بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم كليلة ودمنة للفليسوف بيدبا ● [ ما تبقى من باب الأسد والثور ] ●
قال دمنة: لا يغرنك قولك: هو لي طعام وليس علي منه مخافةٌ: فإن شتربة إن لم يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غيره. ويقال: إن استضافك ضيفٌ ساعةً من نهارٍ، وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك؛ ولا تأمن أن يصلك منه أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث. قال الأسد: وكيف كان ذلك، قال دمنة: زعموا أن قملة لزمت فراش رجلٍ من الأغنياء دهراً فكانت تصيب من دمه وهو نائمٌ لا يشعر، وتدب دبيباً رفيقاً؛ فمكث كذلك حيناً حتى استضافها ليلةً من الليالي برغوثٌ؛ فقالت له: بت الليلة عندنا في دمٍ طيبٍ وفراشٍ لينٍ؛ فأقام البرغوث عندها حتى إذا أوى الرجل إلى فراشه وثب عليه البرغوث فلدغه لدغةً أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إلا القملة؛ فأخذت فقصعت وفر البرغوث. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه. وإن كنت لا تخاف من شتربة، فخف غيره من جندك الذين قد حملهم عليك وعلى عداوتك. فوقع في نفس الأسد كلام دمنة. فقال: فما الذي ترى إذاً ، وبماذا تشير، قال دمنة: إن الضرس لا يزال متآكلاً، ولا يزال صاحبه منه في ألمٍ وأذًى حتى يفارقه. والطعام الذي قد عفن في البطن، الراحة في قذفه. والعدو المخوف، دواؤه قتله. قال الأسد: لقد تركتني أكره مجاورة شتربة إياي؛ وأنا مرسلٌ إليه، وذاكراً له ما وقع في نفسي منه؛ ثم آمره باللحاق حيث أحب. فكره دمنة ذلك، وعلم أن الأسد متى كلم شتربة في ذلك وسمع منه جواباً عرف باطل ما أتى به، واطلع على غدره وكذبه؛ ولم يخف عليه أمره. فقال للأسد: أما إرسالك إلى شتربة فلا أراه لك رأياً ولا حزماً؛ فلينظر الملك في ذلك: فإن شتربة متى شعر بهذا الأمر، خفت أن يعاجل الملك بالمكابرة. وهو إن قاتلك قاتلك مستعداً؛ وإن فارقك، فارقك فراقاً يليك منه النقص، ويلزمك منه العار. مع أن ذوي الرأي من الملوك لا يعلنون عقوبة من لم يعلن ذنبه؛ ولكن لكل ذنب عندهم عقوبةٌ: فلذنب العلانية عقوبة العلانية، ولذنب السر عقوبة السر. قال الأسد: إن الملك إذا عاقب أحداً عن ظنةٍ ظنها من غير تيقن بجرمه، فنفسه عاقب وإياها ظلم. قال دمنة: أما إذا كان هذا رأي الملك، فلا يدخلن عليك شتربة إلا وأنت مستعدٌ له؛ وإياك أن تصيبك منه غرةٌ أو غفلةٌ: فإني لا أحسب الملك حين يدخل عليه إلا سيعرف أنه قد هم بعظيمةٍ. ومن علامات ذلك أنك ترى لونه متغيراً؛ وترى أوصاله ترعد؛ وتراه ملتفتاً يميناً وشمالاً؛ وتراه يهز قرنيه فعل الذي هم بالنطاح والقتال. قال الأسد: سأكون منه على حذرٍ؛ وإن رأيت منه ما يدل على ما ذكرت علمت أن ما في أمره شكٌ. فلما فرغ دمنة من حمل الأسد على الثور، وعرف أنه قد وقع في نفسه ما كان يلتمس، وأن الأسد سيتحذر الثور، ويتهيأ له، أراد أن يأتي الثور ليغريه بالأسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل الأسد مخافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به. فقال: أيها الملك ألا آتي بشتربة فانظر إلى حاله وأمره؛ وأسمع كلامه: لعلي اطلع على سره، فأطلع الملك على ذلك، وعلى ما يظهر لي منه ، فأذن له الأسد في ذلك. فانطلق فدخل على شتربة كالكئيب الحزين. فلما رآه الثور رحب به، وقال: كان سبب انقطاعك عني ، فإني لم أرك منذ أيامٍ؛ ولعلك في سلامةٍ ، قال دمنة: ومتى كان أهل السلامة من لا يملك نفسه، وأمره بيد غيره ممن لا يوثق به، ولا ينفك على خطرٍ وخوفٍ. حتى ما من ساعة تمر ويأمن فيها على نفسه. قال