزن الدينار في اوائل القرن الماضي ثلاثة عشر قيراطا ونصفا ويصرف بتسعين نصفا وهو المعبر عنه بالاشرفي والطرلي المعروف بالفندقلي يصرف بمائة وكانا جيدين في العيار وكذلك الانصاف العددية كانت اذذاك جيدة العيار والوزن وكان الريال يصرف بخمسين نصفا والريال الكلب باثنين واربعين نصفا ثم صار الدينار وهو المحبوب الجنزرلي بمائة وخمسين والفندقلي بمائة وعشرين والفرانسة بستين ثم حدث المحبوب الزر في ايام السلطان احمد بدلا عن الجنزرلي وغلا صرف الجنزرلي وكان في وزن المشخص وعياره ووزن الزر ثلاثة عشر قيراطا ونصف الى أن زاد الاختلال في ايام علي بك والمعلم رزق واستيلائه على دار الضرب والقروش واستعمل ضرب القروش واستكثر منها وزاد في غشها لكثرة المصاريف على العساكر والتجاريد والنفقات واستقر الاشرفي المعروف بالزر بمائة وعشرة والطرلي بمائة وستة واربعين والمشخص بمائتين والريال الفرانسة بخمسة وثمانين مدة من ايام علي بك وفحش وجود القروش المفردة وضعفها واجزاؤها حتى لم يبق بأيدي الناس من التعامل الا هي وعز باقي الاصناف المذكورة وطلبت للسبك والادخار صياغة الحلي فترقت في الصارفة والابدال فلما زالت دولة علي بيك وتملك محمد بك أبو الذهب نادى بابطال تلك القروش بأنواعها رأسا فخسر الناس خسارة عظيمة من اموالهم وباعوها بالارطال للسبك واقتصروا على ضرب الانصاف العددية والمحبوب الزر والنصفيات لاغير ونقصوا من وزنها وعيارها ونقصت فيمنها وغلت في المصارفة وزاد الحال بتوالي الحوادث والمحن والغلاء والغرامات وضيق المعاش وكساد البضائع وتساهلوا في زيادة المصارفة وخصوصا في ثمن السلع والمبايعات وخلاص الحقوق من المماطلين واقترن بذلك تغافل الحكام وجورهم وعدم التفاتهم لمصالح الرعية وطمعهم وتركهم النظر في العواقب الى أن تجاوزت في وقتنا هذا الحدود وبلغت في المصارفة اكثر من الضعف وصار صرف المحبوب مائتين وخمسة بل وعشرة والريال الفرانسة بمائة وخمسة وسبعين بل وثمانين والمشخص البندقي بأربعمائة واكثر والمجر بثلثمائة وستين والفندقلي بثلثمائة وعشرين وهو الجديد ويزيد القديم لجودة عياره عن الجديد وتتفاوت المثلية في المحبوب بجودة العيار فاذا ابدل السلمي الموجود الان بالمحمودي زيد في مصارفته اربعون نصفا واكثر بحسب الرغبة والاحتياج ويتفاوت أيضا المحمودي بمثله فيزيد أبو وردة عن الراغب ويزيد الراغب عن الذي فيه حرف العين ويكون المحبوبان في تحويل المعاملة بدلا عن المشخص الواحد مع أن وزنهما سبعة وعشرون قيراطا ووزن المشخص ثمانية عشر قيراطا فالتفاوت بينهما تسعة قراريط وهي مافيه من الخلط وغير ذلك مما يطول شرحه ويعسر تحقيقه وضبطه ولم يزل امر المعاملة وزيادة صرفها واتلاف نقودها واضطرابها مستمر او كل قليل ينادون عليها مناداة بحسب اغراضهم لا نسمع ولا تقبل ولا يلتفت اليها لأن اصل الكدر منبعث عنهم ومنحدر عن مجراة خبائثم وفسادهم
وفي اخره اذن الباشا لولده الكبير بالذهاب لزيارة سيدي احمد البدوي رضي الله عنه بطندتا وعين صحبته اتباعا وعسكرا وهجنا وقرر دراهم على البلاد ألف ريال فما دونها خلاف الكلف وكذلك سافر حريمات ورئيسهن حريم مصطفى أغا الوكيل في هيئة لم يسبق مثلها في تختروانات وعربات ومواهي واحمال وجمال وعسكر وخدم وفراسين وفرضوا لهن أيضا مقررات على البلاد وكلفا ونحو ذلك واظن أن هذه المحدثات من اهوال القيامة
وانقضت السنة وما حصل فيها من الحوادث والانذارات
{ من مات فى هذه السنة }
