منتدى نافذة ثقافية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الحديث التاسع

    بص وطل
    بص وطل
    Admin


    عدد المساهمات : 2283
    تاريخ التسجيل : 29/04/2014

    الحديث التاسع Empty الحديث التاسع

    مُساهمة من طرف بص وطل الجمعة ديسمبر 07, 2018 7:16 pm

    الحديث التاسع Game10

    بّسم الله الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الحديث الشريف
    جامع العلوم والحكم
    الحديث التاسع 1410
    ● [ الحديث التاسع ] ●

    عَنْ أَبي هُرُيرة - رضي الله عنه - قال : سَمِعتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( ما نَهَيتُكُمْ عَنْهُ ، فاجْتَنِبوهُ ، وما أمرتُكُم به ، فأتُوا منهُ ما استطعتُم ، فإنَّما أهلَكَ الَّذين من قبلِكُم كَثْرَةُ مسائِلِهم واختلافُهم على أنبيائِهم ) .
    رواهُ البخاريُّ ومُسلمٌ(1) .

    الشرح
    هذا الحديثُ بهذا اللفظ(2) خرَّجه مسلم وَحْدَهُ من رواية الزهري ، عن سعيد ابن المسيب وأبي سلمة ، كلاهما عن أبي هُريرة(3) ، وخرَّجاه من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( دَعُوني ما تركتُكم ، إنَّما أهلَكَ مَنْ كَانَ قَبلَكُم سؤالُهم واختلافُهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتَنبُوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم ) (4) وخرَّجه مسلم مِن طريقين آخرين(5) عن أبي هريرة بمعناه(6) .
    __________
    (1) أخرجه : البخاري 9/116 ( 7288 ) ، ومسلم 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) و7/91 ( 1337 ) ( 130 ) و( 131 ) .
    وأخرجه : معمر في " جامعه " ( 20372 ) ، والحميدي ( 1125 ) ، وأحمد 2/247 و258 و428 و447 و448 و457 و467 و482 و495 و508 و517 ، وابن ماجه ( 1 ) و( 2 ) ، والترمذي ( 2679 ) ، والنسائي 5/110-111 ، وابن خزيمة ( 2508 ) ، وابن حبان ( 18 ) و( 19 ) و( 21 ) ، والبيهقي 4/326 و7/103 ، والبغوي ( 99 ) من حديث أبي هريرة ، به .
    (2) عبارة : ( بهذا اللفظ ) سقطت من ( ص ) .
    (3) في " صحيحه " 7/91 ( 1337 ) ( 130 ) .
    (4) صحيح البخاري 9/116 ( 7288 ) ، وصحيح مسلم 7/91 ( 1337 ) ( 131 ) .
    (5) زاد بعدها في ( ص ) : ( عن الزهري ) .
    (6) في " صحيحه " 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) و7/91 ( 1337 ) ( 131 ) .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وفي رواية له ذكرُ سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : خطبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( يا أيَّها النَّاس قد فرضَ الله عليكم الحجَّ فحجُّوا ) فقال رجل : أكُلَّ عامٍ يا رسول الله ؟ فسكت حتَّى قالها ثلاثاً ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو قلتُ : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتُم ) ثمَّ قال : ( ذَرُوني ما تَرَكْتُكُم ، فإنَّما أُهْلِكَ مَنْ كانَ قبلَكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتُكُم بشيءٍ ، فأتوا منه ما استطعتُم ، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فدعوه(1) )(2) .
    وخرَّجه الدَّارقطني من وجه آخر مختصراً(3) ، وقال فيه : فنَزل قولُه تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (4) .
    وقد رُوِي مِن غير وجهٍ أنَّ هذه الآية نزلت لمَّا سألوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجِّ ، وقالوا : أفي كلِّ عام ؟ (5)
    __________
    (1) في ( ص ) : ( فاجتنبوه ) .
    (2) أخرجه : مسلم 4/102 ( 1337 ) ( 412 ) .
    وأخرجه : أحمد 2/508 ، والنسائي 5/110-111 ، والطبري في " تفسيره " ( 9980 ) ، وابن حبان ( 3704 ) ، والدارقطني 2/247 ( 2679 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) من حديث أبي هريرة ، به .
    (3) " السنن " 2/247 ( 2680 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) من حديث أبي هريرة ، به .
    (4) المائدة : 101 .
    (5) انظر : تفسير ابن أبي حاتم 4/1217 ( 6875 ) ، وتفسير القرطبي 6/331 ، وأسباب النزول للواحدي : 334 بتحقيقي ، وتفسير البغوي 2/92 ، وبحر العلوم 3/158 ، وتفسير ابن الجوزي 2/434 ، والبحر المحيط 4/35 ، والدر المنثور 2/592 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وفي " الصحيحين " (1) عن أنس قال : خطبنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رجل : من أبي ؟ فقال : ( فلان ) ، فنَزلت هذه الآية { لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } (2) .
    وفيهما أيضاً عن قتادة ، عن أنسٍ قال : سألوا(3) رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى أحْفَوهُ في المسألة، فغضب ، فصَعدَ المنبر ، فقال : ( لا تسألوني اليومَ عن شيءٍ إلا بيَّنتُه ) ، فقام رجل كان إذا لاحى الرجالَ دُعِيَ إلى غير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قالَ : ( أبوك حُذافة ) ، ثم أنشأ(4) عمرُ ، فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمَّد رسولاً ، نعوذ بالله من الفتن . وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية(5) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } (6) .
    وفي " صحيح البخاري "(7) عن ابن عباس قال : كان قومٌ يسألون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاءً ، فيقولُ الرجلُ : من أبي ؟ ويقول الرجلُ تَضِلُّ ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله هذه الآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ } .
    __________
    (1) أخرجه : البخاري 1/34 ( 93 ) و1/143 ( 540 ) و6/68 ( 4621 ) و9/118
    ( 7294 ) وفي " الأدب المفرد " ، له ( 1184 ) ، ومسلم 7/93 ( 2359 ) ( 136 ) و7/94 ( 2359 ) ( 136 ) .
    (2) المائدة : 101 .
    (3) في ( ص ) : ( يا ) .
    (4) في ( ص ) : ( جثا ) .
    (5) أخرجه : البخاري 8/96 ( 6362 ) و9/66 ( 7089 ) و118 ( 7294 ) ، ومسلم 7/94 ( 2359 ) ( 137 ) .
    وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 9972 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 4/1218
    ( 6878 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
    (6) المائدة : 101 .
    (7) الصحيح 6/68 ( 4622 ) .
    وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 9971 ) ، والبغوي في " تفسيره " 2/92 ، وابن الجوزي في " تفسيره " 2/434 ، من حديث عبد الله بن عباس ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وخَرَّج ابن جرير الطبري في " تفسيره " (1) من حديث أبي هريرة ، قال :
    خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبانُ مُحمارّاً وجهه ، حتّى جلس على المنبرِ ، فقام إليه رجلٌ ، فقال : أين أنا ؟ فقالَ : ( في النار ) ، فقام إليه آخر(2) فقالَ : من أبي ؟ قال : ( أبوك حُذافة ) ، فقام عمر فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وبالقرآن إماماً ، إنا يا رسول الله حديثو عهدٍ بجاهلية وشركٍ ، والله أعلم مَن آباؤنا ، قال : فسكن غضبُه ، ونزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (3) .
    وروى أيضاً(4)
    __________
    (1) التفسير ( 9977 ) ، وطبعة التركي 9/17 .
    وأخرجه : الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 1475 ) ، وقال ابن كثير في " تفسيره " : 660 : ( إسناده جيد ) ، وانظر : الدر المنثور 2/592 .
    (2) في ( ص ) : ( رجل ) .
    (3) المائدة : 101 .
    (4) أي الطبري ، وهو في " تفسيره " ( 9982 ) ، وفي طبعة التركي 9/20-21 .
    وأخرجه : ابن أبي حاتم ( 6881 ) و( 6884 ) ، وإسناده ضعيف جداً .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    من طريق العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } قال : إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذَّن في الناس ، فقال : ( يا قوم كُتِبَ عليكُم الحجُّ ) ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ، أفي كلِّ عامٍ ؟ فأُغْضِبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً ، فقال : ( والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم ، لوجَبَت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذن لكفرتُم ، فاتركُونِي ما تركتُكم ، فإذا أمرتكم بشيءٍ ، فافعلوا منه ما استطعتم (1)، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فانتهوا عنه ) ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
    تَسُؤْكُم } ، نهاهم أنْ يسألوا مثلَ الذي سألتِ النَّصارى في المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال : لا تسألوا عن أشياء إنْ نزل القرآن فيها بتغليظٍ ساءكم(2) ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآنُ ، فإنَّكم لا تسألون عن شيء
    إلا وجدتُم تبيانه .
    فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السُّؤال عمَّا لا يُحتاج إليه مما يسوءُ السائلَ جوابُه مثل سؤال السائل ، هل هوَ في النار أو في الجنة ، وهل أبوه من ينتسب إليه أو غيره ، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء (3) ، كما كان يفعلُه كثيرٌ من المنافقين وغيرهم .
    وقريبٌ من ذلك سؤالُ الآيات واقتراحُها على وجه التعنتِ ، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب ، وقد قال عكرمة وغيرُه : إنَّ الآية نزلت في ذلك(4) .
    __________
    (1) منه ما استطعتم ) سقطت من ( ج ) .
    (2) من قوله : ( وقال لا تسألوا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (3) في ( ص ) : ( على التعنت والاستهزاء ) .
    (4) ذكره : ابن الجوزي في " تفسيره " 2/435 ، وأبو حيان في " تفسيره " 4/35 ، والسيوطي في " الدر المنثور " 2/594 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ويقرب من ذلك السؤالُ عما أخفاه الله عن عباده ، ولم يُطلعهم عليه ، كالسؤال عن وقتِ الساعة ، وعن الروح .
    ودلَّت أيضاً على نهي المسلمين عن السؤال عن كثيرٍ من الحلالِ والحرام مما يُخشى أنْ يكون السؤال سبباً لنزول التشديد فيه ، كالسُّؤال عَنِ الحجِّ : هل يجب كلَّ عامٍ أم لا(1) ؟ وفي " الصحيح " (2) عن سعدٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( إنَّ أعظمَ المسلمين في المسلمين جرماً مَنْ سأل عن شيءٍ لم يحرَّم ، فحُرِّمَ من أجل مسألته ) .
    ولما سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اللِّعان كره المسائل وعابها حتى ابتُلي السائلُ عنه قبلَ وقوعه بذلك في أهله(3) ، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعةِ المال(4) .
    __________
    (1) أم لا ) سقطت من ( ص ) .
    (2) صحيح البخاري 9/117 ( 7289 ) .
    وأخرجه : الحميدي ( 67 ) ، وأحمد 1/176 و179 ، ومسلم 7/92 ( 2358 ) ( 132 ) و( 133 ) ، وأبو داود ( 4610 ) ، وابن حبان ( 110 ) من حديث سعد ، به .
    (3) أخرجه : أحمد 2/12 و19 و42 ، والدارمي ( 2237 ) ، ومسلم 4/206 ( 1493 )
    ( 4 ) ، والترمذي ( 1202 ) ، والنسائي 6/175 وفي "التفسير" ، له ( 377 ) و( 378 ) ، وابن الجارود ( 752 ) ، وأبو يعلى ( 5656 ) و( 5772 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 19542 ) ، وابن حبان ( 4286 ) و( 4287 ) ، والبيهقي 7/404-405 من حديث
    عبد الله بن عمر ، به .
    (4) أخرجه : البخاري 2/153 ( 1477 ) .
    ونصه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنّ الله كره لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وَكثرة السؤال ) من حديث المغيرة بن شُعبة ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ولم يكن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُرخِّصُ في المسائل إلاَّ للأعرابِ ونحوهم من الوُفود القادمين عليه ، يتألَّفهم بذلك ، فأمَّا المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رَسَخَ الإيمانُ في قلوبهم ، فنُهُوا عَنِ المسألة ، كما في " صحيح مسلم "(1) عن النَّوَّاس بن سمعان ، قال : أقمتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة سنة ما يمنعني منَ الهجرة إلاَّ المسألةُ ، كان أحدُنا إذا هاجر لم يسأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - .
    وفيه أيضا عن أنسٍ ، قال : نُهينا أنْ نسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ ، فكان يُعجِبُنا أنْ يجيءَ الرجلُ من أهل البادية العاقل ، فيسأله ونحنُ نَسْمَعُ(2).
    وفي " المسند "(3)
    __________
    (1) الصحيح 8/7 ( 2553 ) ( 15 ) .
    (2) صحيح مسلم 1/32 ( 12 ) ( 10 ) .
    ... وأخرجه : أحمد 3/143 و168 و193 ، وعبد بن حميد ( 1285 ) ، والدارمي ( 656 ) ، والبخاري 1/24 ( 63 ) ، وأبو داود ( 486 ) ، وابن ماجه ( 1402 ) ، والترمذي ( 619 ) ، والنسائي 4/121-122 ، وابن خزيمة ( 2358 ) ، وأبو عوانة 1/2-3 ، وابن حبان ( 154 ) و( 155 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 129 ) و( 130 ) ، والحاكم في " معرفة علوم الحديث " ( 5 ) ، والبيهقي 4/325 ، والبغوي ( 3 ) و( 4 ) و( 5 ) من حديث أنس بن مالك ، به .
    (3) مسند أحمد 5/266 .

