من طرف بص وطل السبت يونيو 30, 2018 4:50 pm
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة التاريخ
عجائب الآثار
الجزء الأول
{ الفصل الثاني }
في ذكر حوادث مصر وولاتها واعيانها ووفيات
من طاعون 1228 وحتى ختام الجزء الأول
{ احداث شهر رمضان سنة 1232 }
واستهل شهر رمضان بيوم الثلاثاء
و عملت الرؤية تلك الليلة وركب المحتسب وكذا مشايخ الحرف كعادتهم واثبتوا رؤية الهلال تلك الليلة وكان عسر الرؤية جدا
وفي صبح ذلك اليوم عزل عثمان اغا الورداني من الحسبة وتقلدها مصطفى كاشف كرد وذلك لما تكرر على سمع الباشا افعال الوقة وانحرافهم وقلة طاعتهم وعدم مبالاتهم بالضرب والايذاء وخزم انوف والتجريس قال في مجلس خاصته لقد سرى حكمي في الاقاليم البعيده فضلا عن القريبة وخافني العربان وقطاع الطريق وغيرهم خلاف سوقه مصر فأنهم لايرتدعون بما يفعله فيهم ولاة الحسبة من الاهانة والايذاء فابدلهم من شخص يقهرهم ولا يرحمهم ولا يهملهم فوقع اختياره على مصطفى كاشف كرد هذا فقلده ذلك اطلق له الاذن فعند ذلك ركب في كبكبة وخلفه عدة من الخيالة وترك شعار المنصب من المقدمين والخدم الذين يتقدمونه وكذلك الذي امامه بالميزان ومن بأيديهم الكرابيج لضرب المستحق والمنقص في الوزن وبات يطوف على الباعة ويضرب بالدبوس هشما بادنى سبب ويعاقب بقطع شحمة الاذن فأغلقوا الحوانيت ومنعوا وجود الاشياء حتى ما جرت به العادة في رمضان من عمل الكعك والرقاق المعروف بالسحير وغيره فلم يلتفت لامتناعهم وغلقهم الحوانيت وزاد في العسف ولم يرجع عن سعيه واجتهاده ولازم على السعي والطواف ليلا ونهارا لاينام الليل بل ينام لحظة وقت ما يدركه النوم في أي مكان ولو على مصطبة حانوت واخذ يتفحص على السمن والجبن ونحوه المخزون في الحواصل ويخرجه ويدفع ثمنه لأربابه بالسعر المفروض و يوزعه لأرباب الحوانيت ليبيعوه على الناس بزيادة نصف او نصفين في كل رطل وذهب الى بولاق و مصر القديمة فاستخرج منهما سمنا كثيرا ومعظم ذلك في مخازن العسكر فإن العسكر كانوا يرصدون الفلاحين وغيرهم فيأخذونه منهم بالسعر المفروض هو مائتان واربعون في العشرة منه ثم يبيعونه على المحتاجين اليه بما احبوا من الزيادة الفاحشة فلم يراع جانبهم واستخرج مخباتهم قهرا عنهم ومن خالف عليه منهم ضربه واخذ سلاحه ونكل به وذهب في بعض الاوقات الى بولاق فاخرج من حاصل ببعض الوكائل ثلثمائة وخمسين ماعونا لكبير من العسكر فحضر اليه بطائفته فلم يلتفت اليه ووبخه وقال له انتم عساكر لكم الرواتب والعلائف واللحوم والاسمان وخلافها ثم تحتكرون ايضا اقوات الناس وتبيعونها عليهم بالثمن الزائد واعطاه الثمن المفروض وحمل المواعين على الجمال الى الامكنة التي اعدها لها عند باب الفتوح وعندما رأى ارباب الحوانيت الجد وعدم الاهمال والتشديد عليهم فتح المعلق منهم حانوته واظهروا مخباتهم امامهم وملؤا السدريات والطسوت من السمن وانواع الجبن خوفا من بطش المحتسب وعدم رحمته بهم ويقف بنفسه على باعة البطيخ والقاوون
وفي منتصف شهر رمضان وصلوا برمة ابراهيم بك الكبير من دنقلة وذلك انه لما وصل خبر موته استأذنت زوجته ام ولده الباشا في ارسالها امرأة تدعى نفيسة لإحضار رمته فأذن بذلك واعطى المتسفرة فيما بلغنا عشرة اكياس وكتب لها مكاتبات لكشاف الوجه القبلي بالمساعدة وسافرت وحضرت به في تابوت وقد جف جلده على عظمه لنحافته وذلك بعد موته بنحو ستة شهور وعملوا له مشهدا وامامه كفارة ودفنوه بالقرافة الصغرى عند ابنه مرزوق بك
