بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الضحك والبكاء وحياة البخلاء
قصة ليلى الناعطية وحديث الجبان
وأما ليلى الناعطية، صاحبة الغالية من الشيعة، فإنها ما زالت ترقع قميصاً لها وتلبسه، حتى صار القميص الرقاع، وذهب القميص الأول. ورفت كساءها ولبسته، حتى صارت لا تلبس إلا الرفو، وذهب جميع الكساء. وسمعت قول الشاعر:
البس قميصك ما اهتديت لجيبه * فإذا أضلك جيبه فاستبدل
فقالت: إني إذا الخرقاء، أنا والله أحوص الفتق، وأرقع الخرق وخرق الخرق،
ومضيت أنا وأبو إسحاق النظام وعمرو بن نهيوي، نريد الحديث في الجبان، ولنتناظر في شيء من الكلام. فمررنا بمجلس وليد القرشي، وكان على طريقنا.
فلما رآنا تمشى معنا. فلما جاوزنا الخندق جلسنا في فناء حائطه. وله ظل شديد السواد، بارد ناعم. وذلك لثخن الساتر، واكتناز الأجزاء، ولبعد مسقط الشمس من أصل حائطه. فطال بنا الحديث، فجرينا في ضروب من الكلام. فما شعرنا إلا والنهار قد انتصف، ونحن في يوم قائظ.
فلما صرنا في الرجوع، ووجدت مس الشمس وقعها على الرأس، أيقنت بالبرسام. فقلت لأبي إسحاق، والوليد إلى جنبي يسمع كلامي: الباطنة منا بعيدة، وهذا يوم منكر، ونحن في ساعة تذيب كل شيء. والرأي أن نميل إلى منزل الوليد، فنقيل فيه، ونأكل ما حضر، فإنه يوم تخفيف. فإذا أبردنا تفرقنا، وإلا فهو الموت ليس دونه شيء.
قال الوليد رافعاً صوته: أما على هذا الوجه الذي أنكرته علينا - رحمك الله ـ هل ها هنا إلا الحاجة والضرورة، قال: إنك أخرجته مخرج الهزء. وقلت: وكيف أخرجه مخرج الهزء وحياتي في يدك، مع معرفتي بك، فغضب، ونتر يده من أيدينا، وفارقنا. ولا والله ما اعتذر إلينا مما ركبنا به إلى الساعة. ولم أر من يجعل الأسى حجة في المنع إلا هو، وإلا من أبي مازن، إلى جبل الغمر.
وكان جبل خرج ليلاً من موضع كان فيه، فخاف الطائف، ولم يأمن المستقفي، فقال: لو دققت الباب على أبي مازن، فبت عنده في أدنى بيت، أو في دهليزه، ولم ألزمه من مؤنتي شيئاً. حتى إذا انصدع عمود الصبح، خرجت في أوائل المدلجين. فدق عليه الباب دق واثق، ودق مدل، ودق من يخاف أن يدركه الطائف، أو يقفوه المستقفي، وفي قلبه عز الكفاية، والثقة بإسقاط المؤنة.
فلم يشك أبو مازن أنه دق صاحب هدية. فنزل سريعاً. فلما فتح الباب وبصر بجبل، بصر بملك الموت، فلما رآه جبل واجماً، لا يحير كلمة، قال له: إني خفت معرة الطائف، وعجلة المستقفي، فملت إليك لأبيت عندك. فتساكر أبو مازن، وأراه أن وجومه إنما كان بسبب تظاهره بالسكر. فخلع جوارحه، وخبل لسانه، وقال: سكران والله، أنا والله سكران، قال له جبل: كن كيف شئت. نحن في أيام الفصل، لا شتاء ولا صيف. ولست أحتاج إلى سطح، فأغم عيالك بالحر، ولست أحتاج إلى لحاف، فأكلفك أن تؤثرني بالدثار. وأنا كما ترى ثمل من الشراب، شبعان من الطعام. ومن منزل فلان خرجت، وهو أخصب الناس دخلاً. وإنما أريد أن تدعني أغفي في دهليزك إغفاءة واحدة، ثم أقوم في أوائل المبكرين.
قال أبو مازن، وأرخى عينيه وفكيه ولسانه، ثم قال: سكران والله، أنا سكران، لا والله ما أعقل أين أنا، والله لا أفهم ما تقول، ثم أغلق الباب في وجهه، ودخل لا يشك أن عذره قد وضح، وأنه قد ألطف النظر، حتى وقع على هذه الحيلة، وإن وجدتم في هذا الكتاب لحناً، أو كلاماً غير معرب، ولفظاً معدولاً عن جهته، فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك، لأن الإعراب يبغض هذا الباب، ويخرجه من حده. إلا أن أحكي كلاماً من كلام متعاقلي البخلاء، وأشحاء العلماء، كسهل بن هارون وأشباهه.
