من طرف بص وطل الأربعاء مايو 01, 2019 9:20 am
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
أحداث سنة ثمان وثلاثين
● [ ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ] ●
ذكر ملك عمرو بن العاص مصر
وقتل محمد بن أبي بكر الصديق
في هذه السنة قتل محمد بن أبي بكر الصديق بمصر وهو عامل علي عليها، وقد ذكرنا سبب تولية علي إياه مصر وعزل قيس بن سعد عنها ودخوله مصر وإنفاذه ابن مضاهم الكلبي إلى أهل خرنبا، فلما مضى ابن مضاهم إليهم قتلوه، وخرج معاوية بن حديج السكوني وطلب بدم عثمان ودعا إليه، فأجابه ناس وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر، فبلغ ذلك علياً فقال: ما لمصر إلا أحد الرجلين، صاحبنا الذي عزلنا، يعني قيساً، أو الأشتر، وكان الأشتر قد عاد بعد صفين إلى عمله بالجزيرة، وقال علي لقيس: أقم عندي على شرطتي حتى تنقضي الحكومة ثم تسير إلى أذربيجان. فلما بلغ علياً أمر مصر كتب إلى الأشتر وهو بنصيبين يستدعيه، فحضر عنده، فأخبره خبر أهل مصر وقال: ليس لها غيرك فاخرج إليها، فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك، واستعن بالله واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ وتشد حين لا يغني إلا الشدة.
فخرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك، فعظم عليه، وكان قد طمع في مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر، فبعث معاوية إلى المقدم على أهل الخراج بالقلزم وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيت وبقيت. فخرج الحابسات حتى أتى القلزم وأقام به، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول، فنزل عنده، فأتاه بطعام، فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سماً فسقاه إياه، فلما شربه مات.
وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إن علياً قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه، فكانوا يدعون الله عليه كل يوم، وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية خطيباً ثم قال: أما بعد فإنه كانت لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين، يعني عمار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم، يعني الأشتر.
فلما بلغ علياً موته قال: لليدين وللفمذ وكان قد ثقل عليه لأشياء نقلت عنه، وقيل: إنه لما بلغه قتله قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! مالك وما مالك وهل موجود مثل ذلك؟ لو كان من حديد لكان قيداً أو من حجر لكان صلداً! على مثله فلتبك البواكي! وهذا أصح لأنه لو كان كارهاً لم يوله مصر.
وكان الأشتر قد روى الحديث عن عمر وعلي وخالد بن الوليد وأبي ذر، وروى عنه جماعة، وقال أحمد بن صالح: كان ثقة.
قيل: ولما بلغ محمد بن أبي بكر إنفاذ الأشتر شق عليه فكتب إليه علي: أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك، وإني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهاد ولا ازدياداً مني لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة منه وأعجب إليك ولايةً، إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر كان لنا نصيحاً وعلى عدونا شديداً، وقد استكمل أيامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضوان فرضي الله عنه وضاعف له الثواب، اصبر لعدوك وشمر للحرب و (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) النحل: 125، وأكثر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفك ما أهمك ويعنك على ما ولاك.
وكتب إليه محمد: أما بعد فقد انتهى إلي كتابك وفهمته، وليس على أحد من الناس ارضى برأي أمير المؤمنين ولا أجهد على عدوه ولا أرأف بوليه مني، وقد خرجت فعسكرت وآمنت الناس إلا من نصب لنا حرباً وأظهر لنا خلافاً، وأنا متبع أمر أمير المؤمنين وحافظه. والسلام.
وقيل: إنما تولى الأشتر مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر.
وكان أهل الشام ينتظرون بعد صفين أمر الحكمين، فلما تفرقا بايع أهل الشام معاوية بالخلافة، ولم يزدد إلا قومة، واختلف الناس بالعراق على علي، فما كان لمعاوية هم إلا مصر، وكان يهاب أهلها لقربهم منه وشدتهم على من كان على رأي عثمان، وكان يرجو أنه إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها، فدعا معاوية عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر ابن أبي أرطأة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد وأبا الأعور السلمي وشرحبيل بن السمط الكندي فقال لهم: أتدرون لم جمعتكم؟ فإني جمعتكم لأمر لي مهم! فقالوا: لم يطلع الله على الغيب أحداً وما نعلم ما تريد. فقال عمرو بن العاص: دعوتنا لتسألنا عن رأينا في مصر، فإن كنت جمعتنا لذلك فاعزم واصبر؛ فنعم الرأي رأيت في افتتاحها! فإن فيه عزك وعز أصحابك وكبت عدوك وذل أهل الشقاق عليك. فقال معاوية: أهمك يا ابن العاص ما أهمك! وذلك أن عمراً كان صالح معاوية على قتال علي على أن له مصر طعمةً ما بقي. وأقبل معاوية على أصحابه وقال: أصاب أبو عبد الله، فما ترون؟ فقالوا: ما نرى إلا ما رأى عمرو. قال: فكيف أصنع؟ فإن عمراً لم يفسر كيف اصنع. فقال عمرو: أرى أن تبعث جيشاً كثيفاً عليهم رجل حازم صابر تأمنه وتثق به فيأتي مصر فإنه سيأتيه من كان على مثل رأينا فيظاهره على عدونا، فإن اجتمع جندك ومن بها على رأينا رجوت أن ينصرك الله.