وفي ليلة الخميس سابع عشره طلب المحتسب حجاجا الخضري الشهير بنواحي الرميلة فأخذه الى الجمالية شنقه على السبيل المجاور لحارة المبيضة وذلك في سادس ساعة من الليل وقت السحور وتركوه معلقا لمثلها من الليلة القابلة ثم اذن برفعه فاخذه اهله ودفنوه وحجاج هو الذي تقدم ذكره غير مرة في واقعة خورشيد باشا وغيرها وكان مشهورا بالإقدام والشجاعة طويل القامة عظيم الهمة وكان شيخا على طوائف الخضرية صاحب صولة وكلمة بتلك النواحي ومكارم اخلاق وهو الذي بنى البوابة باخر الرميلة عند عرصة الغلة ايام الفتنة واختفى مرار بعد تلك الحوادث وانضم الى الالفي ثم حضر الى مصر بامان ولم يزل على حالته في هدوء وسكون ولم يؤخذ في هذه بجرم فعله يوجب شنقه بل قتل مظلوما لحقد سابق وزجرا لغيره
وفي يوم الاثنين ثامن عشرين شهر رمضان الموافق السادس مسرى القبطي اوفي النيل أذرعه فنودي بالوفاء وكسر السد صبح يوم الثلاثاء بحضرة كتخدا بك والقاضي وغيره وجرى الماء في الخليج ولم يقع فيه مهرجان مثل العادة هذا والمحتسب مواظب على السروح ليلا ونهارا ويعاقب بجرح الآذان والضرب بالدبوس واقعد بعض صناع الكنافة على صوانيهم التي على النار وامر بكنس الاسواق ومواظبة رشها بالماء ووقود القناديل على ابواب الدور وعلى كل ثلاثة من الحوانيت قنديل ويركب آخر الليل ثم يذهب الى بولاق ليتلقى الواردين بالبطيخ الاخصر والاصفر ويعرف عدة الشروات ويأمرهم بدفع مكوسها المفروضة ثم يأمرهم بالذهاب الى مراكز بيعهم ولا يبيعون شيئا حتى يأتيهم بنفسه او بحضرة من يرسله من طرفه ثم يعود طائفا عليهم فيحصى ما في فرش احدهم عددا ويميز الكبير بثمن والصغير بثمن ويترك عند البائع من يباشره او يقف هو بنفسه ويبيع على الناس بما فرضه ويعطي لصاحبه الثمن والربح فيراه وقد ربح العشرة قروش واكثر بعد مكسه ومصارفه فيقول له اما يكفي مثلك ربح هذا القدر حتى تطمع ايضا في الزيادة عليه وهو مع ذلك يكر ويطوف على غيرهم ويحلق على ما يرد من السمن الوارد الذي تقرر على المزارعين فيزنه منهم بالسعر المفروض وهو اربعة وعشرون نصفا الرطل ويرد عليهم الفوارغ ويعطيه للبائع بالثمن المقرر وهو ستة وعشرون وهم يبيعونه بزيادة نصفين في كل رطل وهو ثمانية وعشرون ويناله الناس بأسهل وجدان سالما من الخلط والغش ويامرهم باعادة ما عسى يوجد فيه من المرته والعكار الى مواعينه ليوزن مع فوارغه ورصد ايضا ما يرد للناس ولو لأكابر الدولة من السمن فيطلق البعض وياخذ الباقي بالثمن وكذلك ما يأتيهم من البطيخ والدجاج ولو كان لصاحب الدولة حسب اذنه له بذلك كل ذلك للحرص على كثرة وجدان الاشياء وتعدت احكامه الى بضائع التجار والاقمشة الهندية واهل مرجوش والمحلاوية وخلافهم وطلب قوائم مشترواتهم والنظر في مكايلهم فضاق خناق اكثر الناس من ذلك لكونهم لم يعتادوه من محتسب قبله وكأنه وصله خبر ولاة الحسبة واحكامهم في الدول المصرية القديمة فإن وظيفة امين الاحتساب وظيفة قضاء وله التحكم والعدالة والتكلم على جميع الاشياء وكان لايتولاها الا المتضلع من جميع المعارف والعلوم والقوانين ونظام العدالة حتى على من يتصدر لتقرير العلوم فيحضر مجلسه ويباحثه فإن وجد فيه اهلية للإلقاء اذن له بالتصدر او منعه حتى يستكمل وكذلك الاطباء والجراحية حتى البياطرية والبزدرية ومعلموا الاطفال في المكاتب ومعلموا السباحة في الماء والنظر في وسق المراكب في الاسفار واحمال الدواب في نقل الاشياء ومقادير روايا الماء مما يطول شرحه وفي ذلك مؤلف للشيخ بن الرفعة وقد يسهل بعض ذلك مع العدالة وعدم الاحتكار وطمع المتولي وتطلعه لما في ايدي الناس وارزاقهم