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ
وأما ليلى الناعطية، صاحبة الغالية من الشيعة، فإنها ما زالت ترقع قميصاً لها وتلبسه، حتى صار القميص الرقاع، وذهب القميص الأول. ورفت كساءها ولبسته، حتى صارت لا تلبس إلا الرفو، وذهب جميع الكساء. وسمعت قول الشاعر:
البس قميصك ما اهتديت لجيبه * فإذا أضلك جيبه فاستبدل
فقالت: إني إذا الخرقاء، أنا والله أحوص الفتق، وأرقع الخرق وخرق الخرق،
ومضيت أنا وأبو إسحاق النظام وعمرو بن نهيوي، نريد الحديث في الجبان، ولنتناظر في شيء من الكلام. فمررنا بمجلس وليد القرشي، وكان على طريقنا.
فلما رآنا تمشى معنا. فلما جاوزنا الخندق جلسنا في فناء حائطه. وله ظل شديد السواد، بارد ناعم. وذلك لثخن الساتر، واكتناز الأجزاء، ولبعد مسقط الشمس من أصل حائطه. فطال بنا الحديث، فجرينا في ضروب من الكلام. فما شعرنا إلا والنهار قد انتصف، ونحن في يوم قائظ.
فلما صرنا في الرجوع، ووجدت مس الشمس وقعها على الرأس، أيقنت بالبرسام. فقلت لأبي إسحاق، والوليد إلى جنبي يسمع كلامي: الباطنة منا بعيدة، وهذا يوم منكر، ونحن في ساعة تذيب كل شيء. والرأي أن نميل إلى منزل الوليد، فنقيل فيه، ونأكل ما حضر، فإنه يوم تخفيف. فإذا أبردنا تفرقنا، وإلا فهو الموت ليس دونه شيء.
قال الوليد رافعاً صوته: أما على هذا الوجه الذي أنكرته علينا - رحمك الله ـ هل ها هنا إلا الحاجة والضرورة، قال: إنك أخرجته مخرج الهزء. وقلت: وكيف أخرجه مخرج الهزء وحياتي في يدك، مع معرفتي بك، فغضب، ونتر يده من أيدينا، وفارقنا. ولا والله ما اعتذر إلينا مما ركبنا به إلى الساعة. ولم أر من يجعل الأسى حجة في المنع إلا هو، وإلا من أبي مازن، إلى جبل الغمر.
وكان جبل خرج ليلاً من موضع كان فيه، فخاف الطائف، ولم يأمن المستقفي، فقال: لو دققت الباب على أبي مازن، فبت عنده في أدنى بيت، أو في دهليزه، ولم ألزمه من مؤنتي شيئاً. حتى إذا انصدع عمود الصبح، خرجت في أوائل المدلجين. فدق عليه الباب دق واثق، ودق مدل، ودق من يخاف أن يدركه الطائف، أو يقفوه المستقفي، وفي قلبه عز الكفاية، والثقة بإسقاط المؤنة.
فلم يشك أبو مازن أنه دق صاحب هدية. فنزل سريعاً. فلما فتح الباب وبصر بجبل، بصر بملك الموت، فلما رآه جبل واجماً، لا يحير كلمة، قال له: إني خفت معرة الطائف، وعجلة المستقفي، فملت إليك لأبيت عندك. فتساكر أبو مازن، وأراه أن وجومه إنما كان بسبب تظاهره بالسكر. فخلع جوارحه، وخبل لسانه، وقال: سكران والله، أنا والله سكران، قال له جبل: كن كيف شئت. نحن في أيام الفصل، لا شتاء ولا صيف. ولست أحتاج إلى سطح، فأغم عيالك بالحر، ولست أحتاج إلى لحاف، فأكلفك أن تؤثرني بالدثار. وأنا كما ترى ثمل من الشراب، شبعان من الطعام. ومن منزل فلان خرجت، وهو أخصب الناس دخلاً. وإنما أريد أن تدعني أغفي في دهليزك إغفاءة واحدة، ثم أقوم في أوائل المبكرين.
قال أبو مازن، وأرخى عينيه وفكيه ولسانه، ثم قال: سكران والله، أنا سكران، لا والله ما أعقل أين أنا، والله لا أفهم ما تقول، ثم أغلق الباب في وجهه، ودخل لا يشك أن عذره قد وضح، وأنه قد ألطف النظر، حتى وقع على هذه الحيلة، وإن وجدتم في هذا الكتاب لحناً، أو كلاماً غير معرب، ولفظاً معدولاً عن جهته، فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك، لأن الإعراب يبغض هذا الباب، ويخرجه من حده. إلا أن أحكي كلاماً من كلام متعاقلي البخلاء، وأشحاء العلماء، كسهل بن هارون وأشباهه.
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