شتربة: وما الذي حدث، قال دمنة: حدث ما قدر وهو كائنٌ. ومن ذا الذي غالب القدر ، ومن ذا الذي بلغ من الدنيا جسيماً من الأمور فلم يبطر ، ومن ذا الذي بلغ منياه فلم يغتر ، ومن ذا الذي تبع هواه فلم يخسر ، ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم يحرم ، ومن ذا الذي خالط الأشرار فسلم ، ومن ذا الذي صحب السلطان فذام له منه الأمن والإحسان، قال شتربة: إني أسمع منك كلاماً يدل على أنه قد رابت من الأسد ريبٌ، وهالك منه أمرٌ. قال دمنة: أجل، لقد رابني منه ذلك، وليس هو في أمر نفسي، قال شتربة: ففي نفس من رابك ، قال دمنة: قد تعلم ما بيني وبينك، وتعلم حقك علي، وما كنت جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني الأسد إليك، فلم أجد لك بداً من حفظك وإطلاعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه. قال شتربة: وما الذي بلغك ، قال دمنة: حدثني الخبير الصدوق الذي لا مرية في قوله أن الأسد قال لبعض أصحابه وجلسائه: قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي إلى حياته حاجةٌ، فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه. فلما بلغني هذا القول، وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لأقضي حقك؛ وتحتال أنت لأمرك. فلما سمع شتربة كلام دمنة، وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد والميثاق، وفكر في أمر الأسد، ظن أن دمنة قد صَدَقَهُ ونصح له؛ ورأى أن الأمر شبيهٌ بما قال دمنة. فأهمه ذلك؛ وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي ولم آت إليه ذنباً، ولا إلى أحد من جنده، منذ صحبته؛ ولا أظن الأسد إلا قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري ، فإن الأسد قد صحبه قوم سوءٍ؛ وجرَّب منهم الكذب وأموراً هي تصدق عنده ما بلغه من غيرهم ، فإن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار؛ وحملته تجربته على الخطأ كخطأ البطة التي زعموا أنها رأت في الماء ضوء كوكبٍ، فظنته سمكةً، فحاولت أن تصيدها، فلما جربت ذلك مراراً، علمت أنه ليس بشيءٍ يصاد فتركته. ثم رأت من غد ذلك اليوم سمكةً، فظنت أنها مثل الذي رأته بالأمس، فتركتها ولم تطلب صيدها. فإن كان الأسد بلغه عني كذبٌ فصدقه علي وسمعه في، فما جرى على غيري يجري علي. وإن كان لم يبلغه شيءٌ، وأراد السوء بي من غير علةٍ، فإن ذلك لمن أعجب الأمور. وقد كان يقال: إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى. وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط. فإذا كانت الموجدة عن علةٍ، كان الرضا موجوداً والعفو مأمولاً. وإذا كانت عن غير علةٍ، انقطع الرجاء: لأن العلة إذا كانت المودة في ورودها، كان الرضا مأمولاً في صدورها. قد نظرت: فلا أعلم بيني وبين الأسد جرماً، ولا صغير ذنب، ولا كبيره. ولعمري ما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس في كل شيءٍ من أمره، ولا أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرةٌ أو كبيرةٌ يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقطةً نظر فيها، وعرف قدر مبلغ خطئه عمداً كان أو خطأً. ثم ينظر هل في الصفح عنه أمرٌ يخاف ضره وشينه ، فلا يؤاخذ صاحبه بشيءٍ يد فيه إلى الصفح عنه سبيلاً. فإن كان الأسد قد اعتقد على ذنباً؛ فلست أعلمه؛ إلا أني خالفته في بعض رأيه نصيحةً له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على الجراءة عليه والمخالفة له؛ ولا أجد لي في هذا المحضر إثماً ما ، لأني لم أخالفه في شيءٍ إلا ما قد ندر من خالفة الرّشد والمنفعة والدِّين، ولم أجاهر