و مما يحكى ان الرشيد سأل الليث بن سعد فقال له يا ابا الحرث ما صلاح بلدكم يعني مصر فقال له اما صلاح امرها ومزارعها فبالنيل واما احكامها فمن رأس العين يأتي الكدر
وفي اواخر رمضان زاد المحتسب في نغمات الطنبور وهو انه ارسل مناديه في مصر القديمة ينادي على نصارى الارمن والاروام والشوام باخلاء البيوت التي عمروها وزخرفوها وسكنوا بها بالانشاء والملك والمؤاجرة المطلة على النيل وان يعودوا الى زيهم الاول من لبس العمائم الزرق وعدم ركوبهم الخيول والبغال والرهونات الفارهة واستخدامهم المسلمين فتقدم اعاظمهم الى الباشا بالشكوى وهو يراعي جانبهم لأنهم صاروا اخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة
و أيضانادى مناديه على المردان ومحلقي اللحي بأنهم يتركونها ولا يحلقونها وجميع العسكر وغالب الاتراك سنتهم حلق اللحي ولو طعن في السن فاشيع فيهم ان يامرهم بترك لحاهم وذلك خرم لقواعدهم بل يرونه من الكبائر وكذلك السيد محمد المحروقي بسبب تعرضه الى بضائع التجار واهل الغورية فان ذلك منوط به
وفي اثناء ذلك ورد الى عابدين بك مواعين سمن فأرسل الجمال الى حملها من ساحل بولاق فبلغ خبرها المحتسب فأخذها وادخلها مخزنه وعادت الجمال فارغة واخبروا مخدومهم بحجز المحتسب لها فأرسل عدة من العسكر فأخرجوها من المخزن واخذوها ولم يكن المحتسب حاضرا واتفق انه ضرب شخصا من عسكر المذكور ارنؤدي بالدبوس حتى كاد يموت فاشتد بعابدين بك الحنق وركب الى كتخدا بك وشنع على المحتسب وتعددت الشكاوي وصادفت في زمن واحد فانهى الامر الى الباشا فتقدم اليه بكف المحتسب عن هذه الافعال فأحضره الكتخدا وزجره وامره ان لايتعدى حكمه الباعة ومن كان يسري عليهم احكام من كان في منصبه قبله وا يكون امامه الميزان ويؤدب المستحق بالكرابيج دون الدبوس
{ أحداث شهر شوال سنة 1232 }
واستهل شهر شوال بيوم الخميس
فترك السروح في ايام العيد واشيع بين السوقة عزله فأظهروا الفرح ورفعوا ما كان ظاهرا بين ايديهم من السمن والجبن واخفوه عن الاعين ورجعوا الى حالتهم الاولى في الغش والخيانة وغلاء السعر واغلق بعضهم الحانوت وخرجوا الى المنتزهات وعملوا ولائم
وفي رابعه شنقوا عدة اشخاص في اماكن متفرقة قيل انهم سراق وزغلية وكانوا مسجونين في ايام رمضان ولم يركب المحتسب حسب الامر بل اركب خازنداره وشق بالميزان عوضا عنه ثم ركب هو ايضا وبيده الدبوس لكن دون الحالة الاولى في الجبروت ولم يسر حكمه على النصارى فضلا عن غيرهم
وفي عاشره يوم السبت نزلوا بكسوة الكعبة من القلعة وشقوا بها من وسط الشارع الى المشهد الحسيني