قال معاوية: أرى أن نكاتب من بها من شيعتنا فنمنيهم ونأمرهم بالثبات، ونكاتب من بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا، فإن كان ما أردنا بغير قتال فذاك الذي أردنا وإلا كان حربهم من بعد ذلك. إنك يا ابن العاص بورك لك في الشدة والعجلة، وأنا بورك لي في التؤدة. قال عمرو: افعل ما ترى فما أرى أمرنا يصير إلا إلى الحرب.
فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد ومعاوية بن حديج السكوني، وكانا قد خالفا علياً، يشكرهما على ذلك ويحثهما على الطلب بدم عثمان ويعدهما المواساة في سلطانه، وبعثه مع مولاة سبيع.
فلما وقفا عليه أجاب مسلمة بن مخلد الأنصاري عن نفسه وعن ابن حديج: أما بع فإن الأمر الذي بذلنا له أنفسنا واتبعنا به أمر الله أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر على من خالفنا وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا، وأما ما ذكرت من المواساة في سلطانك، فتالله إن ذلك أمر ما له نهضنا ولا إياه أردنا، فعجل إلينا بخيلك ورجلك فإن عدونا قد أصبحوا لنا هائبين فإن يأتنا مدد يفتح الله عليك. والسلام.
فجاءه الكتاب وهو بفلسطين، فدعا أولئك النفر وقال لهم: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تبعث جنداً.
فأمر عمرو بن العاص ليتجهز إليها، وبعث معه ستة آلاف رجل ووصاه بالتؤدة وترك العجلة. وسار عمرو فنزل أداني أرض مصر، فاجتمعت إليه العثمانية، فأقام بهم وكتب إلى محمد بن ابي بكر: أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك وهم مسلموك فاخرج منها إني لك من الناصحين. وبعث معه كتاب معاوية في المعنى أيضاً ويتهدده بقصده حصار عثمان.
فأرسل محمد الكتابين إلى علي ويخبره بنزول عمرو بأرض مصر وأنه رأى التثاقل ممن عنده ويستمده. فكتب إليه علي يأمره أن يضم شيعته إليه ويعده إنفاذ الجيوش إليه ويأمره بالصبر لعدوه وقتاله. وقام محمد بن أبي بكر في الناس وندبهم إلى الخروج إلى عدوهم مع كنانة بن بشر، فانتدب معه ألفان. وخرج محمد بن أبي بكر بعده في ألفين وكنانة على مقدمته، وأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا منه سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة إلا حمل عليها فألحقها بعمرو بن العاص، فلما رأى ذلك بعث إلى معاوية ابن حديج فأتاه في مثل الدهم، فأحاطوا بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فلما رأى ذلك كنانة نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه حتى استشهد.
وبلغ قتله محمد بن أبي بكر فتفرق عنه أصحابه، وأقبل نحوه عمرو، وما بقي معه أحد، فخرج محمد يمشي في الطريق، فانتهى إلى خربة في ناحية الطريق فأوى إليها، وسار عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد بن أبي بكر فانتهى إلى جماعة على قارعة الطريق فسألهم عنه، فقال أحدهم: دخلت تلك الخربة فرأيت فيها رجلاً جالساً. فقال ابن حديج: هو هو. فدخلوا عليه فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، وأقبلوا به نحو الفسطاط، فوثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص، وكان في جنده، وقال: أتقتل أخير صبراً؟ ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه. فبعث إليه يأمره أن يأتيه بمحمد، فقال: قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا محمداً؟ (أكفاركم خيرٌ من أولئكم أم لكم براءة في الزبر؟) القمر: 43، هيهات هيهات! فقال لهم محمد بن أبي بكر: اسقوني ماء. فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرةً ابداً، إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم والغساق! فقال له محمد: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله، يسقي أولياءه ويظمىء أعداءه أنت وأمثالك، أما والله ولو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا. ثم قال له: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: إن فعلت بي ذلك فلطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإني لأرجو أن يجعلها عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو ناراً تلظى كلما خبت زادها الله سعيراً. فغضب منه وقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار.
فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً وقنتت في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو وأخذت عيال محمد إليها، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالهم، ولم تأكل من ذلك الوقت شواء حتى توفيت.
وقد قيل: إن محمداً قاتل عمراً ومن معه قتالاً شديداً فقتل كنانة وانهزم محمد واختبأ عند جبلة بن مسروق، فدل عليه معاوية بن حديج فأحاط به، فخرج محمد فقاتل حتى قتل.