ومات فيها الامام العلامة والبحر الفهامة صدر المدرسين وعمدة المحققين مفتي الحنفية بالديار المصرية الشيخ محمد عبد المعطي ابن الشيخ احمد الحريري الحنفي ولد سنة ثلاث واربعين ومائة والف ونشا في عفة وصلاح وحفظ القرآن وجوده وحفظ المتون وحضر اشياخ العصر وجود الخط وكان ينسخ بالأجرة وكتب كتبا كثيرة وخطه في غاية الصحة والجودة وغالبها في الادبيات كالريحانة وخبايا الزوايا وخزانة الادب والتي بخطة من ذلك في غاية الحسن والقبول وكان شافعي المذهب ثم تحنف وحضر على اشياخ المذهب مثل الشيخ محمد الدلجي والشيخ محمد العدوى ولازم الشيخ حسن المقدسي ملازمة كلية وانتسب اليه وعرف به وحضر عليه وتلقى عنه غالب الكتب المشهورة في المذهب وحضر باقي العلوم على الشيخ الملوى والحفني والشيخ علي العدوي وغيرهم وكان يكتب الاجوبة على الفتاوى عن لسانه ولما توفي شيخه المذكور تقرر مكانه في وظيفة الخطابة والامامة بجامع عثمان كتخدا بالازبكية وسكن بالدار المشروطة له بها السكنى برحاب الجامع المذكور وكانت خطبه في غاية الخفة والاختصار ولوعظه وقع في النفوس لخلوه عن التصنع ولما مات الشيخ احمد الدمنهوري في سنة اثنتين وتسعين ومائة والف وحصل ما حصل للشيخ عبدالرحمن العريشي كما تقدم تعين المترجم لمشيخة الحنفية والفتوى عوضا عن المذكور قبل وفاته بأيام قليلة وكان اهلا لذلك وكفالة وسار فيها سيرا حسنا بحشمة واشتهر ذكره وقصدته الناس للفتوى والافادة واقبلت عليه الدنيا وسكن دارا مشرفة على الازبكية جارية في وقف عثمان كتخدا واشترى أيضا دارا نفيسة بالجودرية واسكنها لغيره بالاجرة وانحصرت فيه وظائف مشيخة الحنفية كالتدريس في مدرسة المحمودية والصرغتمشية والمحمدية وغيرها فكان يباشر الاقراء بنفسه في بعضها والبعض ولده العلامة الشيخ إبراهيم ولم يزل يقرئي ويملي ويفيد حتى في حال انقطاعه وذلك انه لما مات احمد أغا غانم وحصل بين عتقائه منازعة ثم اتفقوا على تحكيم المترجم بينهم والتمسوا منه أن يذهب صحبتهم الى قوة ليصلح بينهم فلما ذهب الى بولاق واراد النزول في السفينة اعتمد على بعض الواقفين فعثرت رجله فقبض ذلك الرجل على معصمه فانكسر عظمه لنحافة جسمه فعادوا به الى داره واحضروا له من عالجه حتى برىء بعد شهور وفرحوا بعافيته ودعاه بعض احبابه بناحية قناطر السباع فركب وذهب اليه وكانت اول ركباته بعد برئه فلما طلع الى المجلس واراد الصعود الى مرتبه الجلوس زلقت رجله فانكسر عظم ساقه وتكدر الحاضرون وحملوه وذهبوا به الى داره واحضروا له المعالج فلم يحسن المعالجة وتألم تألما كثيرا واستمر ملازما للفراش نحو سبع سنوات ثم توفي يوم الاربعاء سابع عشر رجب من السنة عن سبع وسبعين سنة ودفن بتربة الأزبكية وتعين بعده في المشيخة والافتاء ولده المحقق العلامة المستعد الشيخ ابراهيم ادام الله النفع بحياته وحفظ عليه اولاده
ومات الاجل الامثل المفوه المنشىء النبيه الفصيح المتكلم عثمان افندي ابن سعد العباسي الانصاري من ولد آخر الخلفاء العباسية بمصر المتوكل على الله ووالده يعرف بالانصاري من جهة النساء من بيت السيادة والخلافة ولد بمصر وبها نشأ واشتغل بالعلم على فضلاء الوقت ومهر في الفنون بذكائه وعانى الحساب والنجوم فأخذ منها حظا ونزل كاتب سر في ديوان بعض الامراء ولامه بعض محبيه في ذلك فاعتذر انه انما قدم عليه صيانة لبعض بلاده وضياعه التى استولت عليها ايدي الظلمة فلا محيد له عن عشرتهم واجتمع بشيخنا الشيخ محمود الكردي واراد السلوك في طريق الخلوتية وترك شرب الدخان ولازمه كثيرا وتلقن الاسم الاول والاوراد واقلع عما كان عليه حتى لاحت عليه انوار ملازمته واعتقده جدا وبعد وفاة الاستاذ رجع الى حالته وشرب الدخان ثم ولى خليفة على غلال الحرمين فباشرها بشهامة ثم ولي روزنامة مصر بصرامة وقوة مراس وشدة ومخادعة وراج امره واتسع حاله وزادت حشمته وذلك بعد عزل احمد افندي أبي كلبة وقبل