بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي الإمام في بيان أدلة الأحكام لعز الدين بن عبد السلام ● [ الفصل السابع ] ● في فوائد متفرقة
الأولى السياق مرشد إلى تبين المجملات وترجيح المحتملات وتقرير الواضحات وكل ذلك بعرف الاستعمال فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما فما كان مدحا بالوضع فوقع في سياق الذم صار ذما واستهزاء وتهكما بعرف الاستعمال مثاله { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أي الذليل المهان لوقوع ذلك في سياق الذم وكذلك قول قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } أي السفيه الجاهل لوقوعه في سياق الإنكار عليه وكذلك { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } لوقوعه في سياق ذمهم بإضلال الأتباع وأما ما يصلح للأمرين فيدل على المراد به السياق كقوله تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم } أراد به عظيما في حسنه وشرفه لوقوع ذلك في سياق المدح وقوله { إنكم لتقولون قولا عظيما } أراد به عظيما في قبحه لوقوع ذلك في سياق الذم وكذلك صفات الرب المحتملة للمعاني المتعددة تحمل في كل سياق على ما يليق به كقوله { إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } تمدح بسهولة في قدرته وكذلك قوله { ذلك حشر علينا يسير } وأما قوله { فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا } وقوله { يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا } فإن المراد في هاتين الآيتين احتقار المعذب وعنته وإنما جاز ذلك لأن من هان عليك سهل عليك عذابه وعنته ومن عز عليك صعب عليك مصابه ومشقته وإنما حمل على الاستهانة لأنه لا يصلح من الرب التمدح بالقدرة على تعذيب امرأة أو رجل إذ التمدح من الرب بأدنى الصفات قبيح في عرف الاستعمال ولذلك يقبح أن يقال سيبويه يعرف أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والشافعي يعرف مسألة إزالة النجاسة وجالينوس يعرف أن الصفراء حادة يابسة وكذلك العزيز في أوصاف الرب سبحانه يطلق بمعنى الغالب القاهر ويطلق بمعنى الممتنع من العيب والضيم ويطلق بمعنى الذي لا نظير له ويحمل كل سياق على ما يليق به الفائدة الثانية إخبار الشارع عن ما يعلم بالعادة أو بالعقل أو بالحس ليس الغرض منه الإعلام بذلك المخبر عنه بل به فوائد تنثني عليه الأولى أن يذكر ردا على دعوى مدع وتكذيبا لافتراء مفتر كقوله { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } وقوله { فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } وقوله { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } { وما صاحبكم بمجنون } الثانية أن يذكر وعظا كقوله { تلك أمة قد خلت } { قد خلت من قبلكم سنن } { كل نفس ذائقة الموت } { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } { إنك ميت وإنهم ميتون } { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } كذلك ما تواتر من قصص المكذبين المهلكين فإنه ذكر للاعتبار والأتعاظ وكذلك قال بعد ذكر إهلاكهم { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي اتعاظا لمن كان له عقل وكذلك قوله { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } أي فاتعظوا وكذلك قوله { كل من عليها فان } الثالثة أن يذكر للدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } الآية { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم } ذكر أخفى ما في القضية لأنه أبلغ في الدلالة { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } { وما كنت ثاويا في أهل مدين } { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } وكذلك القصص الموافقة لما في التوراة والإنجيل ذكرت للاستدلال على صحة النبوة ولذلك قال { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } أي عبور من حيز الجهل إلى حيز العلم لأن العبرة فعله من العبور فجاز أن تستعمل في العبور من حيز الجهل إلى حيز العلم كما استعملت في العبور من الاغترار إلى حيز الأتعاظ الرابعة أن يذكر عتبا كقوله تعالى { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } إلى قوله { والله أحق أن تخشاه } وقوله { عبس وتولى } إلى قوله { فأنت له تصدى } الخامسة أن يذكر توبيخا ولوما كقوله { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } السادسة أن يذكر تمننا كقوله { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } قوله { إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس } الآية { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم } { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين } الآيتان السابعة أن يذكر للاستدلال على الإعادة بالإنشاء كقوله { ألم يك نطفة من مني يمنى } { ألم نخلقكم من ماء مهين } { ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا } { لم يكن شيئا مذكورا } { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } { ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم } أي اقتدارنا على بعثكم { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } الثامنة أن يذكر تمدحا كتمدح الرب سبحانه بأوصافه التي دل عليها العقل من الحياة والعلم والقدرة والإرادة وقد يذكر العلم والقدرة ترغيبا وترهيبا التاسعة أن يذكر مدحا وذما كقوله تعالى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } { فأحسن صوركم } ويحتمل أن يكون هذا تمعنا كقوله { خلق الإنسان من عجل } { إن الإنسان خلق هلوعا } { وخلق الإنسان ضعيفا } العاشرة أن يذكر تنبيها على سعة القدرة كقوله { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } وأما إخباره عن أكل اللحم الطري منهما واستخراج الحلية من الملح فذاك من باب التمنن وكذلك من باب التمنن قوله { يسألونك } { يستفتونك } فإنه تمنن عليهم بأن أجاب سؤالهم ولم يهملهم ولم يعرض عنهم ولا سيما إن أجابهم على الفور ويحتمل أن تكون فائدته نفي ثم احتمال خروج محل السؤال عن الإرادة الحادية عشرة أن يذكر فارقا كقوله { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ذكر فرقا بين الفيء والغنيمة الثانية عشرة أن يذكر إغراء بالعداوة والقتال وحثا عليهما كقوله { نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة } { يخرجون الرسول وإياكم } الفائدة الثالثة من فوائد الفصل كلمة التوحيد تدل على التكليف بالواجب والحرام إذ معناه لا معبود بحق إلا الله والعبادة هي الطاعة مع غاية الذل والخضوع فقد نص بالإستثناء على أنه مستحق لها وأما نفيها عن ما عداه فيجوز أن يكون حكما بتحريم ذلك في حق غيره وهو الظاهر ويجوز أن يكون إخبارا عن النفي الأصلي ويكون تحريم عبادة غير مأخوذا من قوله { أمر ألا تعبدوا إلا إياه } أو من الإجماع وكذلك كل نفي في هذا المعنى كقوله { فلا جناح عليهما } { فلا إثم عليه } الفائدة الرابعة من فوائد الفصل قد يقع في سياق التوبيخ والذم والتهديد ما لا يتعلق به ذم ولا توبيخ ولا وعيد بل يذكر تقبيحا لما يتعلق به الذم والتوبيخ والوعيد كقوله { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } ذكر الأمر بالبر تقبيحا لنسيان الأنفس { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } ذكر الإيمان ببعض الكتاب تقبيحا للكفر ببعضه { فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم } ذكر الدعاء تقبيحا لقوله { إنما أوتيته على علم } { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } ذكر الإعراض عن الألهة تقبيحا للإعراض عن الله تعالى عند النجاة { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } ذكر العلم تقبيحا للكتمان مع المعرفة وكذلك قوله { لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } ذكر الاستيقان تقبيحا للجحود مع اليقين وكذلك { أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } ذكر ترك الإتيان للأزواج تقبيحا لإتيان الذكران إن كان الترك مباحا في ملتهم وكذلك قوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } ذكر الإيمان مباحا في ملتهم وكذلك قوله { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } ذكر الإيمان تقبيحا للكفر الواقع بعده الفائدة الخامسة قد يقع في سياق المدح والثواب ما لا يتعلقان به بل يذكر تعريفا للممدوح المثاب كقوله { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } وقوله { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } وقوله { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } الفائدة السادسة قد يقع في سياق التوبيخ والذم مباح لا يتعلق به ذم ولا توبيخ من جهة كونه مباحا لكن من جهة كونه شاغلا عن الواجب كقوله { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } { إن هؤلاء يحبون العاجلة } { وتحبون المال حبا جما } الفائدة السابعة تمنن الرب تعالى بنعمه إن كانت تلك النعم من أفعاله التي لا اكتساب لنا فيها كان التمنن بها ترغيبا لنا في شكرها بعرف الاستعمال وإن كانت بما خلق في الأعيان من المنافع كان ذلك أذنا في الانتفاع وترغيبا في الشكر { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم } { قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا } { أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا } { نسقيكم مما في بطونه } { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } { وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه } { خلق لكم ما في الأرض جميعا } { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } الفائدة الثامنة ولاية الله عز وجل للعبد عبارة عن ثنائه عليه وإحسانه إليه فتدل على الطاعة الدالة على الأمر { وهو يتولى الصالحين } { وهو وليهم بما كانوا يعملون } وولاية العبد لله قيامه بطاعته وكذلك ولايته لرسوله وأما ولاية المؤمنين فبالنصرة والمؤالفة { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة الفائدة التاسعة قد يتعلق بالمدح والثواب من جهة اللفظ ما لا يدخل تحت الكسب من فعل غير الممدوح فيكون المدح والثواب معلقين بسببه أو بشيء من لوازمه كقوله تعالى { أخرجوا من ديارهم وأموالهم } وقوله { وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } { لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة } كل ذلك ليس من أفعالهم لكنهم تسببوا إلى أن أوذوا وأخرجوا من ديارهم وقتلوا بما أظهروه من إيمانهم فأثيبوا عليه ومدحوا به لأنهم تسببوا إليه فالثواب والمدح واقعان على السبب دون المسبب إليه وكذلك مدحوا بالظمأ والنصب والمخمصة ورتب عليه الأجر لتسببهم إليه بحصولهم في مظانه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك هو مرتب على الكلم من جهة اللفظ وعلى التسبب إليه من جهة المعنى وقوله صلى الله عليه وسلم من عزى مصابا فله مثل أجره تقديره مثل أجر صبره فإن المصيبة ليست من فعله حتى يؤجر عليها وقد قال تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } { إنما تجزون ما كنتم تعملون } فلا أجر ولا جزاء إلا على عمل مكتسب في نفسه أو مكتسب السبب الفائدة العاشرة قد يقع في سياق التعليل ما لا يصح أخذه في التعليل بل يذكر تقريرا للتعليل كقوله تعالى { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } { ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } الآية { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } الفائدة الحادية عشرة قد تتعلق خصائص الأمر والنهي بأوصاف الجبلية لا يصح اكتسابها فتكون تلك الخصائص متعلقة بآثارها الداخلة تحت الكسب تعبيرا باسم السبب عن المسبب وبالمثمر عن ثمرته وذلك كالرأفة والرحمة والحلم والأناة والجود والسخاء واللين والحياء والجبن والبخل والحرص والشح وضيق العطن والفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأوصاف الجبلية المحمودة والمذمومة فأمره بالرحمة ومدحه للراحم أمر بآثار الرحمة من الإحسان إلى المرحوم فقوله صلى الله عليه وسلم ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء معناه عاملوهم معاملة الراحم وقوله الراحمون يرحمهم الرحمن وكذلك المدح بالحلم والأناة في قوله تعالى { إن إبراهيم لحليم } وقوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة وكذلك مدح الحياء في قوله صلى الله عليه وسلم الحياء خير كله هو مدح لآثاره من الكف عن القبائح ولذلك قال الحياء لا يأتي إلا بخير وقال استحيوا من الله حق الحياء وكذلك مدح الكرم والسخاء مدح لآثارهما من البذل والعطاء ولذلك يجري حكم الذم بكل وصف جبلي والنهي عنه فقوله صلى الله عليه وسلم إياكم والشح إنما نهى عن آثاره من الإمساك عن بذل ما يجب بذله وكذلك الذم بالجبن متعلق بآثاره ترك الإقدام على ما ينبغي الإقدام عليه وكذلك الغلظة والفظاظة والجفاء وغير ذلك وكذلك النهي عن الهوى إنما هو نهي عن آثاره لأن الهوى ميل طبعي فالنهي عنه نهي عن موافقته ومتابعته وقد صرح بذلك في قوله { ولا تتبع الهوى } بخلاف قوله { ونهى النفس عن الهوى } فإن معناه ونهى النفس عن آثار الهوى فإن الهوى هو الميل إلى المشتهيات طبعا فلا يتعلق به تكليف ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب وكذلك قوله { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } لم ينه عن الرأفة في نفسها لأنها جبلية لا يتعلق بها تكليف وإنما النهي عن آثارها كترك الجلد أو تنقيصه أو تخفيفه وكذلك النهي عن الحسد الهاجم الذي لا يمكن دفعه فإن النهي عنه نهي عن آثاره من الإضرار بالمحسود وكذلك النهي عن الظن الهاجم الذي يتعذر دفعه عند قيام أسبابه في قوله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث إنما نهى عن آثار الظن وهو أن يعامل بآثاره المذمومة شرعا وإن عمل بأثر لذلك الظن غير مذموم في الشرع فلا بأس فإن الجرم سوء الظن أي من آثار سوء الظن والنهي عن العجلة