وأما علي فلما جاءه كتاب محمد بن أبي بكر فأجابه عنه ووعده المدد، قام في الناس خطيباً وأخبرهم خبر مصر وقصد عمرو إياها وندبهم إلى إنجادهم وحثهم على ذلك وقال: اخرجوا بنا إلى الجرعة، وهي بين الكوفة والحيرة؛ فلما كان الغد خرج إلى الجرعة فنزلها بكرة وأقام بها حتى انتصف النهار فلم يأته أحد، فرجع، فلما كان العشي استدعى أشراف الناس وهو كئيب فقال: الحمد لله على ما قضى من أمره وقدر من فعله وابتلاني بكم، أيتها القرية التي لا تطيع إذا أمرت، ولا تجيب إذا دعوت، لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بمصركم والجهاد على حقكم؟ فوالله لئن جاء الموت، وليأتيني، ليفرقن بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قالٍ، وبكم غير كثير، لله أنتم! أما دين يجمعكم ولا محمية تحميكم إذا أنتم سمعتم بعدوكم ينتقص بلادكم ويشن الغارة عليكم؟ أوليس عجيباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة في السنة المرة والمرتين والثلاث إلى أي وجه شاء وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس على العطاء والمعونة فتتفرقون عني تعصونني وتختلفون علي! فقام كعب بن مالك الأرحبي وأمير المؤمنينيا أمير المؤمنين اندب الناس، لهذا اليوم كنت أدخر نفسي. ثم قال: أيها الناس اتقوا الله وأجيبوا إمامكم وانصروا دعوته وقاتلوا عدوه وأنا أسير إليه. فخرج معه ألفان. فقال له: سر فوالله ما أظنك تدركهم حتى ينقضي أمرهم. فسار بهم خمساً.
ثم إن الحجاج بن غزية الأنصاري قدم من مصر فأخبره بقتل محمد بن أبي بكر، وكان معه، وقدم عليه عبد الرحمن بن شبيب الفزاري من الشام، وكان عينه هناك، فأخبره أن البشارة من عمرو وردت بقتل محمد وملك مصر وسرور أهل الشام بقتله. فقال علي: أما إن حزننا عليه بقدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافاً! فأرسل علي فأعاد الجيش الذي أنفذه وقام في الناس خيباً وقال: ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلمة الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجاً! ألا وإن محمد بن أبي بكر استشهد فعند الله نحتسبه! أما والله إن كان كما علمت لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب هدى المؤمن، إني والله ما ألوم نفسي على تقصير، وإني لمقاساة الحروب لجدير خبير، وإني لأتقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم فيكم بالرأي المصيب وأستصرخكم معلناً وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثار، ولا تنقض بكم الأوتار، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق، وتثاقلتهم إلى الأرض تثاقل من ليست له نية في جهاد العدو ولا اكتساب الأجر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذانب كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فأفٍ لكم! ثم نزل.
ومعاوية بن حديج بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين. جارية بن قدامة بالجيم وفي آخره ياء تحتها نقطتان. بسر بن أبي أرطأة رضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة.
●[ ذكر إرسال معاوية عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة ]●
في هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبي بكر واستيلاء عمرو بن العاص على مصر سير معاوية عبد الله بن عمرو بن الحضرمي إلى البصرة وقال له: إن جل أهلها يرون رأينا في عثمان وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم لذلك حنقون يودون أن يأتيهم من يجمعهم وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم، فانزل في مضر وتودد الأزد فإنهم كلهم معك، وادع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم لأنهم كلهم ترابية فاحذرهم.
فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة، وكان ابن عباس قد خرج إلى علي بالكوفة واستخلف زياد بن أبيه على البصرة، فلما وصل ابن الحضرمي إلى البصرة نزل في بني تميم، فأتاه العثمانية مسلمين عليه وحضره غيرهم، فخطبهم وقال: إن عثمان إمامكم إمام الهدى قتل مظلوماً، قتله علي، فطلبتم بدمه فجزاكم الله خيراً.