وفاة السيد محمد افندي الكماخي الروزنامجي وثقل امره على باقي الكتبة والناس فاوغروا عليه وعزلوه فضاق صدره وزاد قلقه وحدث فيه بعض رعونة وتردد لمشاهد الاولياء في الليل والنهار يبتهل ويدعو ويفرق خبزا ودراهم وياوى اليه المجاذيب والذين يدعون الصلاح والولاية فيكرمهم برهة ويرون له مرائي ومنامات واخباريات فيزداد هوسه ثم لما يطول الحال ينقطع عنهم ويبدلهم بآخرين وهكذا كان ينام مع بعضهم في الحريم ويترجم بعضهم بمكاشفات وشطحيات ويقول فلان يطلع على خطرات القلوب وفلان يصعد الى السماء ومن كرامات فلان كذا ثم يرجع عن ذلك ولما مات السيد محمد عيد في كتابة الروزنامة أيضا استمر بها ثمانية عشر شهر وكانت اعادته في سنة ثمان بعد المائتين ثم انحرف عليه ابراهيم بك الكبير وعزله وكان يظن أن الامر يؤل اليه فلم يتم له ذلك واحضر ابراهيم بك السيد ابراهيم ابن اخي المتوفي وقلده ذلك فعندها ايس المترجم منها واختلفت الامور بحدوث الفتن وتقلب الدول والاحوال ولازم شأنه وبيته بعد رجوعه من هجرته الى الشام في حادثة الفرنسيس واعترته الامراض واجتمعت لديه كتب كثيرة في سائر العلوم وبيعت بأسرها في تركته توفي يوم الاربعاء خامس عشرين شوال من السنة
ومات العمدة الامام الصالح الناسك العلامة والبحر الفهامة الشيخ محمد ابن سيرين بن محمد بن محمود ابن جيش الشافعي المقدسي ولد في حدود الستين وقدم به والده الى مصر فقرأ القرآن واشتغل بالعلم وحضر دروس الشيخ عيسى البراوي فتفقه عليه وحلت عليه انظاره وحصل طرفا جيدا من العلوم على الشيخ عطية الاجهورى ولازمه ملازمة كلية وبعد وفاة شيخه اشتغل بالحديث فسمع صحيح مسلم علي الشيخ احمد الراشدي واتصل بشيخنا محمود الكردي فلقنه الذكر ولازمه وحصلت له منه الانوار وانجمع عن الناس ولاحت عليه لوائح النجابة والبسه التاج وجعله من جملة خلفاء الخلوتية وامره بالتوجه الى بيت المقدس فقدمه وسكن بالحرم وصار يذاكر الطلبة بالعلوم ويعقد حلقة الذكر وله فهم جيد مع حدة الذهن واقبلت عليه الناس بالمحبة ونشر له القبول عند الامراء والوزراء وقبلت شفاعته مع الانجماع عنهم وعدم قبول هداياهم واخبرني بعض من صحبه انه يفهم من كلام الشيخ ابن العربي ويقرره تقريرا جيدا ويميل الى سماعه وحج من بيت المقدس واصيب في العقبة بجراحة في عضده وسلب ما عليه وتحمل تلك المشقات ورجع الى مصر فزار شيخه الشيخ محمود وجلس مدة ثم اذن له بالرجوع الى بلده وسمع اشياء كثيرة في مبادي عمره واقتبس من الاشياخ فوائد جمة حتى قبل اشتغاله بالعلم وفي سنة ( 1182 ) كتب الى شيخنا السيد مرتضى يستجيزه فكتب له اسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج وقد تقدم ذكرها في ترجمة السيد مرتضى ولم يزل يملي ويفيد ويدرس ويعيد واشتهر ذكره في الآفاق وانعقد على اعتقاده وانفراده الاتفاق وسطعت انواره وعمت اسراره وانتشرت في الكون اخباره وازدحمت على سدته زواره الى أن جاب الداعي ونعته النواعي وذلك سابع عشرين شهر شعبان من السنة ولم يخلف بعده مثله وبه ختمت دائرة المسلكين من الخلوتية ورجال السادة الصوفية وحسن به ختم هذا الجزء الثالث من كتاب عجائب الآثار في التراجم والاخبار لغاية سنة عشرين ومائتين والف من الهجرة النبوية على صاحبها افضل الصلاة والسلام وسنقيد ان شاء الله تعالى ما يتجدد بعدها من الحوادث من ابتداء سنة احدى وعشرين التي نحن بها الان أن امتد الاجل واسعف الامل ونرجو من الكريم المتعال صلاح الاحوال وانقشاع الهموم وصلاح العموم انه على كل شىء قدير وبالاجابة جدير والله اعلم
عجائب الآثار في التراجم والأخبار
المؤلف : عبد الرحمن بن حسن الجبرتي
مجلة نافذة ثقافية ـ البوابة