نهي عن آثارها وقد قال تعالى { خلق الإنسان من عجل } { وكان الإنسان عجولا } وكذلك الجزع في قوله ** إذا مسه الشر جزوعا إنما هو ذم لآثار الجزع وكذلك حب العاجلة وحب الشهوات من النساء والبنين لا يتعلق الذم فيهما بمجرد الحب والميل بل بآثار المحبة الملهية عن السعي للآخرة الفائدة الثانية عشرة قد يتعلق النهي بشيء والمراد به ما يلازمه فيكون مضافا إليه لفظا وإلى ما يلازمه معنى كقوله تعالى { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } معناه لا تكفروا عند الموت وقوله { وذروا البيع } معناه لا تشتغلوا عن الجمعة ولا تتركوا السعي إليها ولا يبع بعضكم على بيع بعض معناه لا يضر بعضكم ببعض الفائدة الثالثة عشرة كل فعل كسبي أضافه الله تعالى إلى نفسه كانت إضافته إليه مدحا له كقوله { شهادة الله } و { عهد الله } و { صراط الله } و { دين الله } و { صبغة الله } وكل فعل كسبي برأ الله أنبياء منه فهو مذموم { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } وكذلك قوله { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } وكل فعل أخبر الله تعالى عن كتبه أو وزنه فالتكليف متعلق به { سنكتب ما يقول } { ورسلنا لديهم يكتبون } { وكل شيء فعلوه في الزبر } { وإنا له كاتبون } { وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين } { وكل شيء أحصيناه كتابا } { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } { والوزن يومئذ الحق } وثقل الموازين أخذ الكتب بالأيمان يدل على الطاعات وخفة الموازين وأخذ الكتب بالشمائل أو من وراء الظهور يدل على المخالفات وشهادة الله وأنبيائه وشهادة الجوارح تدل على التكاليف { ثم الله شهيد على ما يفعلون } { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } { إنا أرسلناك شاهدا } { نبعث من كل أمة شهيدا } الآية { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا } { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } { بل الإنسان على نفسه بصيرة } ثم يقال لجوارحه انطقي الفائدة الرابعة عشرة وصف القرآن بأنه حق إن حمل الحق على الحكمة والصواب تضمن جميع الأحكام وإن حمل على الصدق تضمن الوعد والوعيد والأحكام المعبر عنها بألفاظ الأخبار وأما وصف السموات والأرض بأنهما خلقتا بالحق فالمراد بالحق التكاليف بدليل قوله { خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا } وقوله { وخلق الله السماوات والأرض بالحق } أي بسبب التكليف الذي هو حق { ولتجزى كل نفس بما كسبت } معناه لتجزى كل نفس بما كسبت خلقناهما بالحق الذي هو التكليف الفائدة الخامسة عشرة تمني الرجوع إلى الدنيا وسؤال الرجعة والتأخير يدل على الذم والحسرة على ترك الطاعة إلا في حق الشهيد فإنه تمنى الرجوع إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله لما يرى من فضل الشهادة مثال ذلك { يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } { ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل } { رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت } { رب لولا أخرتني إلى أجل قريب } الفائدة السادسة عشرة قد يقع الخطاب بتقدير حضور المخاطب { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } بتقدير حضورك { ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } { وتحسبهم أيقاظا وهم رقود } الفائدة السابعة عشرة كل فعل رتب عليه وصف الله تعالى بالغني فهو منهي عنه بطريق الاستقراء { ومن كفر فإن الله غني حميد } { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } { ومن كفر فإن ربي غني كريم } { وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا } وقد جاء { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين } الفائدة الثامنة عشرة إذا كان الفعل حاصلا فالأمر به أمر باستدامته كقوله تعالى { فاعلم أنه لا إله إلا الله } { فاستقم كما أمرت } { يا أيها الذين آمنوا } آمنوا على قول وعلى القول الثاني آمنوا بزعمهم غير الأصل وإن كان الفعل غير حاصل فإن كان مقدورا كان الأمر به أمرا بإنشائه كقوله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين } وإن لم يكن مقدورا كان الأمر به أمرا بالتسبب إليه فالأمر بمعرفة الله أمر بالنظر المفضي إليها إذ لا تدخل تحت الكسب عند العثور على وجه الدليل ولا قبل العثور الفائدة التاسعة عشرة تكرر دلائل الأمر والنهي وتضافرها على ذلك يدل على اهتمام الشرع بذلك المأمور والمنهي واعتنائه بهما وأكثر ما وقع ذلك في التقوى لكونها جماعا لخير الدنيا والأخرة الفائدة الموفية عشرين من فوائد الفصل