فقام الضحاك بن قيس الهلالي، وكان على شرطة ابن عباس، فقال: قبح الله ما جئتنا به وما تدعونا إليه، أتيتنا والله بمثل ما أتانا به طلحة والزبير، أتيانا وقد بايعنا علياً واستقامت أمورنا فحملانا على الفرقة حتى ضرب بعضنا بعضاً، ونحن الآن مجتمعون على بيعته، وقد أقال العثرة، وعفا عن المسيء، أفتأمرنا أن ننتضي أسيافنا ويضرب بعضنا بعضاً ليكون معاوية أميراً؟ والله ليوم من أيام علي خير من معاوية وآل معاوية! فقام عبد الله بن خازم السلمي فقال للضحاك: اسكت فلست بأهل أن تتكلم. ثم أقبل على ابن الحضرمي فقال: نحن أنصارك ويدك والقول قولك فاقرأ كتابك. فأخرج كتاب معاوية إليهم يذكرهم فيه آثار عثمان فيهم وحبه العافية وسده ثغورهم ويذكر قتله ويدعوهم إلى الطلب بدمه ويضمن أنه يعمل فيهم بالسنة ويعطيهم عطائين في السنة. فلما فرغ من قراءته قام الأحنف فقال: لا ناقتي في هذا ولا جملي. واعتزل القوم. وقام عمرو بن مرحوم العبدي فقال: أيها الناس الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا تنكثوا بيعتكم فنقع بكم الواقعة. وكان عباس بن صحار العبدي مخالفاً لقومه في حب علي فقام وقال: لننصرنك بأيدينا وألسنتنا. فقال له المثنى بن مخربة العبدي: والله لئن لم ترجع إلى مكانك الذي جئتنا منه لنجاهدنك بأسيافنا ورماحنا، ولا يغرنكم هذا الذي يتكلم، يعني ابن صحار.
فقال ابن الحضرمي لصبرة بن شيمان: أنت ناب من أنياب العرب فانصرني. فقال: لو نزلت في داري لنصرتك.
فلما رأى زياد ذلك خاف فاستدعى حضين بن المنذر ومالك بن مسمع فقال: أنتم يا معشر بكر بن ائل أنصار أمير المؤمنين وثقاته وقد كان من ابن الحضرمي ما ترون وأتاه من أتاه فامنعوني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين. فقال حضين بن المنذر: نعم. وقال مالك وكان رأيه مائلاً إلى بني أمية: هذا أمر لي فيه شركاء أستشير فيه وأنظر. فلما رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف عليه ربيعة فأرسل إلى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين. فقال: إن حملته إلى داري أجرتكما. فنقله إلى داره بالحدان ونقل المنبر أيضاً، فكان يصلي الجمعة بمسجد الحدان ويطعم الطعام. فقال زياد لجابر بن وهب الراسبي: يا أبا محمد إني لا أرى ابن الحضرمي يكف وأراه سيقاتلكم ولا أدري ما عند أصحابك، فانظر ما عندهم. فلما صلى زياد جلس في المسجد واجتمع الناس إليه، فقال جابر: يا معشر الأزد إن تميماً تزعم أنهم هم الناس وأنهم أصبر منكم عند البأس، وقد بلغني أنهم يريدون أن يسيروا إليكم ويأخذوا جاركم ويخرجوه قسراً، فكيف أنتم إذا فعلوا ذلك وقد أجرتموه وبيت مال المسلمين! فقال صبرة بن شميان، وكان مفخماً: إن جاء الأحنف جئت، وإن جاء حتاتهم جئت، وإن جاء شبابهم ففينا شباب.
وكتب زياد إلى علي بالخبر، فأرسل علي إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي ثم التميمي ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه، وكتب إلى زياد يعلمه ذلك. فقدم أعين، فأتى زياداً، فنزل عنده، وجمع رجالاً وأتى قوم ونهض إلى ابن الحضرمي ومن معه ودعاهم، فشتموه، وواقفهم نهاره ثم انصرف عنهم، فدخل عليه قوم، قيل إنهم من الخوارج، وقيل وضعهم ابن الحضرمي على قتله، وكان معهم، فقتلوه غيلةً، فلما قتل أعين أراد زياد قتالهم، فأرسلت تميم إلى الأزد: إنا لم نعرض لجاركم فما تريدون إلى جارنا؟ فكرهت الأزد قتالهم وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناه.
وكتب زياد إلى علي يخبره خبر أعين وقتله، فأرسل علي جارية بن قدامة السعدي، وهو من بني سعد من تميم، وبعث معه خمسين رجلاً، وقيل خمسمائة من تميم، وكتب إلى زياد يأمره بمعونة جارية والإشارة عليه. فقدم جارية البصرة، فحذره زياد ما أصاب أعين، فقام جارية في الأزد فجزاهم خيراً وقال: عرفتم الحق إذ جهله غيركم. وقرأ كتاب علي إلى أهل البصرة يوبخهم ويتهددهم ويعنفهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم وقعة تكون وقعة الجمل عندها هباء. فقال صبرة بن شيمان: سمعاً لأمير المؤمنين وطاعة! نحن حرب لمن حاربه وسلم لمن سالمه. وقال أبو صفرة، والد المهلب، لزياد: لو أدركت يوم الجمل ما قاتل قومي أمير المؤمنين. وقيل: إن أبا صفرة كان توفي في مسيره إلى صفين، والله أعلم.