    وأخرجه : الدارمي ( 240 ) ، وابن ماجه ( 228 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7867 ) و( 7875 ) و( 7906 ) ، والخطيب في " تاريخ بغداد " 2/212 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العِلم وفضله " 1/28 ، وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن علي الألهاني .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    عن أبي أُمامة قال : كان الله قد أنزل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم } (1) قال : فكنَّا قد كرهنا كثيراً مِنْ مسألته ، واتَّقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فأتينا أعرابياً ، فرشوناه بُرداً ، ثمَّ قلنا له : سلِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وذكر حديثاً .
    وفي "مسند أبي يعلى"(2) عن البراء بنِ عازب، قال(3): إنْ كان لتأتي عليَّ السنةُ أريد أنْ أسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ ، فأتهيب منه ، وإنْ كنَّا لنتمنَّى الأعرابَ .
    وفي " مسند البزار " (4) عن ابن عباس قال : ما رأيت قوماً خيراً من أصحابِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألةً ، كلُّها في القرآن : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } (5) ، { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } (6) ، { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } (7) ، وذكر الحديث .
    __________
    (1) المائدة : 101 .
    (2) في " مسنده الكبير " كما في " المطالب العالية " ( 3961 ) ، وأخرجه الروياني في " مسنده " ( 308 ) ، وإسناده جيد .
    (3) في ( ص ) : ( وفي مسند البزار عن ابن عباس ، قال ) .
    (4) بعد تتبع مسند البزار لم نجده قد خرّج هذا الحديث ، كما أن الهيثمي لم يخرجه في " مجمع الزوائد " ولا في " كشف الأستار " . وأخرجه : الدارمي ( 125 ) ، والطبراني في " الكبير "
    ( 12288 ) ، وعندهما ثلاثة عشرة مسألة .
    ... ونسبه الهيثمي في " المجمع " 1/158-159 للطبراني عن ابن عباس ، به .
    (5) البقرة : 217 .
    (6) البقرة : 220 .
    (7) البقرة : 220 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وقد كان أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يسألونه عن حكم حوادثَ قبلَ وقوعها ، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له : إنَّا لاقوا العدوِّ غداً ، وليس معنا مُدىً ، أفنذبح بالقصَبِ ؟(1) وسألوه عَنِ الأُمراءِ الَّذينَ أخبر عنهم بعدَه ، وعن طاعتهم وقتالهم ، وسأله حذيفةُ عن الفتنِ ، وما يصنع فيها(2) .
    فهذا الحديث ، وهو قولهُ - صلى الله عليه وسلم - : ( ذَرُوني ما تركتُكم ، فإنَّما هلك مَنْ كان قبلَكُم بكثرةِ سُؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، يدلُّ على كراهة المسائل وذمِّها ، ولكن بعضَ الناس يزعمُ أنَّ ذلك كان مختصاً بزمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يُحرم ، أو إيجاب ما يشقُّ القيام به ، وهذا قد أمن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - .
    ولكن ليس هذا وحده هو سببَ كراهة المسائل ، بل له سببٌ آخر ، وهو الذي أشارَ إليه ابنُ عباس في كلامه الذي ذكرنا بقوله : ولكن(3) انتظرُوا ، فإذا نزل القرآن ، فإنَّكم لا تَسألونَ عن شيءٍ إلا وجدتم تبيانه .
    __________
    (1) أخرجه : البخاري 3/181 ( 2488 ) و3/185 ( 2507 ) و4/91 ( 3075 ) و7/117 ( 5498 ) و7/119 ( 5503 ) و( 5506 ) و7/127 ( 5543 ) و( 5544 ) ، ومسلم 6/78 ( 1968 ) ( 20 ) و( 21 ) و( 22 ) و( 23 ) ، وأبو داود ( 2821 ) ، وابن ماجه ( 3137 ) و(3178 ) و( 3183 ) ، والترمذي ( 1491 ) و( 1492 ) و( 1600 ) ، والنسائي 7/191 و221 و226 و228 ، والطبراني في " الكبير " ( 4385 ) من حديث رافع بن خديج ، به .
    (2) أخرجه : البخاري 4/242 ( 3606 ) و9/65 ( 7084 ) ، ومسلم 6/20 ( 1827 ) ( 51 ) ، وابن ماجه ( 3979 ) .
    (3) سقطت من ( ص ) .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ومعنى هذا : أنَّ جميعَ ما يَحتاجُ إليه المسلمون في دينهم لابدَّ أنْ يُبينه الله في كتابه العزيز ، ويبلِّغ ذلك رسوله عنه ، فلا حاجةَ بعدَ هذا لأحدٍ في السؤال ، فإنَّ الله تعالى أعلمُ بمصالح عباده منهم ، فما كان فيه هدايتُهم ونفعُهُم ، فإن الله لابدَّ أنْ يبيِّنه لهمُ ابتداءً من غيرِ سؤال ، كما قال : { يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } (1) ، وحينئذ فلا حاجة إلى السُّؤال عن شيءٍ ، ولا سيما قبلَ وقوعه والحاجة إليه ، وإنَّما الحاجةُ المهمةُ إلى فهم ما أخبرَ الله به ورسولُه ، ثمَّ اتباعُ ذلك والعملُ به ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسأَل عنِ المسائل ، فيُحيل على القرآن ، كما سأله عمرُ عنِ الكَلالَةِ ، فقالَ: ( يَكفيك آيةُ الصيف )(2) .
    __________
    (1) النساء : 176 .
    (2) أخرجه : الطيالسي ( 11 ) ، وأحمد 1/15 و26 و27 و48 ، ومسلم 2/81-82
    ( 567 ) ( 78 ) و5/61 ( 1617 ) ، وابن ماجه ( 2726 ) ، وأبو يعلى ( 184 ) ، وابن خزيمة ( 1666 ) ، وابن حبان ( 2091 ) ، والبيهقي 3/78 و6/224 من حديث عمر بن الخطاب ، به .