وفي يوم السبت سابع عشره اداروا المحمل وخرج امير الركب الى خارج باب النصر ووصلت حجاج كثيرة من ناحية المغرب الى برانبابة وبولاق وطفقوا يشترون الاغنام من الفلاحين ويذبحونها ويبيعونا ببولاق وطرقها على الناس جزافا من غير وزن ويذهب الكثير من الناس الى الشراء منهم فيقعون في الغبن الفاحش والزيادة على السعر بالضعف واكثر ضرورتهم في الشراء منهم رداءة ما يحمله القصابون من المذبح من اغنام الباشا المحضرة من البلاد والقرى وقد هزلت من السفر والاقامة بالجوع والعطش ويموت الكثير منها فيسلمونه ويزنونه على الجزارين بالبيع للناس وفيه المتغير الرائحة وما تعافه النفوس فبسبب ذلك اضطر الناس الى الشراء من هؤلاء الاجناس بالغبن وتحمل سوء اخلاقهم وحصل بينهم وبين بعض العسكر شرور وقتل بينهم قتلى ومجاريح والباشا وحكام الوقت يتغافلون عنهم خوفا من وقوع الفتن ثم ارتحلوا لانهم كثروا وملؤا الازقة والنواحي وحضر ايضا الركب الفاسي وفيه ولدا السلطان سليمان ومن يصحبهما فاحسن الباشا نزلهم وتقيد السيد محمد المحروقي بملاقاتهم ولوازمهم وانزلوهم في منزل بجوار المشهد الحسيني واجريت عليهم نفقات تليق بهم واهديا للباشا هدية وفيها عدة بغال وبرانس حرير وغير ذلك
وفي ثامن عشرينه ارتحل الحج المصري من البركة وكانت الحجوج في هذه السنة كثيرة من سائر الاجناس اتراك وططر وبشناق وجركس وفلاحين ومن سائر الاجناس ورجع الكثير من المسافرين على بحر القلزم الى الحجاز من السويس لقلة المراكب التي تحملهم وغصت المدينة من كثرة الزحام زيادة على ما بها من ازدحام العساكر واخلاط العالم من فلاحي القرى المشيعين والمسافرين ومن يرد من الافاق والبلاد الشامية ونصارى الروم والارمن والدلاة والواردين والذين استدعاهم الباشا من الدروز والمتاولة والنصيرية وغيرهم لعمل الصنائع والمزارع وشغل الحرير وما استجده بوادي الشرق حتى ان الانسان يقاسي الشدة والهول اذا مر بالشارع من كثرة الازدحام ومرور الخيالة وحمير الاوسية والجمال التي تحمل الاتربة والانقاض والاحجار لعمائر الدولة سوى ما عداها من حمول الاحطاب والبضائع والتراسين حتى الزحمة في داخل العطف الضيقة وزيادة على ذلك كثرة الكلاب بحيث يكون في القطعة من الطريق نحو الخمسين ثم صياحها ونباحها المستمر وخصوصا في الليل على المارين وتشاجرها مع بعضها مما يزعج النفوس ويمنع الهجوع وقد احسن الفرنساوية بقتلهم الكلاب فإنهم لما استقروا وتكرر مرورهم ونظروا الى كثرة الكلاب من غير حاجة ولا منفعة سوى الهبهبة والعواء وخصوصا عليهم لغرابة اشكالهم فطاف عليها طائف منهم باللحم المسموم فما اصبح النهار الا وجميعها موتى مطروحة بجميع الشوارع فكان الناس والصغار يسحبونها كذا بالحبال الى الخلاء واستراحت الارض ومن فيها منها فالله يكشف عنها مطلق الكرب في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه
{ أحداث شهر ذي القعدة سنة 1232 }
واستهل شهر ذي القعدة
وفي خامسه يوم الاربعاء وليلة الخميس ارتحل ركب الحجاج المغاربة من الحصوة
وفي اواخره حصل الامر للفقهاء بالأزهر بقراءة صحيح البخاري فاجتمع الكثير من الفقهاء والمجاورين وفرقوا بينهم اجزاء وكراريس من البخاري يقرؤون فيها في مقدار ساعتين من النهار بعد الشروق فاستمروا على ذلك خمسة ايام وذلك بقصد حصول النصر لإبراهيم باشا على الوهابية وقد طالت مدة انقطاع الاخبار عنه وحصل لأبيه قلق زائد ولما انقضت ايام قراءة البخاري نزل للفقهاء عشرون كيسا فرقت عليهم وكذلك على اطفال المكاتب
{ أحداث شهر ذي الحجة سنة 1232 }
واستهل شهر ذي الحجة بيوم الاحد