وصار جارية إلى قومه وقرأ عليهم كتاب علي ووعدهم، فأجابه أكثرهم، فسار إلى ابن الحضرمي ومعه الأزد ومن تبعه من قومه، وعلى خيل ابن الحضرمي عبد الله بن خازم السلمي، فاقتتلوا ساعة، وأقبل شريك بن الأعور الحارثي فصار مع جارية، فانهزم ابن الحضرمي فتحصن بقصر سنبيل ومعه ابن خازم، فأتته أمه عجلى، وكانت حبشية، فأمرته بالنزول، فأبى، فقالت: والله لتنزلن أو لأنزعن ثيابي! فنزل ونجا، وأحرق جارية القصر بمن فيه، فهلك ابن الحضرمي وسبعون رجلاً معه، وعاد زياد إلى القصر، وكان قصر سنبيل لفارس قديماً وصار لسنبيل السعدي، وحوله خندق، وكان فيمن احترق دراع بن بدر أخو حارثة بن بدر؛ فقال عمرو بن العرندس:
رددنا زياداً إلى داره ... وجار تميمٍ دخاناً ذهب
لحى الله قوماً شووا جارهم ... ولم يدفعوا عنه حر اللهب
في أبيات غر هذه؛ وقال جرير بن عطية الخطفي.
غدرتم بالزبير فما وفيتم ... وفاء الأزد إذ منعوا زيادا
فأصبح جارهم بنجاة عزٍّ ... وجار مجاشعٍ أمسى رمادا
فلو عاقدت حبل أبي سعيدٍ ... لذاد القوم ما حمل النجادا
وأدنى الخيل من رهج المنايا ... وأغشاها الأسنة والصعادا
جارية بن قدامة بالجيم والياء تحتها نقطتان. وحارثة بن بدر بالحاء المهملة، وبعدها ثاء مثلثة. وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة والزاي. والمثنى ابن مخربة بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، وكسر الراء المشددة، وآخره باء موحدة.
●[ ذكر خبر الخريت بن راشد وبني ناجية ]●
قيل: وفي هذه السنة أظهر الخريت بن راشد الناجي الخلاف على علي، فجاء إلى أمير المؤمنين وكان معه ثلاثمائة من بني ناجية خرجوا مع علي من البصرة فشهدوا معه الجمل وصفين وأقاموا معه بالكوفة إلى هذا الوقت، فحضر عند علي في ثلاثين راكباً فقال له: يا علي والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، وإني غداً مفارق لك، وذلك بعد تحكيم الحكمين. فقال له: ثكلتك أمك! إذاً تعصي ربك وتنكث عهدك ولا تضر إلا نفسك! خبرني لم تفعل ذلك؟ فقال: لأنك حكمت وضعفت عن الحق، وركنت إلى القوم الذين ظلموا، فأنا عليك زارٍ وعليهم ناقم، ولكم جميعاً مباين. فقال له علي: هلم أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن وأفاتحك أموراً أنا أعلم بها منك فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر، قال: فإني عائدٌ إليك. قال: لا يستهوينك الشيطان، ولا يستخفنك الجهال، والله لئن استرشدتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد.
فخرج من عنده منصرفاً إلى أهله، وسار من ليلته هو وأصحابه. فلما سمع بمسيرهم علي قال: بعداً لهم كما بعدت ثمود! إن الشيطان اليوم استهواهم وأضلهم وهو غداً متبرىء منهم. فقال له زياد بن خصفة البكري: يا أمير المؤمنين، إنه لم يعظم علينا فقدهم فتأسى عليهم، إنهم قل ما يزيدون في عددنا لو أقاموا، ولقل ما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعةً كثيرة ممن يقدمون عليك من أهل طاعتك، فأذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك. فقال: أتدري أين توجهوا؟ قال: لا، ولكني أسأل وأتبع الأثر. فقال له: اخرج، رحمك الله، وانزل دير أبي موسى وأقم حتى يأتيك أمري، فإن كانوا ظاهرين فإن عمالي سيكتبون بخبرهم.
فخرج زياد فأتى داره وجمع أصحابه من بكر بن وائل وأعلمهم الخبر، فسار معه مائة وثلاثون رجلاً، فقال: حسبي. ثم سار حتى أتى دير أبي موسى فنزله يوماً ينتظر أمر علي، وأتى علياً كتاب من قرظة بن كعب الأنصاري يخبره أنهم توجهوا نحو نفر، وأنهم قتلوا رجلاً من الدهاقين كان أسلم. فأرسل علي إلى زياد يأمره باتباعهم ويخبره خبرهم وأنهم قتلوا رجلاً مسلماً ويأمره بردهم إليه، فإن أبوا يناجزهم، وسير الكتاب مع عبد الله بن والٍ، فاستأذنه عبد الله في المسير مع زياد، فأذن له، وقال له: إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين. قال ابن وال: فوالله ما أحب أن لي بمقالته تلك حمر النعم.