    والمصقود بآية الصيف : الآية التي نزلت في الصيف ، وهي قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } النساء : 176 . شرح النووي لصحيح مسلم 3/46 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وأشار - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى أنَّ في الاشتغال بامتثالِ أمرِه ، واجتنابِ نهيه شغلاً عن المسائل ، فقال : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه ، وإذا أمرتُكم بأمرٍ ، فأتوا منه ما استطعتم ) فالذي يتعيَّنُ على المسلم الاعتناءُ به والاهتمامُ أنْ يبحثَ عمَّا جاءَ عن الله ورسوله(1) - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يجتهدُ في فهم ذلك ، والوقوف على معانيه ، ثم يشتغل بالتصديقِ بذلك إنْ كان من الأمور العلمية ، وإنْ كان من الأمور العملية ، بذل وسْعَهُ في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر ، واجتناب ما يُنهى عنه ، وتكون همَّتُهُ مصروفةً بالكلية إلى ذلك ؛ لا إلى غيره . وهكذا كان حالُ(2) أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسّانٍ في طلب العلم النافع مِنَ الكتاب والسنة .
    فأما إنْ كانت همةُ السامع مصروفةً عند سماعِ الأمر والنهي إلى فرض أمورٍ قد تقع ، وقد لا تقع ، فإنَّ هذا مما يدخل في النَّهي ، ويثبِّطُ عنِ الجد في متابعة الأمر . وقد سألَ رجلٌ ابنَ عمر عن استلام الحجر ، فقال له : رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّلُه ، فقال له الرجل : أرأيتَ إنْ غُلِبْتُ عليه ؟ أرأيت إنْ زُوحِمْتُ ؟ فقالَ لهُ ابن عمر : اجعل ( أرأيت ) باليمن، رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلِمُه ويقبِّلُه . خرَّجه الترمذي(3).
    __________
    (1) في ( ص ) : ( عما جاء به الرسول ) .
    (2) سقطت من ( ص ) .
    (3) في " جامعه " ( 861 ) .
    وأخرجه : الطيالسي ( 1864 ) ، وأحمد 2/152 ، والبخاري 2/186 ( 1611 ) ، والنسائي 5/231 ، والبيهقي 5/74 من حديث عبد الله بن عمر ، به .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ومرادُ ابن عمر أنَّه لا يكن لك همٌّ إلا في الاقتداء بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حاجةَ إلى فرضِ العجزِ عنْ ذلك أو تعسُّره قبلَ وقوعه ؛ فإنَّه قد يفتُرُ العزمُ على التَّصميم على المتابعة ، فإنَّ التَّفقُّهَ في الدِّين ، والسُّؤالَ عن العِلم إنَّما يُحمَدُ إذا كان للعمل ، لا لِلمراءِ والجدال .
    وقد روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه ذكر فتناً تكونُ في آخر الزَّمان ، فقال له عمر : متَى ذلك يا عليُّ ؟ قال : إذا تُفُقِّه لغير الدين ، وتُعُلِّم لغير العمل ، والتمست الدنيا بعمل (1) الآخرة (2) .
    وعن ابن مسعود أنَّه قال : كيف بكم إذا لَبِستكم فتنةٌ يربو فيها الصغيرُ ، ويَهْرَمُ فيها الكبيرُ، وتُتَّخَذُ سُنةً، فإنْ غيرت يوماً قيل: هذا منكر ؟ قالوا: ومتى ذَلِكَ؟ قال : إذا قلَّت أمناؤكم ، وكثرت أمراؤُكم ، وقلَّت فقهاؤُكم ، وكثر قُرَّاؤُكم ، وتُفُقِّهَ لغير الدين، والتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة. خرَّجهما عبد الرزاق في "كتابه"(3).
    ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبلَ وقوعها ، ولا يُجيبون عن ذلك ، قال عمرو بن مُرة : خرج عمرُ على الناس ، فقال : أُحرِّجُ عليكم أنْ تسألونا عن ما لم يكن ، فإنَّ لنا فيما كان شغلاً(4) .
    __________
    (1) في ( ج ) : ( بغير ) .
    (2) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20743 ) من رواية عبد الرزاق عنه .
    (3) أخرجه : معمر في " جامعه " ( 20742 ) من رواية عبد الرزاق ، والدارمي 1/64 ( طبعة دار الفكر ) ، والحاكم 4/514 ، وأبو نعيم في " الحلية " .
    (4) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/141 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/76 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وعن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعتُ عمر لعنَ السَّائل عمَّا لم يكن(1) .
    وكان زيدُ بنُ ثابتٍ إذا سُئِلَ عن الشَّيءِ يقول : كان هذا ؟ فإنْ قالوا : لا ، قال : دعوه حتّى يكون(2) .
    وقال مسروقٌ : سألت أبيَّ بن كعبٍ عن شيءٍ ، فقال : أكان بعدُ ؟ فقلت : لا ، فقال : أجِمَّنا – يعني : أرحنا حتَّى يكونَ - ، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا(3) .
    وقال الشَّعبيُّ : سئل عمارٌ عن مسألة فقال : هل كان هذا بعدُ ؟ قالوا : لا ، قال : فدعونا حتَّى يكون ، فإذا كان تَجَشَّمْنَاهُ لكم(4) .
    وعن الصَّلْتِ بنِ راشدٍ ، قال : سألت طاووساً عن شيء ، فانتهرني وقال : أكان هذا ؟ قلت : نعم ، قال : آلله ؟ قلت : آلله ، قال : إنَّ أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل أنَّه قال : أيُّها النَّاسُ ، لا تعجلوا بالبلاء قَبْلَ نزوله(5) ، فيذهب بكم هاهنا وهاهنا ، فإنَّكم إنْ لم تعجَلوا بالبلاء قَبْلَ نزوله ، لم ينفكَّ المسلمون أنْ يكونَ فيهم مَنْ إذا سُئِلَ سُدِّدَ ، أو قال وُفِّقَ(6) .
    وقد خرَّجه أبو داود في كتاب " المراسيل "(7)
    __________
    (1) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/139 و143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/75 .
    (2) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 183 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142-143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
    (3) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142 .
    (4) ذكره : إسحاق بن راهويه كما في " المطالب العالية " ( 3328 ) ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
    (5) من قوله : ( فيذهب بكم ها هنا ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
    (6) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 183-184 .
    (7) المراسيل : 224 .
    وأخرجه : إسحاق بن راهويه كما في " المطالب العالية " ( 3329 ) ، والطبراني في " الكبير " 20/( 353 ) .
    وذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/142 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وهو ضعيف لانقطاعه ؛ فإنَّ طاووساً لم يسمع من معاذ ، ومعنى الإرسال هنا هو المعنى العام الذي يراد به كل انقطاع .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    مرفوعاً من طريق ابن عجلان ، عن طاووس ، عن معاذ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تعجَلوا بالبلية قبل نزولها ، فإنَّكم إنْ لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أنْ يكون منهم من إذا قال سُدِّدَ أو وفق ، وأنَّكم إنْ عجِلْتُم ، تشتِّتُ بكمُ السُّبُلَ هاهنا وهاهنا . ومعنى إرساله(1) أنَّ طاووساً لم يسمع من معاذ .
    وخرَّجه أيضاً من رواية يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، بمعناه (2) مرسلاً(3) .
    وروى الحجاج بن منهال : حدَّثنا جرير بن حازم ، سمعتُ الزبير بنَ سعيدٍ : أنَّ رجلاً من بني هشامٍ قالَ : سمعتُ أشياخنا يحدِّثونَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( لا يزالُ في أمتي من إذا سئلَ سدّد وأرشدَ حتَّى يسألوا عنْ ما لا ينْزل تبينهُ ، فإذا فعلوا ذَلِكَ ذُهبَ بهم هاهنا وهاهنا(4) ) .
    وقد روى الصنابحيُّ، عنْ معاوية، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أنَّهُ نهى عنِ الأغلوطات ) خرَّجهُ الإمامُ أحمد رحمه الله (5) .
    وفسرهُ الأوزاعيُّ وقالَ : هي شدادُ المسائلِ(6) .
    __________
    (1) سقطت من ( ص ) .
    (2) سقطت من ( ص ) .
    (3) ذكره : ابن حجر في " فتح الباري " 13/327 .
    (4) ذكره : ابن حجر في " فتح الباري " 13/327 ، وهو ضعيف لضعف الزبير بن سعد ، ولجهالة من فوقه .
    (5) في " مسنده " 5/435 .
    وأخرجه : أبو داود ( 3656 ) ، والطبراني في " الكبير " 19/( 892 ) و( 913 ) وفي " مسند الشاميين " ، له ( 2108 ) ، والآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وإسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن سعد .
    (6) أخرجه : سعيد بن منصور في " سننه " ( 1179 ) ، وأحمد 5/435 ، والطبراني في "الكبير" 19/( 892 ) ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/139 . وذكره ابن القيم في " إعلام الموقعين " 1/76 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/323 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وقال عيسى بنُ يونسَ : هي ما لا يحتاجُ إليهِ منْ كيف وكيف(1) .
    ويروى من حديثِ ثوبانَ ، عنِ النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : ( سيكونُ أقوامٌ منْ أمتي يُغَلِّطونَ فقهاءهم بعضلِ المسائلِ ، أولئكَ شرارُ أمتي ) .(2)
    وقالَ الحسنُ : شرارُ عبادِ اللهِ الذينَ يتبعونَ شرارَ المسائلَ يَغُمُّون بها عبادَ اللهِ(3).
    وقالَ الأوزاعيُّ : إنَّ اللهَ إذا أرادَ أنْ يَحرُمَ عبدَهُ بركةَ العلمِ ألقى على لسانهِ
    المغاليط ، فلقدْ رأيتهم أقلَّ النَّاسِ علماً(4) .
    وقالَ ابنُ وهبٍ ، عنْ مالكٍ : أدركتُ هذه البلدة وإنَّهم ليكرهون الإكثارَ الذي فيهِ النَّاس اليومَ : يريدُ المسائلَ(5) .
    وقالَ أيضاً : سمعتُ مالكاً وهو يعيبُ كثرةَ الكلامِ وكثرةَ الفتيا ، ثُمَّ قالَ : يتكلمُ كأنَّهُ جملٌ مغتلمٌ ، يقولُ : هوَ كذا هوَ كذا يهدرُ في كلامهِ .
    وقال: سمعتُ مالكاً يكره(6) الجوابَ في كثرة المسائل(7)، وقال : قال الله - عز وجل -: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } (8) فلم يأته في ذلك جواب .
    __________
    (1) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/11 .
    (2) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 1431 ) ، والآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وإسناده ضعيف جداً ؛ فإنَّ يزيد بن ربيعة متروك ، وانظر : مجمع الزوائد 1/155 .
    (3) ذكره : الآجري في " أخلاق العلماء " : 185 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/145 .
    (4) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/145 ، وابن حجر في فتح الباري 13/323 .
    (5) ذكره : ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/143 ، وابن حجر في " فتح الباري " 13/323 نحوه .
    (6) سقطت من ( ص ) .
    (7) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2/141 و145 ، وإعلام الموقعين 1/83 .
    (8) الإسراء : 85 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وكان مالكٌ يكره المجادلة عن السُّنن أيضاً(1) . قال الهيثم بن جميل : قلت لمالك : يا أبا عبدِ الله ، الرجلُ يكونُ عالماً بالسُّنن يُجادل عنها ؟ قال : لا ، ولكن يخبر بالسُّنَّةِ ، فإنْ قُبِلَ منه ، وإلاّ سكت .
    قال إسحاق بن عيسى : كان مالك يقول : المِراء والجِدال في العلم يَذهبُ بنور العلم من قلب الرجل .
    وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول(2) : المراء في العلم يُقسِّي القلوب ، ويورِّث الضغن .
    وكان أبو شريح الإسكندراني يوماً في مجلسه ، فكثُرَتِ المسائلُ ، فقال : قد دَرِنَتْ قلوبُكم منذُ اليوم ، فقوموا إلى أبي حُميدٍ خالد بن حميد اصقُلوا قلوبكم ، وتعلَّمُوا هذه الرغائب ، فإنَّها تُجدِّدُ العبادة ، وتُورث الزهادة ، وتجرُّ الصداقة ، وأقِلُّوا المسائلَ إلا ما نزل ، فإنَّها تقسي القلوب ، وتورث العداوة .
    وقال الميمونيُّ : سمعتُ أبا عبد الله - يعني : أحمد - يُسأل عن مسأَلة ، فقال : وقعَت هذه المسألة ؟ بُليتم بها بعدُ ؟
    وقد انقسم الناسُ في هذا الباب أقساماً :
    فمن أتباع أهلِ الحديث منْ سدَّ بابَ المسائل حتَّى قلَّ فقهه وعلمُه بحدود ما أنزل الله على رسوله ، وصار حامِلَ فقه غير فقيه(3) .
    __________
    (1) انظر : سير أعلام النبلاء 8/108 .
    (2) في ( ص ) : ( وقال مالك ) بدل : ( وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول ) .
    (3) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18.