في رابعه شنقوا اشخاصا قيل انهم خمسة ويقال انهم حرامية
وفيها ارسلت الافيال الثلاثة الى دار السلطنة صحبة الهدايا المرسلة ثلاثة سروج ذهب وفيها سرج مجوهر وخيول وكباش ونقود واقمشة هندية وسكاكر وارز
وفيه وصل فيل آخر كبير مروا به من وسط المدينة وذهبوا به الى رحبة بيت السيد محمد المحروقي وقفوا به في اواخر النهار والناس تجتمع للفرجة عليه الى اواخر النهار ثم طلعوا به الى القلعة واوقفوا بالطبخانة وهي محل عمل المدافع وحضر بصحبته شخص يدعي العلم والمعرفة بالطب والحكمة ومعه مجلد كبير في حجم الوسادة يحتوي على الكتب الستة الحديثية وخطه دقيق قال انه نسخه بيده ونزل ببيت السيد محمد المحروقي وركب له معجون الجواهر انفق فيه جملة من المال وكجلا وركب ايضا تراكيب لغيره وشرط عليهم في الاستعمال بعد مضي ستة اشهر وشيء منها بعد شهرين وثلاثة واقام اياما ثم سافر راجعا الى صنعاء
وفي يوم الثلاثاء عاشره كان عيد النحر ولم يرد فيه مواش كثيرة كالأعياد السابقة من الاغنام والجواميس التي تأتي من الارياف فكانت تزدحم منها لاسواق لكثرتها والوكائل والرميلة فلم يرد الا النزر القليل قبل النحر بيومين ويباع بالثمن الغالي ولم يذبح الجزارون في ايام النحر للبيع كعادتهم الا القليل منهم مع التحجير على الجلود وعلى من يشتريها وتباع لطرف الدولة بالثمن الرخيص جدا وانقضت السنة مع استمرار ما تجدد فيها من الحوادث التي منها ما حدث في آخر السنة من الحجر وضبط انوال الحياكة وكل ما يصنع بالمكوك وما ينسج على نول او نحوه من جميع الاصناف من ابريسم او حرير او كتان الى الخيش و الفل والحصير في سائر الاقليم المصري طولا وعرضا قبلي وبحري من الاسكندرية ودمياط الى اقصى بلاد الصعيد والفيوم وكل ناحية تحت حكم هذا المتولي وانتظمت لهذا الباب دواوين ببيت محمود بك الخازندار واياما ببيت السيد محمد المحروقي وبحضرة من ذكر والمعلم غالي ومتولي كبر ذلك والمفتتح لأبوابه المعلم يوسف كنعان الشامي والمعلم منصور ابو سربمون القبطي ورتبوا الضبط ذلك كتابا ومباشرين يتقررون بالنواحي والبلدان والقرى وما يلزم لهم من المصاريف والمعليم والمشاهرات ما يكفيهم في نظير تقيدهم وخدمتهم فيمضي المتعينون لذلك فيحصون ما يكون موجودا على الانوال بالناحية من القماش والبزوالأكسية الصوف المعروفة بالزعابيط والدفافي ويكتبون عدده على ذمة الصانع ويكون ملزوما به حتى اذا تم نسجه دفعوا لصاحبه ثمنه بالفرض الذي يفرضونه وان ارادها صاحبها اخذها من الموكلين بالثمن الذي يقدرونه بعد الختم عليها من طرفيها بعلامة الميري فان ظهر عند شخص شئ من غير علامة الميري اخذت منه بل وعوقب وغرم تأديبا على اختلاسه وتحذيرا لغيره هذا شأن الموجود الحاصل عند النساجين واستئناف العمل المجدد فإن الموكل بالناحية ومباشريها يستدعون من كل قرية شخصا معروفا من مشايخها فيقيمونه وكيلا ويعطونه مبلغا من الدراهم ويأمرونه باحصاء الانوال والشغالين والبطالين منهم في دفتر فيأمرون البطالين بالنسج على الانوال التي ليس لها صناع بأجرتهم كغيرهم على طرف الميري ويدفع المتوكل لشخصين او ثلاثة دراهم يطوفون بها على النساء اللاتي يغزلن الكتان بالنواحي ويجعلنه اذرعا فيشترون ذلك منهن بالثمن المفروض ويأتون الى النساجين ثم تجمع اصناف الاقمشة في اماكن للبيع بالثمن الزائد وجعلوا