وسار بكتاب علي إلى زياد، وساروا حتى أتوا نفر، فقيل إنهم ساروا نحو جرجرايا، فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذار وهم نزول قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا، فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا، فلما رأوهم ركبوا خيولهم، وقال لهم الخريت: أخبروني ما تريدون. فقال له زياد، وكان مجرباً رفيقاً: قد ترى ما بنا من التعب، والذي جئناك له لا يصلحه الكلام علانية ولكن ننزل ثم نخلو جميعأً فتذاكر أمرنا، فإن رأيت ما جئناك به حظاً لنفسك قبلته، وإن رأينا فيما نسمع منك أمراً نرجو فيه العافية لم نرده عليك. قال: فانزل. فنزل زياد وأصحابه على ماء هناك وأكلوا شيئاً وعلقوا على دوابهم، ووقف زياد في خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم، وكانوا قد نزلوا أيضاً، وقال زياد لأصحابه: إن عدتنا كعدتهم، وأرى أمرنا يصير إلى القتال، فلا تكونوا أعجز الفريقين.
وخرج زياد إلى الخريت فسمعهم يقولون: جاءنا القوم وهم كالون تعبون، فتركناهم حتى استراحوا، هذا والله سوء الرأي. فدعاه زياد وقال له: ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا؟ فقال: لم أرض صاحبكم إماماً ولا سيرتكم سيرة فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى، فقال له زياد: وهل يجتمع الناس على رجل يداني صاحبك الذي فارقته علماً بالله وسنته وكتابه مع قرابته من الرسول، صلى الله عليه وسلم، وسابقته في الإسلام؟ فقال له: ذلك لا أقول لك. فقال له زياد: ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ فقال له: ما أنا قتلته وإنما قتله طائفة من أصحابي. قال: فادفعهم إلينا. قال: ما لي إلى ذلك سبيلز فدعا زيادٌ أصحابه ودعا الخريت أصحابه، فاقتتلوا قتالاً شديداً تطاعنوا بالرماح حتى لم يبق رمح، وتضاربوا بالسيوف حتى انحنت، وعقرت عامة خيولهم، وكثرت الجراحة فيهم، وقتل من أصحاب زياد رجلان ومن أولئك خمسة وجاء الليل فحجز بينهما، وقد كره بعضهم بعضاً وجرح زياد، فسار الخريت من الليل وسار زياد إلى البصرة، وأتاهم خبر الخريت أنه أتى الأهواز فنزل بجانب منها وتلاحق به ناسٌ من أصحابهم فصاروا نحو مائتين، فكتب زياد إلى علي يخبرهم وأنه مقيم يداوي الجرحى وينتظر أمره.
فلما قرأ علي كتابه قام إليه معقل بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كان ينبغي أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد منهم عشرة، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم، فأما أن يلقاهم عددهم فلعمري ليصبرن لهم فإن العدة تصبر للعدة. فقال: تجهز يا معقل إليهم، وندب معه ألفين من أهل الكوفة، منهم يزيد بن المعقل الأسدي. وكتب علي إلى ابن عباس يأمره أن يبعث من أهل البصرة رجلاً شجاعاً معروفاً بالصلاح في ألفي رجل إلى معقل وهو أمير أصحابه حتى يأتي معقلاً، فإذا لقيه كان معقل الأمير. وكتب إلى زياد ابن خصفة يشكره ويأمره بالعود.
واجتمع على الخريت الناجي علوج من أهل الأهواز كثيرٌ أرادوا كسر الخراج ولصوصٌ وطائفةٌ أخرى من العرب ترى رأيه، وطمع أهل الخراج في كسره فكسروه، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس، وكان عاملاً لعلي عليها، في قول من يزعم أنه لم يمت سنة سبع وثلاثين. فقال ابن عباس لعلي: أنا أكفيك فارس بزياد، يعني ابن أبيه، فأمره بإرساله إليها وتعجيل تسييره، فأرسل زياداً إليها في جمع كثير، فوطىء بلاد فارس، فأدوا الخراج واستقاموا، وسار معقل بن قيس، ووصاه علي فقال له: اتق الله ما استطعت، ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين.
فقدم معقل الأهواز ينتظر مدد البصرة، فأبطأ عليه فسار عن الأهواز يطلب الخريت، فلم يسر إلا يوماً حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائي، فساروا جميعاً، فلحقوهم قريب جبل من جبال رامهرمز، فصف معقل أصحابه، فجعل على ميمنته يزيد بن المعقل، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من أهل البصرة، وصف الخريت أصحابه فجعل من معه من العرب ميمنةً، ومن معه من أهل البلد والعلوج ميسرة، ومعهم الأكراد، وحرض كل واحد منهما أصحابه، وحرك معقل رأسه مرتين ثم حمل في الثالثة، فصبروا له ساعة ثم انهزموا، فقتل أصحاب معقل منهم سبعين رجلاً من بني ناجية ومن معهم من العرب، وقتلوا نحواً من ثلاثمائة من العلوج والأكراد، وانهزم الخريت بن راشد فلحق بأسياف البحر، وبها جماعةٌ كثيرة من قومه، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ويخبرهم أن الهدى في حربه حتى اتبعه منهم ناس كثير.