    بص وطل
    بص وطل
    Admin


    عدد المساهمات : 2283
    تاريخ التسجيل : 29/04/2014

    الحديث التاسع Empty تابع شرح الحديث التاسع

    مُساهمة من طرف بص وطل الثلاثاء يناير 08, 2019 2:26 pm

    ● [ الصفحة التالية ] ●

    ومن فقهاء أهل الرأي من توسَّع في توليدِ المسائل قبلَ وقوعها ، ما يقع في العادة منها وما لا يقع ، واشتغلُوا بتكلُّفِ الجواب عنْ ذلك(1) ، وكثرة الخصومات فيه ، والجدال عليه حتَّى يتولدَ مِنْ ذلك افتراقُ القلوب ، ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترن ذلك كثيراً بنية المغالبة، وطلب العلوِّ والمباهاة ، وصرف وجوه الناس وهذا ممَّا ذمه العلماءُ الربانيون ، ودلَّتِ السُّنَّةُ على قبحه وتحريمه .
    وأما فقهاء أهل الحديث العامِلُون به ، فإنَّ معظمَ همِّهمُ البحثُ عن معاني كتاب الله - عز وجل - ، وما يُفسِّرُهُ من السنن الصحيحة ، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسّان ، وعن سُنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعرفة صحيحها وسقيمِها ، ثم التفقه فيها وتفهمها ، والوقوف على معانيها ، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسّان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ، ومسائل الحلال والحرام ، وأصول السُّنة والزهد والرقائق وغيرِ ذلك ، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَنْ وافقه من علماء الحديث الرَّبّانيين ، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغُل بما أحدثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به ، ولا يقع ، وإنَّما يُورثُ التجادلُ فيه الخصوماتِ والجدالَ وكثرة القيل والقال . وكان الإمام أحمد كثيراً إذا سُئِلَ عن شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول : دعونا منْ هذه المسائل المحدثة(2) .
    __________
    (1) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18 ، ومناهج الاجتهاد في الإسلام في الأحكام الفقهيه والعقائدية : 121 .
    (2) انظر : المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة : 18-19 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وما أحسن ما قاله يونسُ بنُ سليمان السَّقَطِيُّ : نظرتُ في الأمرِ ، فإذا هو الحديث والرأي ، فوجدتُ في الحديث ذكرَ الرب - عز وجل - وربوبيتَه وإجلاله وعظمته ، وذكرَ العرش وصفة الجنة والنار ، وذكرَ النبيين والمرسلين ، والحلال والحرام ، والحثَّ على صلة الأرحام(1) ، وجماع الخير فيه ، ونظرت في الرأي ، فإذا فيه المكرُ ، والغدرُ ، والحيلُ ، وقطيعة الأرحام ، وجماع الشَّرِّ فيه .
    وقال أحمد بن شبويه : من أراد علمَ القبرِ فعليه بالآثار ، ومن أراد علم الخُبْزِ ، فعليه بالرأي(2) .
    ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه ، تمكَّن من فهم جواب
    الحوادث الواقعة غالباً ؛ لأنَّ أصولها تُوجد في تلك الأصول المشار إليها ، ولابدَّ أنْ
    يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمَعِ على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومن سلك مسلكَهم ، فإنَّ مَنِ ادعى سلوكَ هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوزَ ومهالك ، وأخذ بما لا يجوز الأخذُ به ، وترك ما يجب العملُ به(3) .
    __________
    (1) في ( ص ) : ( على فعل الخير ) .
    (2) ذكره : الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 11/7-8 ، وفي " تذكرة الحفاظ " 2/464 .
    (3) انظر : إعلام الموقعين 1/75-76 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ومِلاكُ الأمرِ كلِّه أنْ يقصِدَ بذلك وجه الله ، والتقرُّبَ إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله ، وسلوكِ طَريقه ، والعمل بذلك ، ودعاء الخلق إليه ، ومَنْ كان كذلك ، وفَّقه الله وسدَّده ، وألهمه رشده ، وعلَّمه ما لم يكن يعلم ، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (1) ، ومن الراسخين في العلم، وقد خرَّج ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" من حديث أبي الدرداء : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الرَّاسخين في العلم ، فقال : ( من برَّت يمينُه ، وصدق لسانُه ، واستقامَ قلبُه ، ومن عفَّ بطنُه وفرجُه ، فذلك مِنَ الرَّاسخين في العلم )(2) .
    وقال نافع بن يزيد : يقال : الرَّاسخونَ في العلم : المتواضعون لله ، والمتذلِّلون لله في مرضاته لا يتعاطون من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم(3) .
    __________
    (1) فاطر : 28 .
    (2) التفسير 2/599 ( 3205 ) .
    وأخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 5212 ) ، وطبعة التركي 5/223 والطبراني ( 7658 ) ، وهذا حديث باطل وعلته عبد الله بن يزيد بن آدم ، قال الإمام أحمد : ( أحاديثه موضوعة ) . لسان الميزان 5/40 .
    (3) ذكره : ابن كثير في " تفسيره " : 352 ( طبعة دار ابن حزم ) .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ويشهد لهذا قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أتاكم(1) أهلُ اليمن ، هُمْ أبرُّ قلوباً ، وأرقُّ أفئدةً . الإيمان يمانٍ ، والفِقه يمانٍ ، والحكمة يمانيةٌ )(2) . وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري ، ومن كان على طريقهِ من عُلَماء أهلِ اليمن ، ثمَّ إلى مثل أبي مسلم الخولاني ، وأويس القَرَنيِّ ، وطاووس ، ووهب بن منبه ، وغيرهم من عُلماء أهل اليمن ، وكلُّ هؤلاء مِنَ العلماء الربانيين الخائفين لله ، فكلهم علماءُ بالله يخشونه ويخافونه ، وبعضُهم أوسعُ علماً بأحكام الله وشرائع دينه من بعض ، ولم يكن تميُّزهم عن الناس بكثرة قيلٍ وقالٍ ، ولا بحثٍ ولا جدالٍ .
    وكذلك معاذُ بنُ جبل - رضي الله عنه - أعلم الناس بالحلال والحرام(3) ، وهو الذي يحشر يومَ القيامة أمام العلماء برتوة(4)
    __________
    (1) سقطت من ( ص ) .
    (2) أخرجه : الحميدي ( 1049 ) ، وأحمد 2/235 و474 و480 و502 ، والبخاري 5/219 ( 4388 ) ، ومسلم 1/51 ( 52 ) ( 82 ) و( 83 ) و( 84 ) و1/53 ( 52 ) ( 90 )
    و( 91 ) ، والترمذي ( 3935 ) ، والبغوي ( 4001 ) من حديث أبي هريرة ، به .
    (3) انظر : حلية الأولياء 1/228 ، وسير أعلام النبلاء 1/446 ، وتذكرة الحفاظ 1/19 .
    (4) أخرجه : أحمد 1/18 ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/228 .
    وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 1/446 ، وفي " تذكرة الحفاظ " 1/19 .
    والرتوة : الدرجة والمنزلة .
    انظر : النهاية 2/195 ، ولسان العرب 5/134 ، وتاج العروس 4/524 ، ومختار الصحاح : 233 ، وجاءت هذه اللفظة في بعض كتب الحديث : ( قذفه ) وفي بعضها : ( نبذه ) .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها ، بل قد سبق عنه كراهةُ الكلام فيما لا يقع ، وإنما كان عالماً بالله وعالماً بأصول دينه . وقد قيل للإمام أحمد : مَنْ نسألُ بعدَك ؟ قال : عبد الوهَّاب الورَّاق ، قيل له : إنَّه ليس له اتَّساعٌ في العلم ، قال : إنَّه رجل صالح مثلُه يُوفَّقُ لإصابة الحق .