لمبيعها امكنة مثل خان ابو طقية وخان الجلاد وبه يجلس المعلم كنعان ومن معه وغير ذلك وبلغ ثمن الثوب القطن الذي يقال له البطانة الى ثلثمائة نصف فضة بعد ما كان يشترى بمائة نصف واقل واكثر بحسب الرداء والجودة وادركناه يباع في الزمن السابق بعشرين نصفا وبلغ ثمن المقطع القماش الغليظ الى ستمائة نصف فضة وكان يباع باقل من ثلث ذلك وقس على ذلك باقي الاصناف وهذه البدعة اشنع البدع المحدثه فان ضررها عم الغني والفقير والجليل والحقير والحكم لله العلي الكبير
ومنها ان المشار اليه هدم القصر الذي بالآثار وانشأه على الهيئة الرومية التي ابتدعوها في عمائرهم بمصر وهدموه وعمروه وبيضوه في ايام قليلة وذلك انه بات هناك ليلتين فاعجبه هواؤه فاختار بناءه على هواه وعند تمامه وتنظيمه بالفرش والزخارف جعل يتردد الى المبيت به بعض الاحيان مع السراري والغلمان كما يتنقل ما قصر الجيزة وشبرا والازبكية والقلعة وغيرها من سرايات اولاده واصهاره والملك لله الواحد القهار
و منها ان طائفة من الافرنج الانكليز قصدوا الاطللاع على الاهرام المنهورة الكائنة ببر الجيزة غربي الفسطاط لأن طبيعتهم ورغبتهم الاطلاع على الاشياء المستغريات والفحص عن الجزئيات وخصوصا الآثار القديمة وعجائب البلدان والتصاوير والتماثيل التي في المغارات والبرابي بالناحية القبلية وغيرها ويطوف منهم اشخاص في مطلق الاقاليم بقصد هذا الغرض ويصرفون لذلك جملا من المال في نفقاتهم ولوازمهم ومؤاجريهم حتى انهم ذهبوا الى اقصى الصعيد واحضروا قطع احجار عليها نقوش واقلام وتصاوير ونواويس من رخام ابيض كان بداخلها موتى باكفانها او اجسامها باقية بسبب الاطلية والادهان الحافظة لها من البلاد ووجه المقبور مصور على تمثال صورته التي كان عليها في حال حياته وتماثيل آدمية من الحجر السماقي الاسود المنقط الذي لايعمل فيه الحديد جالسين على كراسي واضعين ايديهم على الركب وبيد كل واحد شبه مفتاح بين اصابعه اليسرى والشخص مع كرسيه قطعة واحدة مفرغ معه اطول من قامة الرجل الطويل وعلو رأسه نصف دائرة منه في علوا الشبر وهم شبه العبيد المشوهين الصور وهم ستة على مثال واحد كأنما افرغوا في قالب واحد يحمل الواحد منهم الجملة من العتالين وفيهم السابع من رخام ابيض جميل الصورة واحضروا ايضا راس صنم كبير دفعوا في اجرةالسفينة التي احضروه فيها ستة عشر كيسا عنها ثلثمائة وعشرون الف نصف فضة وارسلوها الى بلادهم لتباع هناك بأضعاف ما صرفوه عليها وذلك عندهم من جملة المتاجر في الاشياء الغريبة ولما سمعت بالصور المذكورة فذهبت بصحبة ولدنا الشيخ مصطفى باكير المعروف بالساعاتي وسيدي ابراهيم المهدي الانكليزي الى بيت قنصل بدرب البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة جهة الازبكية وشاهدت ذلك كما ذكرته وتعجبنا من صناعتهم وتشابههم وصقالة ابدانهم الباقية على مر السنين والقرون التي لايعلم قدرها الاعلام الغيوب وارادوا الاطلاع على امر الاهرام واذن لهم صاحب المملكة فذهبوا اليها ونصبوا خيمة واحضروا الفعلة والمساحي والغلقان وعبروا الى داخلها واخرجوا منها اتربة كثيرة من زبل الوطواط وغيره ونزلوا الى الزلاقة ونقلوا منها ترابا مربع من الحجر المنحوت غير مسلوك هذا ما بلغنا عنهم وحفورا حوالي الرأس العظيمة التي بالقرب من الاهرام التي تسميها الناس