وأقام معقل بأرض الأهواز وكتب إلى علي بالفتح، فقرأ علي الكتاب على أصحابه واستشارهم، فقالوا كلهم: نرى أن تأمر معقلاً أن يتبع آثار الفاسق حتى يقتله أو ينفيه فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. فكتب إلى معقل يثني عليه وعلى من معه ويأمره باتباعه وقتله أو نفيه. فسأل معقل عنه، فأخبر بمكانه بالأسياف وأنه قد رد قومه عن طاعة علي وأفسد من عنده من عبد القيس وسائر العرب، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين وذلك العام. فسار إليهم معقل فأخذ على فارس وانتهى إلى أسياف البحر.
فلما سمع الخريت بمسيره قال لمن معه من الخوارج: أنا على رأيكم وإن علياً لم ينبغ له أن يحكم. وقال للآخرين من أصحابه: إن علياً حكم ورضي فخلعه حكمه الذي ارتضاه، وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة وإليه كان يذهب. وقال سراً للعثمانية: إنا والله على رأيكم، قد والله قتل عثمان مظلوماً. فأرضى كل صنف منهم. وقال لمن منع الصدقة: شدوا أيديكم على صدقاتكم وصلوا بها أرحامكم. وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا، فلما اختلف الناس قالوا: والله لديننا الذي خرجنا منه خير من دين هؤلاء، لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء. فقال لهم الخريت: ويحكم! لا ينجيكم من القتل إلا قتل هؤلاء القوم والصبر فإن حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ولا يقبلون منه توبةً ولا عذراً. فخدعهم جميعهم. وأتاه من كان من بني ناجية وغيرهم خلق كثير. فلما انتهى معقل إليه نصب راية أمان وقال: من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة. فتفرق عن الخريت جل من كان معه من غير قومه، وعبأ معقل أصحابه وزحف نحو الخريت ومعه قومه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم. فقال الخريت لمن معه: قاتلوا عن حريمكم وأولادكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم. فقال له رجل من قومه: هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك. فقال: سبق السيف العذل.
وسار معقل في الناس يحرضهم ويقول: أيها الناسش ما ترون أفضل مما سبق لكم من الأجر العظيم؟ إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة، وارتدوا عن الإسلام، ونكثوا البيعة ظلماًن فأشهد لمن قتل منكم بالجنة، ومن بقي منكم فإن الله مقر عينه بالفتح. ثم حمل معقل وجميع من معه فقاتلوا قتالاً شديداً وصبروا له، ثم إن النعمان بن صبهان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فطعنه فصرع عن دابته، ثم اختلفا ضربتين فقتله النعمان وقتل معه في المعركة سبعون ومائة رجل وذهب الباقون يميناً وشمالاً، وسبى معقل من أدرك من حريمهم وذرياتهم، وأخذ رجالاً كثيراً، فأما من كان مسلماً فخلاه وأخذ بيعته وترك له عياله، وأما من كان ارتد فعرض عليهم الإسلام فرجعوا فخلى سبيلهم وسبيل عيالهم، إلا شيخاً كبيراً نصرانياً منهم يقال له الرماحسن لم يسلم فقتله، وجمع من منع الصدقة وأخذ منهم صدقة عامين، وأما النصارى وعيالهم فاحتملهم مقبلاً بهم، وأقبل المسلمون معهم يشيعونهم، فلما ودعوهم بكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حتى رحمهم الناس.
وكتب معقل إلى علي بالفتح، ثم أقبل بهم حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامل علي على أردشير خره، وهم خمسمائة إنسان، فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال: يا أبا الفضل! يا حامي الرجال ومأوى المعضب وفكاك العناة امنن علينا واشترنا وأعتقنا! فقال مصقلة: أقسم بالله لأتصدقن عليكم! إن الله يجزي المتصدقين. فبلغ قوله معقلاً فقال: والله لو أعلم أنه قالها توجعاً عليهم وإزراء علينا لضربت عنقه ولو كان في ذلك تفاني تميم وبكر. ثم إن مصقلة اشتراهم من معقل بخمسمائة ألف، فقال له معقل: عجل المال إلى أمير المؤمنين. فقال: أنا أبعث الآن ببعضه ثم كذلك حتى لا يبقى منه شيء.
وأقبل معقل إلى علي فأخبره بما كان منه، فاستحسنه، وبلغ علياً أن مصقلة أعتق الأسرى ولم يسألهم أن يعينوه بشيء، فقال: ما أظن مصقلة إلا قد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلداً. وكتب إليه يطلب منه المال أو يحضر عنده، فحضر عنده وحمل من المال مائتي ألف.
قال ذهل بن الحارث: فاستدعاني ليلةً فطعمنا ثم قال: إن أمير المؤمنين يسألني هذا المال ولا أقدر عليه. فقلت: والله لو شئت ما مضت جمعة حتى تحمله. فقال: والله ما كنت لأحملها قومي، أما والله لو كان ابن هند ما طالبني بها ولو كان ابن عفان لوهبها لي، ألم تره أطعم الأشعث بن قيس كل سنة من خراج أذربيجان مائة ألف؟ قال: فقلت: إن هذا لا يرى ذلك الرأي ولا يترك منها شيئاً. فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية، وبلغ علياً ذلك فقال: ما له، ترحه الله، فعل فعل السيد وفر فرار العبد وخان خيانة الفاجر! أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئاً أخذناه وإلا تركناه.