    وسئل عن معروف الكرخي ، فقال : كان معه أصلُ العلم : خشية الله . وهذا يرجعُ إلى قولِ بعض السَّلف : كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار بالله جهلاً . وهذا بابٌ واسع يطول استقصاؤه .
    ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فنقول : مَنْ لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا يوجدُ مثلُها في كتاب ، ولا سنة ، بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله ، وقصدُه بذلك امتثالُ الأوامر ، واجتنابُ النواهي ، فهو ممَّنِ امتثلَ أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، وعَمِلَ بمقتضاه ، ومن لم يكن اهتمامُه بفهم ما أنزل الله على رسوله ، واشتغل بكثرةِ توليدِ المسائل قد تقع وقد لا تقع ، وتكلَّفَ أجوبتها بمجرَّد الرأي ، خُشِيَ عليه أنْ يكونَ مخالفاً لهذا الحديث ، مرتكباً لنهيه ، تاركاً لأمره .
    واعلم أنَّ كثرةَ وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنَّما هو مِنْ ترك الاشتغال بامتثالِ أوامر الله ورسوله ، واجتنابِ نواهي الله ورسوله ، فلو أنَّ من أرادَ أنْ يعمل عملاً سأل عمَّا شرع الله في ذلك العمل فامتثله ، وعما نهى عنه فاجتنبه ، وقعت الحوادثُ مقيدةً بالكتاب والسنة .
    وإنَّما يعمل العاملُ بمقتضى رأيه وهواه ، فتقع الحوادثُ عامَّتُها مخالفةً لما شرعه الله وربما عسر ردُّها إلى الأحكام المذكورةِ في الكتاب والسنة ؛ لبعدها عنها .
    وفي الجملة : فمن امتثل ما أمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ، وانتهى عما نهى عنه ، وكان مشتغلاً بذلك عن غيره ، حَصَلَ له النجاةُ في الدنيا والآخرة ، ومَنْ خالف ذلك ، واشتغلَ بخواطرهِ وما يستحسنه ، وقع فيما حذَّرَ منه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، وعدمِ انقيادهم وطاعتهم لرسلهم .
    وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ ، فاجتنبوه وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) قال بعضُ العلماء : هذا يؤخذ منه أنَّ النَّهيَّ أشدُّ من الأمر ؛ لأنَّ النَّهيَّ لم يُرَخَّصْ في ارتكاب شيء منه ، والأمر قُيِّدَ بحسب الاستطاعة(1) ، ورُوي هذا عن الإمام أحمد .
    ويشبه هذا قولُ بعضهم : أعمال البِرِّ يعملُها البرُّ والفاجرُ ، وأمَّا المعاصي ، فلا يتركها إلاَّ صِدِّيق(2) .
    ورُوي عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( اتَّق المحارم ، تَكُن أعبدَ الناس )(3) .
    وقالت عائشة رضي الله عنها : من سرَّه أنْ يسبق الدائبَ المجتهدَ ، فليكفَّ عن الذنوب ، وروي عنها مرفوعاً(4) .
    وقال الحسن : ما عُبِّدَ العابدون بشيءٍ أفضلَ من ترك ما نهاهم الله عنه .
    __________
    (1) انظر : التمهيد في أصول الفقه 1/364 .
    (2) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 10/211 من قول سهل التستري .
    (3) أخرجه : أحمد 2/310 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 252 )، وابن ماجه ( 4217 ) ، والترمذي ( 2305 ) ، وأبو يعلى ( 5865 ) و( 6240 ) ، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" : 42 ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/365 ، والبيهقي في " الزهد " ( 818 ) ، وقال الترمذي : ( غريب ) أي ضعيف ، وبعضهم قواه بالشواهد ، وتصدير المصنف له بصيغة التمريض يريد تضعيفه ، والله أعلم .
    (4) أخرجه : أبو يعلى ( 4950 ) مرفوعاً ، وإسناده ضعيف لضعف يوسف بن ميمون .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    والظاهر أنَّ ما ورد مِن تفضيل ترك المحرَّمات على فعل الطاعات ، إنَّما أُريد به على نوافل الطّاعات ، وإلاّ فجنسُ الأعمال الواجبات أفضلُ مِنْ جنسِ ترك المحرَّمات ؛ لأنَّ الأعمال مقصودة لذاتها ، والمحارم المطلوبُ عدمها ، ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمالِ ، وكذلك كان جنسُ ترك الأعمال قد يكون كفراً كتركِ التوحيد ، وكتركِ أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق ، بخلاف ارتكاب(1) المنهيات فإنَّه لا يقتضي الكفر بنفسه ، ويشهد لذلك قولُ ابنِ عمر : لردُّ دانقٍ من حرام أفضلُ مِنْ مئة ألف تُنْفَقُ في سبيل الله .
    وعن بعض السَّلفِ قال : تركُ دانق مما يكره الله أحبُّ إليَّ من خمس مئة حجة .
    وقال ميمون بن مِهران : ذكرُ اللهِ باللسان حسن ، وأفضلُ منه أنْ يذكر الله العبدُ عندَ المعصية فيمسِكَ عنها(2) .
    وقال ابنُ المبارك : لأنْ أردَّ درهماً من شبهة أحبُّ إلىَّ من أنْ أتصدَّقَ بمئة ألفٍ ومئة ألف ، حتّى بلغ ست مئة ألف .
    وقال عمر بنُ عبد العزيز : ليست التقوى قيامَ الليل ، وصِيام النهار ، والتخليطَ فيما بَيْنَ ذلك ، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله ، وترك ما حرَّم الله ، فإنْ كان مع ذلك عملٌ ، فهو خير إلى خير ، أو كما قال(3) .
    وقال أيضاً : وددتُ أني لا أصلي غيرَ الصَّلوات الخمس سوى الوتر ، وأنْ أؤدِّي الزكاة ، ولا أتصدَّق بعدها بدرهم ، وأنْ أصومَ رمضان ولا أصوم بعده يوماً أبداً ، وأنْ أحجَّ حجة الإسلام ثم لا أحجَّ بعدها أبداً ، ثم أعمد إلى فضل قوتي ، فأجعله فيما حرَّم الله عليَّ ، فأمسك عنه .
    وحاصل كلامهم يدلُّ على أنَّ اجتناب المحرمات - وإنْ قلَّتْ - فهي أفضلُ من الإكثار من نوافل الطاعات فإنَّ ذلك فرضٌ ، وهذا نفلٌ .
    __________
    (1) سقطت من ( ص ) .
    (2) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 4/87 .
    (3) ذكره : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 48/153 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وقالت طائفة من المتأخرين : إنَّما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ؛ لأنَّ امتثالَ الأمر لا يحصلُ إلاّ بعمل ، والعملُ يتوقَّفُ وجودُه على شروط وأسباب ، وبعضها قد لا يُستطاع ، فلذلك قيَّده بالاستطاعة ، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة ، قال تعالى : { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (1) . وقال في الحجّ : { وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (2) .
    وأما النهيُّ : فالمطلوب عدمُه ، وذلك هو الأصل ، فالمقصود استمرار العدم (3) الأصلي ، وذلك ممكن ، وليس فيه ما لا يُستطاع ، وهذا أيضاً فيه نظر ، فإنَّ الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قوياً ، لا صبر معه للعبد على الامتناع مع فعل المعصية مع القدرة عليها ، فيحتاج الكفُّ عنها حينئذٍ إلى مجاهدةٍ شديدةٍ ، ربما كانت أشقَّ على النفوس من مجرَّدِ مجاهدة النفس على فعل الطاعة ، ولهذا يُوجَدُ كثيراً من يجتهد فيفعل الطاعات ، ولا يقوى على ترك المحرمات(4) .