بشيءٍ من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكني كنت أخلو به وأكلمه سراً كلام الهائب الموقر وعلمت أنه من التمس الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطاً ، وحمل الوزر. وإن لم يكن هذا، فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان ، فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ، وإن صوحب بالسلامة والثقة والمودة وحسن الصحبة. وإن لم يكن هذا، فبعض ما أوتيت من الفضل قد جعل لي فيه الهلاك. وإن لم يكن هذا ولا هذا، فهو إذاً من مواقع القضاء والقدر الذي لا يدفع عنه؛ وهو الذي يحمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل الهائج؛ وهو الذي يسلط على الحية ذات الحمة من ينزع حمتها ويلعب بها؛ وهو الذي يجعل العاجز حازماً، ويثبط الشهم، ويوسع على المقتر ، ويشجع الجبان، ويجبن الشجاع عندما تعتريه المقادير من العلل التي وضعت عليه الأقدار. قال دمنة: إن إرادة الأسد بك ليست من تحميل الأشرار ولا سكرة السلطان ولا غير ذلك، ولكنها الغدر والفجور منه: فإنه فاجرٌ خوانٌ غدارٌ ، لطعامه حلاوةٌ وآخره سمٌ مميتٌ. قال شتربة: فأراني قد استلذذت الحلاوة إذ ذقتها ، وقد انتهيت إلى آخرها الذي هو الموت؛ ولولا الحين ما كان مقامي عند الأسد، وهو آكل لحمٍ وأنا آكل عشبٍ فأنا في هذه الورطة كالنحلة التي تجلس على نور النيلوفر إذ تستلذ ريحه وطعمه، فتحبسها تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها، فترتبك فيه وتموت. ومن لم يرض من الدنيا بالكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إلى ما سوى ذلك، ولم يتخوف من عاقبتها، كان كالذباب الذي لا يرضى بالشجرة والرياحين، ولا يقنعه ذلك، حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل، فيضربه الفيل بآذانه فيهلكه. ومن يبذل وده ونصيحته لمن لا يشكره، فهو كمن يبذر في السباخ. ومن يشر على المعجب، فهو كمن يشاور الميت أو يسار الأصم. قال دمنة: دع عنك هذا الكلام واحتل لنفسك. قال شتربة: بأي شيءٍ أحتال لنفسي، إذا أراد الأسد أكلي، مع ما عرفتني به من رأي الأسد وسوء أخلاقه ، وأعلم أنه لم يرد بي إلا خيراً، ثم أراد أصحابه بمكرهم وفجورهم هلاكي لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع المكرة الظلمة على البريء الصحيح، كانوا خلقاء أن يهلكوه، وإن كانوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك الذئب والغراب وابن آوى الجمل، حين اجتمعوا عليه بالمكر والخديعة والخيانة. قال دمنة: وكيف كان ذلك، قال شتربة: زعموا أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس؛ وكان له أصحابٌ ثلاثةٌ: ذئبٌ وغرابٌ وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جمالٌ، فتخلف منها جملٌ، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد؛ فقال له الأسد: من أين أقبلت ، قال: من موضع كذا. قال: فما حاجتك ، قال: ما يأمرني به الملك. قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب. فأقام الأسد والجمل معه زمناً طويلاً. ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد، فلقي فيلاً عظيماً، فقاتله قتالاً شديداً؛ وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، وقد خدشه الفيل بأنيابه. فلما وصل إلى مكانه، وقع لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً: لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وطعامه؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ وهزالٌ، وعرف الأسد ذلك منهم؛ فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكنا نرى الملك على ما نراه. فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه. قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به؛ فيصيبني ويصيبكم منه رزقٌ. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد؛ فتنحوا ناحيةً، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: مالنا ولهذا الأكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا، ولا رأيه من رأينا ، ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه ، قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد: لأنه قد أمن الجمل، وجعل له من ذمته عهداً. قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد. ثم انطلق فدخل على الأسد؛ فقال له الأسد: هل أصبت شيئاً ، قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. وأما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون. قال الأسد: وما ذاك ، قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرّغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً. فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما اعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمةž وما كنت حقيقاً أن تجتري علي بهذه المقالة، وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً ، وقد أمنته ولست بغادر به. قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت؛ وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى بها أهل المصر؛ وأهل المصر فداء الملك. وقد نزلت بالملك الحاجة؛ وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك، ولا يليه بنفسه، ولا يأمر به أحداً؛ ولكنا نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصلاحٌ وظفرٌ. فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب. فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه، فقال لهم: قد كلمت الأسد في أكله الجمل؛ على أن نجتمع نحن والجمل عند الأسد، فنذكر ما أصابه، ونتوجع له اهتماماً منا بأمره، وحرصاً على صلاحه؛ ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجملاً ليأكله، فيرد الآخران عليه، ويسفها رأيه، ويبينان الضرر في أكله. فإذا فعلنا ذلك، سلمنا كلنا ورضي الأسد عنا. ففعلوا ذلك، وتقدموا إلى الأسد؛ فقال الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك؛ ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك: فإنا بك نعيش؛ فإذا هلكت فليس لأحدٍ منا بقاءٌ عندك، ولا لنا في الحياة من خيرةٍ؛ فليأكلني الملك: فقد طبت بذلك نفساً. فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فلا خير للملك في أكلك؛ وليس فيك شبعٌ. قال ابن آوى لكن أنا أشبع الملك، فليأكلني: فقد رضيت بذلك، وطبت عنه نفساً. فرد عليه الذئب والغراب بقولهما: إنك لمنتنٌ قذرٌ. قال الذئب: إني لست كذلك، فليأكلني الملك، فقد سمحت بذلك، وطبن عنه نفساً؛ فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئبٍ. فظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل، التمسوا له عذراً كما التمس بعضهم لبعضٍ الأعذار، فيسلم ويرضى الأسد عنه بذلك، وينجو من المهالك. فقال: لكن أنا في للملك شبعٌ وريٌ؛ ولحمي طيبٌ هنيٌ، وبطني نظيفٌ، فليأكلني الملك، ويطعم أصحابه وخدمه: فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به. فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وكرم؛ وقال ما عرف. ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنه إن كان أصحاب الأسد قد اجتمعوا على هلاكي فإني لست أقدر أن أمتنع منهم، ولا أحترس؛ وإن كان رأي الأسد لي على غير ما هم من الرأي في، فلا ينفعني ذلك، ولا يغني عني شيئاً. وقد يقال: خير السلاطين من عدل في الناس. ولو أن الأسد لم يكن في نفسه لي إلا الخير والرحمة، لغيرته كثرة الأقاويل: فإنها إذا كثرت لم تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة. ألا ترى الماء ليس كالقول؛ وأن الحجر لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه. وكذلك القول في الإنسان. قال دمنة: فماذا تريد أن تصنع الآن ، قال شتربة: ما أرى إلا الاجتهاد والمجاهدة بالقتال ، فإنه ليس للمصلي في صلاته، ولا للمتصدق في صدقته، ولا للورع في ورعه من الأجر ما للمجاهد عن نفسه، إذا كانت مجاهدته على الحق. قال دمنة: لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه، وهو يستطيع غير ذلك، ولكن ذا الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ وبادئٍ قبل ذلك بما استطاع من رفقٍ وتمحلٍ. وقد قيل: لا تحقرن العدو الضعيف المهين، ولا سيما إذا كان ذا حيلةٍ ويقدر على الأعوان؛ فكيف بالأسد على جراءته وشدته ، فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى ، قال شتربة: وكيف كان ذلك، قال دمنة: لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه، وهو يستطيع غير ذلك، ولكن ذا الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ وبادئٍ قبل ذلك بما استطاع من رفقٍ وتمحلٍ. وقد قيل: لا تحقرن العدو الضعيف المهين، ولا سيما إذا كان ذا حيلةٍ ويقدر على الأعوان؛ فكيف بالأسد على جراءته وشدته ، فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى ، قال شتربة: وكيف كان ذلك، قال دمنة: زعموا أن طائراً من طيور البحر يقال له الطيطوى كان وطنه على ساحل البحر، ومعه زوجةٌ له، فلما جاء أوان تفريخها قالت الأنثى للذكر: لو التمسنا مكاناً حريزاً نفرخ فيه: فإني أخشى من وكيل البحر إذا مد الماء أن يذهب بفراخنا. فقال لها: أفرخي مكانك: فإنه موافق لنا؛ والماء والزهر منا قريبٌ. قالت له: يا غافل ليحسن نظرك ، فإن أخاف وكيل البحر أن يذهب بفراخنا. فقال لها أفرخي مكانك: فإنه لا يفعل ذلك فقالت له: ما أشد تعنتك ، أما تذكر وعيده وتهديده إياك ، ألا تعرف نفسك وقدرك ، فأبى أن يطيعها. فلما أكثرت عليه ولم يسمع قولها، قالت له: إن من لم يسمع قول الناصح يصيبه ما أصاب السلحفاة حين لم تسمع قول البطتين. قال الذكر: وكيف كان ذلك ، قالت الأنثى: زعموا أن غديراً كان عنده عشبٌ، وكان فيه بطتان وكان في الغدير سلحفاةٌ، بينها وبين البطتين مودةٌ وصداقةٌ. فاتفق أن غيض ذلك الماء؛ فجاءت البطتان لوداع السلحفاة، وقالتا: السلام عليك فإننا ذاهبتان عن هذا المكان لأجل نقصان الماء عنه. فقالت: إنما يبين نقصان الماء على مثلي ، فإني كالسفينة لا أقدر على العيش إلا بالماء. فأما أنتما فتقدران على العيش حيث كنتما. فاذهبا بي معكما . قالتا لها: نعم . قالت: كيف السبيل إلى حملي ، قالتا: نأخذ بطرفي عودٍ، وتتعلقين بوسطه؛ ونطير بك في الجو. وإياك، إذا سمعت الناس يتكلمون، أن تنطقي. ثم أخذتاها فطارتا بها في الجو. فقال الناس: عجبٌ: سلحفاة بين بطتين، قد حملتاها. فلما سمعت ذلك قالت: فقأ الله أعينكم أيها الناس، فلما فتحت فاها بالنطق وقعت على الأرض فماتت. قال الذكر: قد سمعت مقالتك؛ فلا تخافي وكيل البحر. فلما مد الماء ذهب بفراخها. فقالت الأنثى: قد عرفت في بدء الأمر أن هذا كائنٌ. قال الذكر: سوف أنتقم منه. ثم مضى إلى جماعة الطير فقال لهن: إنكن أخواتي وثقاتي: فأعنني. قلن: ما