الإرسال يدل على أمر الرسول بالإبلاغ وعلى أمر المرسل إليه بالطاعة وأمر الرسول بالإنذار أمر له بالصيغة ونهي لأمته عما أنذروا من أجله من ترك الواجب وفعل الحرام وأمر الرسول بتبشير الفاعل أمر للرسول بإبلاغ البشارة وحث للمبشر على الفعل المنصوب سببا للتبشير الفائدة الحادية والعشرون وصف القرآن بأنه كتاب منزل فيه مجاز من وجهين أحدهما تسميته كتابا إما باعتبار ما كان عليه في اللوح المحفوظ كقوله { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } وقوله { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } أو باعتبار ما يؤول إليه من كتابته في المصاحف الثاني وصفه بالنزول والألفاظ لا يتصور فيها تنقل ونزول بل يتجوز بنزولها وتنقلها عن نزول محلها وتنقله ووصفه بكونه بشيرا ونذيرا فيه مجاز من وجهين أيضا أحدهما أن البشير هو المخبر بالخبر السار والنذير هو المخبر الخبر الضار ثم تجوزت العرب باستعمال ذلك في نفس الخبر الثاني وصف جملة الكتاب بكونه بشيرا ونذيرا وليس جملته كذلك فهو من باب وصف الشيء بما قام ببعضه وأما وصفه بأنه أحسن الحديث فشامل لجملته وكذلك وصفه بكونه عربيا على أحد القولين والعرب تصف الشيء تارة بما قام بجميع أجزائه كالمتحرك والساكن والراحل والقاطن وتارة بما قام ببعض أجزائه كالعارف والعاقل والخائف والآمن الفائدة الثانية والعشرون قد يكون للمجاز مجاز آخر نسبته إليه كنسبة المجاز إلى الحقيقة مثال ذلك إن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه متسبب عن العقد غالبا ثم سمي الوطء سرا للزومه للسر غالبا ثم سمي العقد سرا تجوزا لكونه سببا للسر الذي هو الوطء فالتعبير عن العقد بكونه سرا في قوله تعالى { ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا } مجاز عن السر الذي هو الوطء فصار التعبير بالسر عن الوطء مجاز عن المجاز الذي تجوز به عن الوطء الفائدة الثالثة والعشرون قد يجاب الشرط من جهة اللفظ بما لا يجوز أن يكون جوابا من جهة المعنى فيكون الجواب المعنوي أمرا يلازم اللفظ المجازي به أو يدل عليه السياق مثاله قوله تعالى { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } جوابه المعنوي فتأس بهم لأن معرفة المشاركة في المصائب سبب للتأسي فلذلك صح التجوز وكذلك قوله { وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } جوابه المعنوي فليحذروا أن يصيبهم ما أصاب الأولين وإنما صح التجوز من جهة أن من علم أن غيره قد عوقب على عمل فإنه يحذر ذلك العمل مخافة أن يصيبه ما أصاب غيره وكثيرا ما تقع هذه الضروب في أوصاف القديم سبحانه كقوله { فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا } جوابه المعنوي فإذا جاء أجلهم جزاهم بما عرفه منهم فإن الجزاء بالإساءة والإحسان يتوقف على معرفتهما فلما توقف على ذلك صار كأنه مسبب عنهما لتحقق التوقف وهذا كقولك إن تأت فلانا فإنه جواد كريم جوابه المعنوي يعطيك ويبرك فإن العطاء والبر فرعان للجود والكرم وكذلك قولك إن تستنصر فلانا فإنه أسد باسل جوابه المعنوي ينصرك نصرا بليغا فإن النصر يتوقف على البسالة والجلادة الفائدة الرابعة والعشرون أمر الرسول بالإعراض ونهي الفاعل عن الاعتذرا ونفي السبيل أما نفي السبيل فيدل على الإذن لأن معناه لا سبيل عليهم بالمؤاخذة وإثباته يدل على النهي { ما على المحسنين من سبيل } { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء } ونهي الفاعل عن الإعتذار يدل على النهي عن الفعل { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } { لا تعتذروا لن نؤمن لكم } وأمر الرسول بالإعراض عن الفاعل والتولي عنه يدل على النهي { فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } { وأعرض عن الجاهلين } { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } { فتول عنهم حتى حين } { فتول عنهم فما أنت بملوم } الفائدة الخامسة والعشرون نفي الكون كقولك ما كان لكذا كذا وكذا قد يستعمل نفيا وقد يستعمل نهيا مثال النفي { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } { ما كان لله أن يتخذ من ولد } { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } { وما كان الله ليضيع إيمانكم } { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } { وما كان لنبي أن يغل } { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } { وما يكون لنا أن نعود فيها } { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم } { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } ومثال النهي { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا } الفائدة السادسة