    وقد سئل عمرُ عن قومٍ يشتهون المعصية ولا يعملون بها ، فقال : أولئِكَ قومٌ امتحنَ الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم .
    وقال يزيد بن ميسرة : يقولُ الله في بعض الكتب : أيُّها الشابُّ التارك شهوتَه ، المتبذل شبابه من أجلي ، أنت عندي كبعض ملائكتي(5) .
    وقال : ما أشد الشهوة في الجسد ، إنَّها مثلُ حريق النار ، وكيف ينجو منها الحصوريون ؟(6) .
    __________
    (1) التغابن : 16 .
    (2) آل عمران : 97 .
    (3) سقطت من ( ص ) .
    (4) انظر : قواطع الأدلة 1/138-139 ، والمستصفى 2/25-26 ، والمحصول 2/303-304 ، والإبهاج في شرح المنهاج 2/71 ، والبحر المحيط 2/153 .
    (5) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 5/237 .
    (6) ذكره : أبو نعيم في " الحلية " 5/241 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    والتحقيق في هذا أنَّ الله لا يكلِّفُ العبادَ مِنَ الأعمال ما لا طاقةَ لهم به ، وقد أسقط عنهم كثيراً من الأعمال بمجرَّدِ المشقة رخصةً عليهم ، ورحمةً لهم ، وأمَّا المناهي ، فلم يَعْذِرْ أحداً بارتكابها بقوَّةِ الدَّاعي والشَّهوات ، بل كلَّفهم تركها على كلِّ حال، وأنَّ ما أباح أنْ يُتناول مِنَ المطاعم المحرَّمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة ، لا لأجل التلذذ والشهوة ، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد: إنَّ النهي أشدُّ من الأمر. وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث ثوبان وغيره أنَّه قال : ( استقيموا ولن تُحْصُوا ) (1) يعني : لن تقدروا على الاستقامة كلها .
    وروى الحكم بن حزن الكُلَفي ، قال : وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشهدتُ معه الجمعة ، فقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئاً على عصاً أو قوسٍ ، فحمِدَ الله ، وأثنى عليه بكلماتٍ خفيفاتٍ طيباتٍ مباركاتٍ ، ثُمَّ قال : ( أيُّها النَّاسُ إنَّكم لن تُطيقُوا ، أو لن تَفْعَلوا كُلَّ ما أَمَرْتُكم به ، ولكن سَدِّدُوا وأبشِرُوا ) خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود(2) .
    __________
    (1) وأخرجه : الطيالسي ( 996 ) ، وأحمد 5/278 و282 ، والدارمي ( 661 ) ، وابن ماجه ( 277 )، وابن حبان ( 1037 )، والطبراني في " الصغير " 1/8 ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 170 )، والبيهقي 1/457، والخطيب في "تاريخه" 1/293 ، وهو حديث صحيح.
    (2) مسند أحمد 4/212 ، وسنن أبي داود ( 1096 ) .
    ... وأخرجه : ابن سعد في "الطبقات" 5/516، وأبو يعلى ( 6826 )، وابن خزيمة ( 1452 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3165 ) ، والبيهقي في " السنن " 3/206 ، وفي " دلائل النبوة " ، له 5/354 ، وابن الأثير في " أُسد الغابة " 2/34 ، وهو حديث حسن .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) دليلٌ على أنَّ من عَجَزَ عن فعل المأمور به كلِّه ، وقدرَ على بعضه ، فإنَّه يأتي بما أمكنه منه ، وهذا مطرد في مسائل :
    منها : الطهارة ، فإذا قدر على بعضها ، وعجز عن الباقي : إما لعدم الماء ، أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض، فإنَّه يأتي مِنْ ذلك بما قدر عليه ، ويتيمم للباقي، وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور(1) .
    ومنها : الصلاة ، فمن عَجَزَ عن فعل الفريضة قائماً صلَّى قاعداً ، فإن عجز صلَّى مضطجعاً(2) ، وفي "صحيح البخاري" (3) عن عِمْرَانَ بن حصين: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ( صَلِّ قائماً، فإنْ لم تستطع فقاعداً ، فإنْ لم تستطع فعلى جنبٍ ) ، ولو عجز عن ذلك كلِّه ، أومأ بطرفه ، وصلى بنيته ، ولم تسقُط عنه الصلاةُ على المشهور(4) .
    ومنها : زكاة الفطر ، فإذا قَدَرَ على إخراج بعضِ صاع ، لزمه ذلك على الصحيح(5)
    __________
    (1) انظر : الأُم 2/96-97 ، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 1/162-163 ، واللباب 1/30-31، والمحلى 2/75 ، والهداية للكلوذاني 1/71 بتحقيقنا ، وبداية المجتهد 1/86-87، والمغني 1/267 ، ومنتهى الإرادات 1/33 .
    (2) انظر : المغني 1/813-815 .
    (3) الصحيح 2/60 ( 1117 ) .
    وأخرجه : أحمد 4/426 ، وأبو داود ( 952 ) ، وابن ماجه ( 1223 ) ، والترمذي
    ( 372 )، وابن خزيمة ( 979 ) و( 1250 ) ، والدارقطني 1/369 ( 1410 ) و( 1411 ) و( 1412 ) ( طبعة دار الكتب العلمية ) ، والبيهقي 2/304 ، والبغوي ( 983 ) .
    (4) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 1/192 ، والهداية للكلوذاني 1/124 بتحقيقنا ، والمغني 1/817 ، ومنتهى الإرادات 1/120 .
    (5) انظر : رؤوس المسائل في الخِلاف 1/307 ، والمغني 2/652 ، قال الإمام الكلوذاني - رحمه الله -: زكاة الفطر واجبة على كل مسلم فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع ، وإن فضل بعض صاع فهل يلزمه إخراجه ؟ على روايتين . انظر : الهداية للكلوذاني 1/175 بتحقيقنا . جاء في الشرح الكبير علىالمغني : إحداهما : لا يلزمه ، وهو اختيار ابن عقيل ؛ لأنها طُهرة فَلا تجب على من يعجز عن بعضها كالكفارة . والثانية : يلزمه ؛ لأنها طهرة فوجب منها ما قَدر عليه . انظر : الشرح الكبير على المغني 2/649 .
    ● [ الصفحة التالية ] ●
    ، فأمَّا من قدر على صيامِ بعض النهار دُونَ تكملته ، فلا يلزمه ذلك بغير
    خلاف ؛ لأنَّ صيامَ بعض اليوم ليس بقُربَةٍ في نفسه(1) ، وكذا لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه ؛ لأنَّ تبعيض العتق غير محبوب للشارع بل يُؤْمَرُ بتكميله بكلِّ طريق(2) .
    وأما من فاته الوقوفُ بعرفةَ في الحج، فهل يأتي بما بقيَ منه من المبيت بمزدلفة ، ورمي الجمار أم لا ؟ بل يقتصر على الطواف والسعي ، ويتحلل بعمرة على روايتين عن أحمد ، أشهرهما : أنَّه يقتصر على الطواف والسعي ؛ لأنَّ المبيتَ والرميَّ من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه ، وإنَّما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام ، وبذكره في الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات ، فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة كما لا يؤمر به المعتمر(3) .
    __________
    (1) انظر : رؤوس المسائل في الخلاف 1/346 ، والهداية للكلوذاني 1/204-205 بتحقيقنا ، ومنتهى الإرادات 1/227 .
    (2) انظر : الهداية للكلوذاني 1/192-193 بتحقيقنا .
    (3) انظر : المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 1/295-296 ، والهداية للكلوذاني 1/247 بتحقيقنا ، والمغني 3/56 ، ومنتهى الإرادات 1/288 ، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 2/543-544 .
    ● [ تم شرح الحديث ] ●

    الحديث التاسع Fasel10

    جامع العلوم والحكم
    لإبن رجب الحنبلي
    منتدى ميراث الرسول . البوابة
    الحديث التاسع E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 6:06 pm