تريد أن نفعل ، قال: تجتمعن وتذهبن معي إلى سائر الطير، فنشكو إليهن ما لقيت من وكيل البحر؛ ونقول لهن: إنكن طيرٌ مثلنا: فأعننا. فقالت له جماعة الطير: إن العنقاء هي سيدتنا وملكتنا: فاذهب بنا إليها حتى نصيح بها، فنظهر لنا؛ فنشكو إليها ما نالك من وكيل البحر؛ ونسألها أن تنتقم لنا بقوة ملكها. ثم إنهن ذهبن إليها من الطيطوى، فستغثنها؛ وصحن بها؛ فتراءت لهن فأخبرنها بقصتهن؛ وسألنها أن تسير معهن إلى محاربة وكيل البحر، فأجابتهن إلى ذلك. فلما علم وكيل البحر أن العنقاء قد قصدته في جماعة الطير خاف من محاربة ملكٍ لا طاقة له به. فرد فراخ الطيطوى؛ وصالحه فرجعت العنقاء عنه. وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم أن القتال مع الأسد لا أراه لك رأياً. قال شتربة: فما أنا بمقاتل الأسد، ولا ناصب له العداوة سراً ولا علانيةً لا متغيرٍ له عما كنت عليه، حتى يبدو لي منه ما أتخوف فأغالبه. فكره دمنة قوله، وعلم أن الأسد إن لم ير من الصور العلامات التي ذكرها له اتهمه وأساء به الظن. فقال دمنة لشتربة: اذهب إلى الأسد فستعرف حين ينظر إليك ما يريد منك. قال شتربة: وكيف أعرف ذلك ، قال دمنة: سترى الأسد حين تدخل عليه مقعياً على ذنبه، رافعاً صدره إليك، ماداً بصره نحوك، قد صر أذنيه وفغر فاه، واستوى للوثبة. قال شتربة: إن رأيت هذه العلامات من الأسد عرفت صدقك في قولك. ثم إن دمنة لما فرغ من حمل الأسد على الصور، والثور على الأسد توجه إلى كليلة. فلما التقيا، قال كليلة: إلام انتهى عملك الذي كنت فيه، قال دمنة: قريبٌ من الفراغ على ما أحب وتحب. ثم إن كليلة ودمنة انطلقا جميعاً ليحضرا قتال الأسد والثور، وينظرا ما يجري بينهما، ويعاينا ما يئول إليه أمرهما. وجاء شتربة، فدخل على الأسد، فرآه مقعياً كما وصفه له دمنة، فقال: ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به. ثم إن الأسد نظر إلى الثور فرأى الدلالات التي ذكرها له دمنة ، فلم يشك أنه جاء لقتاله. فواثبه، ونشأ بينهما الحرب، واشتد قتال الثور والأسد، وطال، وسالت بينهما الدماء. فلما رأى كليلة أن الأسد قد بلغ منه ما قد بلغ. قال لدمنة: أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك في تدبيرك، قال دمنة: وما ذاك، قال كليلة: جرح الأسد وهلك الثور. وإن أخرق الخرق من حمل صاحبه على سوء الخلق والمبارزة والقتال، وهو يجد إلى غير ذلك سبيلاً. وإن العاقل يدبر الأشياء ويقيسها قبل مباشرتها ، فما رجا أن يتم له منها أقدم عليه، وما خاف أن يتعذر عليه منها انحرف عنه، ولم يلتفت إليه. وإني لأخاف عليك عاقبة بغيك هذا، فإنك قد أحسنت القول ولم تحسن العمل. أين معاهدتك إياي أنك لا تضر بالأسد في تدبيرك ، وقد قيل: لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور. واعلم أن الأدب يذهب عن العاقل الطيش، ويزيد الأحمق طيشاً؛ كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً، ويزيد الخفاش سوء النظر. وقد أذكرني أمرك شيئاً سمعته، فإن يقال: إن السلطان إذا كان صالحاً، ووزراؤه وزراء سوءٍ، منعوا خيره، فلا يقدر أحدٌ أن يدنو منه. ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح ، لا يقدر أحدٌ أن يتناوله، وإن كان إلى الماء محتاجاً. وأنت يا دمنة أردت ألا يدنو من الأسد أحد سواك. وهذا أمرٌ لا يصح ولا يتم أبداً. وذلك للمثل المضروب: إن البحر بأمواجه، والسلطان بأصحابه. ومن الحمق الحرص على التماس الإخوان بغير الوفاء لهم، وطلب الآخرة بالرياء، ونفع النفس بغير الضر. وما عظتي وتأديبي إياك إلا كما قال الرجل للطائر: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم، ولا تعالج تأديب من لا يتأدب. قال دمنة: وكيف كان ذلك، قال كليلة: زعموا أن جماعةً من القردة كانوا سكاناً في جبلٍ، فالتمسوا في ليلةٍ باردةٍ ذات رياح وأمطارٍ نادراً، فلم يجدوا، فرأوا يراعةً تطير كأنها شرارة نارٍ، فظنوها ناراً، وجمعوا حطباً كثيراً فألقوه عليها، وجعلوا ينفخون طمعاً أن يوقدوا ناراً يصطلون بها من البرد. وكان قريباً منهم طائر على شجرةٍ، ينظرون إليه وينظر إليهم، وقد رأى ما صنعوا، فجعل يناديهم ويقول: لا تتعبوا فإن الذي رأيتموه ليس بنارٍ. فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لنهاهم عما هم فيه، فمر به رجلٌ فعرف ما عزم عليه. فقال له: لا تلتمس تقومي ما لا يستقيم: فإن الحجر المانع الذي لا ينقطع لا تجرب عليه السيوف، والعود الذي لا نحني لا يعمل منه القوس: فلا تتعب. فأبى الطائر أن يطيعه، وتقدم إلى القردة ليعرفهم أن البراعة ليسن بناءٍ. فتناوله بعض القردة فضرب به الأرض فمات. فهذا مثلي معك في ذلك. ثم قد غلب عليك الخبّ والفجور ، وهما خلتا سوءٍ، والخصب شرهما عاقبةً. ولهذا مثل. قال دمنة: وما ذلك المثل، قال كليلة: زعموا أن خباً ومغفلاً اشتركا في تجارةٍ وسافرا، فبينما هما في الطريق، إذ تخلف المغفل لبعض حاجته، فوجد كيساً فيه ألف دينار، فأخذه؛ فأحس به الخب، فرجعا إلى بلدهما؛ حتى إذا دنوا من المدينة قعدا لاقتسام المال. فقال المغفل: خذ نصفه وأعطني نصفه؛ وكان الخب قد قرر في نفسه أن يذهب بالألف جميعه. فقال له: لا نقتسم، فإن الشركة والمفاوضة أقرب إلى الصفاء والمخالطة؛ ولكن آخذ نفقةً، وتأخذ مثلها؛ وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة: فهو مكانٌ حريزٌ. فإذا احتجنا جئنا أنا وأنت فنأخذ حاجتنا منه؛ ولا يعلم بموضعنا أحدٌ. فأخذا منه يسيراً، ودفنا الباقي في أصل دوحةٍ، ودخلا البلد. ثم إن الخب خالف المغفل إلى الدنانير فأخذها، وسوى الأرض كما كانت. وجاء المغفل بعد ذلك بأشهر فقال للخب: قد احتجت إلى نفقةٍ فانطلق بنا نأخذ حاجتنا؛ فقام الخب معه وذهبا إلى المكان فحفرا، فلم يجدا شيئاً. فأقبل الخب على وجهه يلطمه يقول: لا تغتر بصحبة صاحب ، خالفتني إلى الدنانير فأخذتها. فجعل المغفل يحلف ويلعن آخذها ولا يزداد الحب إلا شدة في اللطم. وقال: ما أخذها غيرك. وهل شعر بها أحدٌ سواك ، ثم طال ذلك بينهما، فترافعا إلى القاضي، فاقتص القاضي قصتهما، فادعى الخب أن المغفل أخذها، وجحد المغفل. فقال للخب: ألك على دعواك بينة ، قال: نعم الشجرة التي كانت الدنانير عندها تشهد لي أن المغفل أخذها. وكان الخب قد أمر أباه أن يذهب فيتوارى في الشجرة بحيث إذا سئلت أجاب. فذهب أبو الخب فدخل جوف الشجرة. ثم إن القاضي لما سمع ذلك من الخب أكبره، وانطلق هو وأصحابه والخصب والمغفل معه؛ حتى وافى الشجرة؛ فسألها عن الخبر. فقال الشيخ من جوفها: نعم ، المغفل أخذها. فلما سمع القاضي ذلك اشتد تعجبه. فدعا بحطب وأمر أن تحرق الشجرة. فأضرمت حولها النيران فاستغاث أبو الخب عند ذلك. فأخرج وقد أشرف على الهلاك. فسأله القاضي عن القصة فأخبره بالخبر؛ فأوقع بالخب ضرباً، وبأبيه صفعاً، وأركبه مشهوراً ، وغرّم الخب الدنانير فأخذها وأعطاها المغفل. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعمل أن الحب والخديعة ربما كان صاحبها هو المغبون. وإنك يا دمنة جامعٌ للخب والخديعة والفجور. وإني أخشى عليك ثمرة عملك، مع أنك لست بناجٍ من العقوبة: لأنك ذو لونين ولسانين. وإنما عذوبة ماء الأنهار ما لم تبلغ إلى البحار. وصلاح أهل البيت ما لم يكن فيهم المفسد. وإنه لا شيء أشبه بك من الحية ذات اللسانين التي فيها السم ، فإن قد يجري من لسانك كسمها. وإني لم أزل لذلك السم من لسانك خائفاً، ولما يحل بك متوقعاً، والمفسد بين الإخوان والأصحاب كالحية يربيها الرجل ويطعمها ويمسحها ويكرمها، ثم لا يكون له منها غير اللدغ. وقد يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم، واسترسل إليهما، وإياك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقلاً كريماً أو عاقلاً غير كريمٍ: فالعاقل الكريم كاملٌ، والعاقل غير الكريم أصحبه، وإن كان غير محمود الخليقة، وأحذر من سوء أخلاقه وانتفع بعقله، والكريم غير العاقل، الزمه ولا تدع مواصلته، وإن كنت لا تحمد عقله، وانتفع بكرمه، وانفعه بعقلك؛ والقرار كل القرار من اللئيم الأحمق. وإني بالفرار منك لجديرٌ. وكيف يرجو إخوانك عندك كرماً ووداً وقد صنعت بملكك الذي أكرمك وشرفك ما صنعت ، وإن مثلك مثل التاجر الذي قال: إن أرضاً تأكل جرذانها مائة منًّ حديداً، ليس بمستنكر على بزاتها أن تختطف الأفيال. قال دمنة: وكيف كان ذلك، قال كليلة: زعموا أنه كان بأرض كذا تاجرٌ، فأراد الخروج إلى بعض الوجوه لابتغاء الرزق؛ وكان عنده مائة من حديداً؛ فأودعها رجلاً من إخوانه، وذهب في وجهه. ثم قدم بعد ذلك بمدةٍ؛ فجاء والتمس الحديد، فقال له: إنه قد أكلته الجرذان. فقال: قد سمعت أنه لاشيء أقطع من أنيابها للحديد. ففرح الرجل بتصديقه على ما قال وادعى. ثم إن التاجر خرج، فلقي ابناً للرجل؛ فأخذه وذهب به إلى منزله؛ ثم رجع إليه الرجل من الغد فقال له: هل عندك علم بابني: فقال له التاجر: إني لما خرجت من عندك بالأمس، رأيت بازياً قد اختطف صبياً، ولعله ابنك. فلطم الرجل على رأسه وقال: يا قوم هل سمعتم أو رأيتم أن البزاة تخطف الصبيان ، فقال: نعم. وإن أرضاً تأكل جرذانها مائة منً من حديداً ليس بعجب أن تختطف بزاتها الفيلة. قال له الرجل: أنا أكلت حديدك وهذا ثمنه. فاردد على ابني. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر؛ وأنه إذا صاحب أحد صاحباً وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضعٌ: فلا شيء أضيع من مودةٍ تمنح من لا وفاء له، وحباءٍ يصطنع عند من لا شكر له، وأدبٍ يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر: كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً، وإذا مرت بالنتن حملت نتناً، وقد طال وثقل كلامي عليك. فانتهى كليلة من كلامه إلى هذا المكان وقد فرغ الأسد من الثور، ثم فكر في قتله بعد أن قتله وذهب عنه الغضب. وقال: لقد فجعني شتربة بنفسه؛ وقد كان ذا عقلٍ ورأيٍ وخلقٍ كريمٍ، ولا أدري لعله كان بريئاً أو مكذوباً عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه، وتبين ذلك في وجهه؛ وبصر به دمنة، فترك محاورة كليلة، وتقدم إلى الأسد فقال له: ليهنئك الظفر إذ أهلك الله أعداءك. فماذا يحزنك أيها الملك ، قال: أنا حزينٌ على عقل شتربة ورأيه وأدبه ، قال له دمنة: لا ترحمه أيها الملك: فإن العاقل لا يرحم من يخافه. وإن الرجل الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه، ثم قربه وأدناه ، لما يعلم عنده من الغناء والكفاية، فعل الرجل المتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته. وربما أحب الرجل، وعز عليه، فأقصاه وأهلكه، مخافة ضرره؛ كالذي تلدغه الحية في إصبعه فيقطعها، ويتبرأ منها مخافة أن يسر سمها إلى بدنه. فرضي الأسد بقول دمنة. ثم علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر قتلة.
مختصر كتاب : كليلة ودمنة للفليسوف بيدبا نقلها الى العربية إبن المقفع منتدى توتة وحدوتة - البوابة