ثم سار علي إلى داره فهدمها وأجاز عتق السبي وقال: أعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم ديناً على معتقهم.
وكان أخوة نعيم بن هبيرة شيعة لعلي، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب اسمه حلوان يقول له: إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة فأقبل ساعة يلقاك رسولي، والسلام. فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرحه إلى علي، فقطع يده، فمات، وكتب نعيم إلى مصقلة يقول:
لا ترمين هداك الله معترضاً ... بالظن منك فما بالي وحلوانا
ذاك الحريص على ما نال من طمع ... وهو البعيد فلا يحزنك إن خانا
ماذا أردت إلى إرساله سفهاً ... ترجو سقاط امرىء لم يلف وسنانا
قد كنت في منظرٍ عن ذا ومستمعٍ ... تحمي العراق وتدعى خير شيبانا
حتى تقحمت أمراً كنت تكرهه ... للراكبين له سراً وإعلانا
عرضته لعلي إنه أسدٌ ... يمشي العرضنة من آساد خفانا
لو كنت أديت مال القوم مصطبراً ... للحق أحييت أحيانا وموتانا
لكن لحقت بأهل الشام ملتمساً ... فضل ابن هندٍ وذاك الرأي أشجانا
فاليوم تقرع سن العجز من ندمٍ ... ماذا تقول وقد كان الذي كانا
أصبحت تبغضك الأحياء قاطبةً ... لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا
فلما وقع الكتاب إليه علم أنه قد هلك، وأتاه التغلبيون فطلبوا منه دية صاحبهم، فوداه لهم.
وقال بعض الشعراء في بني ناجية:
سما لكم بالخيل قوداً عوابساً ... أخو ثقةٍ ما يبرح الدهر غازيا
فصحبكم في رجله وخيوله ... بضرب ترى منه المدجج هاويا
فأصبحتم من بعد كبرٍ ونخوةٍ ... عبيد العصا لا تمنعون الذراريا
وقال مصقلة بن هبيرة:
لعمري لئن عاب أهل العراق ... علي انتعاش بني ناجيه
لأعظم من عتقهم رقهم ... وكفي بعتقهم ماليه
وزايدت فيهم لإطلاقهم ... وغاليت إن العلى غاليه
● [ ذكر أمر الخوارج بعد النهروان ] ●
لما قتل أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على علي بالدسكرة في مائتين ثم سار إلى الأنبار، فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاثمائة فواقعه، فقتل أشرس في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج هلال بن علفة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد فأتى ماسبذان، فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه، وهم أكثر من مائتين، وكان قتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج الأشهب بن بشر، وقيل الأشعث، وهو من بجيلة، في مائة وثمانين رجلاًن فأتى المعركة التي أصيب فيها هلال وأصحابه فصلى عليهم ودفن من قدر عليه منهم، فوجه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي، وقيل حجر ابن عدي، فأقبل إليهم الأشهب، فاقتتلا بجرجرايا من أرض جوخى، فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج سعيد بن قفل التيمي من تيم الله بن ثعلبة في رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل فأتى درزنجان، وهي من المدائن على فرسخين، فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى شهرزور، وأكثر من معه من الموالي، وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم، واجتمع معه مائتا رجل، وقيل أربعمائة، وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة، فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة، فلم يفعل وقال: ليس بيننا غير الحرب. فبعث إليه علي شريح بن هانىء في سبعمائة، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقي شريح في مائتين، فانحاز إلى قرية، فتراجع إليه بعض أصحابه ودخل الباقون الكوفة، فخرج علي بنفسه وقدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي، فدعاهم جارية إلى طاعة علي وحذرهم القتل فلم يجيبوا، ولحقهم علي أيضاً فدعاهم فأبوا عليه وعلى أصحابه، فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلاً استأمنوا فآمنهم. وكان في الخوارج أربعون رجلاً جرحى، فأمر علي بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برأوا. وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين، وكانوا من أشجع من قائل من الخوارج، ولجرأتهم قاربوا الكوفة.
● [ ذكر عدة حوادث ] ●
وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس من قبل علي، وكان عامله على مكة، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس، وعلى البصرة عبد الله بن عباس، وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي، وقيل كان ابن أبزى، وأما الشام ومصر فكان بهما معاوية وعماله.
وفي هذه السنة مات صهيب بن سنان، في قول بعضهم، وكان عمره سبعين سنة، ودفن بالبقيع.
مختصر الكامل في التاريخ لابن الأثير
منتدى نافذة ثقافية - البوابة