رأس ابي الهول فظهر انه جسم كامل عظيم من حجر واحد ممتد كأنه راقد على بطنه رافع رأسه وهي التي يراها الناس وباقي جسمه مغيب بما انهال عليه من الرمال وساعداه من مرفقية ممتدان امامه وبينهما شبه صندوق مربع الى استطالة من سماق احمر عليه نقوش شبه قلم الطير في داخله صورة سبع مجسم من حجر مدهون بدهان احمر رابض باسط ذراعيه في مقدار الكلب رفعوه ايضا الى بيت القنصل ورايته يوم ذاك وقيس المرتفع من جسم ابي الهول من عند صدره الى اعلى رأسه فكان اثني وثلاثين ذراعا وهي نحو الربع من باقي جسمه واقاموا في هذا العمل نحو من اربعة اشهر
{ من مات في هذه السنة من المشاهير }
و أما من مات في هذه السنة من المشاهير فمات العالم العلامة الفاضل الفهامة صاحب التحقيقات الرائقة والتأليفات الفائقة شيخ شيوخ اهل العلم وصدر صدور اهل الفهم المتفنن في العلوم كلها نقليها وعقليها وادبيها اليه انتهت الرياسة في العلوم بالديار المصرية وباهت مصر ما سواها بتحقيقاته البهية استنبط الفروع من الاصول واستخراج نفائس الدور من بحور المعقول المنقول واودع الطروس فوائد وقلدها عوائد فرائد الاستاذ الشيخ محمد بن محمد بن احمد بن عبد القادر بن عبد العزيز بن محمد السنباوي المالكي الازهري الشهير بالامير وهو لقب جده الادنى احمد وسببه ان احمد واباه عبد القادر كان لهما امرة بالصعيد واخبرني المترجم من لفظه ان اصلهم من المغرب نزلوا بمصر عند سيدي عبد الوهاب ابي التخصيص كما اخبر عن ذلك وثائق لهم التزموا بحصة بناحية سنبوا وارتحلوا اليها وقطنوا بها وبها ولد المترجم وكان مولده في شهر ذي الحجة سنة اربع وخمسين ومائة والف باخبار والديه وارتحل معهما الى مصر وهو ابن تسع سنين وكان قد ختم القران فجوده على الشيخ المنير على طريقة الشاطبية والدرة وحبب اليه طلب العلم فاول ما حفظ متن الاجرومية وسمع سائر الصحيح والشفاء على سيدي علي بن العربي السقاط وحضر دروس اعيان عصره واجتهد في التحصيل ولازم دروس الشيخ الصعيدي في الفقه وغيره من كتب المعقول وحضر على السيد البليدي شرح السعد على عقائد النسفي والاربعين النووية وفقع الموطأ على هلال المغرب وعالمه الشيخ محمد التاودي بن سودة بالجامع الازهر سنة وروده بقصد الحج ولازم المرحوم الوالد حسنا الجبرتي سنين وتلقى عنه الفقه الحنفي وغير ذلك من الفنون كالهيئة والهندسة والفلكيات والاوفاق والحكمة عنه وبواسطة تلميذه الشيخ محمد ابن اسمعيل النفراوي المالكي وكتب له اجازة مثبتة في برنامج شيوخه وحضر الشيخ يوسف الحفني في آداب البحث و بانت سعاد وعلى الشيخ محمد الحفني اخيه مجالس من الجامع الصغير والشمايل والنجم الغيطي في المولد وعلى الشيخ احمد الجوهري في شرح الجوهرة للشيخ عبد السلام وسمع منه المسلسل بالأولية وتلقى عنه طريق الشاذلية من سلسلة مولاي عبد الله الشريف وشملته اجازة الشيخ الملوي وتلقى عنه مسائل في اواخر ايام انقطاعه بالمنزل ومهر وانجب وتصدر لالقاء الدروس في حياة شيوخه ونما امره واشتهر فضله خصوصا بعد موت اشياخه وشاع ذكره في الافاق وخصوصا بلاد المغرب وتأتيه الصلات من سلطان المغرب وتلك النواحي في كل عام ووفد عليه الطالبون للأخذ عنه والتلقي منه وتوجه في بعض المقتضبات الى دار السلطنة والقى هناك دروسا حضره فيها علماؤهم وشهدوا بفضله واستجازوه واجازهم بما هو مجاز به من اشياخه وصنف عدة مؤلفات اشتهرت بايدي الطلبة وهي غاية التحرير منها مصنف في فقه مذهبه سماه المجموع حاذى به مختصر خليل جمع فيه الراحج في المذهب وشرحه شرحا نفيسا وقد صار كل منهما مقبولا في ايام شيخه العدوي حتى كان اذا توقف شيخه في موضع يقول هاتوا مختصر الامير وهي منقبة شريفة وشرح مختصر خليل وحاشية على المغنى لابن هشام وحاشية على الشيخ عبد الباقي على المختصر وحاشية على الشيخ عبد السلام على الجوهرة وحاشية على شرح الشذور لابن هشام وحاشية على الازهرية وحاشية على الشنشوري على الرحبية في الفرائض وحواش على المعراج وحاشية على شرح املوي على السمرقندية ومؤلف سماه مطلع النيرين فيما يتعلق بالقدرتين واتحاف الانس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ورفع التلبيس عما يسئل به ابن خميس وثمر الثمام في شرح آداب الفهم والافهام وحاشية على المجموعة وتفسير سورة القدر وكان رحمه الله رقيق القلب لطيف المزاج ينزعجطبعه من غير انزعاج يكاد الوهم يؤلمه وسماع المنافر يوهنه ويسقمه وبآخره ضعفت قواه وتراخت اعضاه وزاد شكواه ولم يزل يتعلل ويزداد انينه ويتململ والامراض به تسلسل وداعي المنون عنه لايتحول الى ان توفي يوم الاثنين عاشر ذي القعدة الحرام وكان له مشهد حافل جدا ودفن بالصحراء بجوار مدفن الشيخ عبد الوهاب العفيفي بالقرب من عمارة السلطان قايتباي وكثر عليه الاسف والحزن وخلف ولده العلامة النحرير الشيخ محمد الامير وهو الآن احد الصدور كوالده يقرأ الدروس ويفيد الطلبة ويحضر الدواوين والمجالس العالية بارك الله فيه
و مات الشيخ الفقيه العلامة الشيخ خليل المدابغي لكونه يسكن بحارة المدابغ حضر دروس الاشياخ من الطبقة الاولى وحصل الفقه والمعقول واشتهر فضله مع فقره وانجماعه عن الناس متقشفا متواضعا ويكتسب من الكتابة بالأجرة ولم يتجمل بالملابس ولا بزي الققهاء يظن الجاهل به انه من جملة العوام توفي يوم الإثنين ثامن عشر ذي القعدة من السنة
ومات الشيخ الفقيه الورع الشيخ علي المعروف بأبي زكرى البولاقي لسكنه ببولاق وكان ملازما لإقراء الدروس ببولاق ويأتي الى الجامع الازهر في كل يوم يقرأ الدروس و يفيد الطلبة ويرجع الى بولاق بعد الظهر ومات حماره الذي كان يأتي عليه الى الجامع الازهر فلم يتخلف عن عادته ويأتي ماشيا ثم يعود مدة حتى اشفق عليه بعض المشفقين من اهالي بولاق واشتروا له حمارا ولم يزل على حالته وانكساره حتى توفي يوم الخميس ثامن شهر ذي القعدة من السنة رحمه الله وايانا وجمعنا في مستقر رحمته آمين
ومات من اكابر الدولة المسمى ولي افندي وقال له ولي خوجا وهو كاتب خزينة الباشا وانشأ الدار العظيمة التي بناحية باب اللوق وادخل فيها عدة بيوت ودورا جليلة تجاهها وملاصقة لها من الجهتين وبعضها مطل على البركة المعروفة ببركة ابي الشوارب وتقدم في اخبار العام الماضي ان الباشا صاهره وزوج ابنته لبعض اقارب الباشا الخصيصين به مثل الذي يقال له شريف آغا وآخر وعمل له مهما عظيما احتفل فيه الى الغاية وزفة وشنكا كل ذلك وهو متمرض الى ان مات في ثاني عشرين ربيع الثاني وضبطت تركته فوجد له كثير من النقود والجواهر والامتعة وغير ذلك فسبحان الحي الذي لايموت
عجائب الآثار في التراجم والأخبار
المؤلف : عبد الرحمن بن حسن الجبرتي
مجلة نافذة ثقافية ـ البوابة