والعشرون ذكر ما في الفعل من مصلحة يدل على الإذن وذكر ما فيه من مفسدة يدل على النهي مثال ما في الفعل من المفسدة { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } { فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } ومثال ما فيه من المصلحة { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } { وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } { فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا } { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة } { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } { يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } فذكر مصالح الأفعال إذن أو ترغيب وذكر مفاسدها نهي أو ترهيب الفائدة السابعة والعشرون قد يطلق الجعل بمعنى الشريعة { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } أي ما حكم بذلك الفائدة الثامنة والعشرون قد يطلق المثل على ذات الشيء ونفسه كقوله { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } ومعناه فإن آمنوا بما آمنتم إذ لا مثل لما آمنا به وقوله { فجزاء مثل ما قتل من النعم } أي فجزاء القتل من النعم وقوله { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } وقوله { لمثل هذا فليعمل العاملون } إذ لا مثل للجنة ونعيمها وقالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي يغار على مثلك وقال الشاعر ** يا عاذلي دعني من عذلكما مثلي لا يسمع من مثلك الفائدة التاسعة والعشرون قد يوصف الشيء بما يقوم بجملته وقد يوصف بما يقوم ببعض أجزائه فوصف القرآن بكونه من عند الله منزلا مباركا كريما عليا مجيدا محفوظا أحسن الحديث متشابها في شرفه ونظمه وصف له بما قام بجميع أجزائه وكذلك وصفه بكونه عربيا عند من قال لا عجمية فيه ووصفه بالتبشير خاص بآيات البشارة ووصفه بالإنذار خاص بآيات التخويف ووصفه بالصدق عام لآيات الأخبار دون ما لا يدخله تصديق كالأمر والنهي ووصفه بالإعجاز خاص بسورة فما فوقها ووصفه بالموعظة والذكر خاص بآيات الوعظ والتذكير ووصفه بكونه حقا عام إن حمل على الصواب وإن حمل على الصدق اختص بكل ما يدخله التصديق ووصفه بكونه رحمة لجميع جمله لأن آيات الثناء مشتملة على تعريف العباد ما يجب لله من اعتقاد جلاله وكماله وإنعامه وإفضاله وذلك من آثار الرحمة ولا يخفى ما في الأمر والنهي والوعظ والوعد والوعيد من حث العباد على ما يقربهم إليه ويزلفهم لديه وزجرهم عما يبعدهم منه ويغضبه عليهم من ذلك أبلغ آثار الرحمة الفائدة الموفية الثلاثين المحذوفات التي يجوز حذفها والنطق بها بمثابة المنطوق به لفظا ومعنى فلا يحذفون إلا ما لو نطقوا به لكان أحسن وأفصح وأكمل في ملائمة لفظ ذلك السياق ومعناه ولا يحذفون ما لا دليل عليه وإذا دار المحذوف بين أمرين قدر أحسنهما لفظا ومعنا والسياق مرشد إليه فيقدر في كل موضع أحسن ما يليق به فيقدر في قوله تعالى { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } معناه لو حصل لهم ما في الأرض جميعا ليفتدوا به ما تقبل منهم ويقدر في قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات الاعتبار أي الأعمال معتبرة بالنيات ويقدر في قوله تعالى { ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير } ذلك شاهد بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير فإن استدلاله بخلقنا من تراب ثم من نطفة ثم من علقة وتقلبها في الأطوار المذكورة وبإحيائه الأرض بعد موتها يشهد باقتداره على الإعادة والإحياء وخلق جميع الأشياء وكذلك تقدر الشهادة في قوله تعالى { ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر } إلى قوله { ذلك بأن الله هو الحق } إلى آخر الآية أي إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل وتسخير الشمس والقمر يشهد بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير الفائدة الحادية والثلاثون المحذوفات أنواع الأول القول وكثيرا ما يحذف في الكلام والقرآن فنذكر لذلك أمثلة أحدها قوله تعالى { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } معناه فيقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم الثاني قوله تعالى { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } أي يقولون سلام عليكم الثالث قوله { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق } معناه أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق الرابع قوله { يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر } معناه ويقال لهم { ذوقوا مس سقر } قدرت ها هنا ويقال لأنه يناسب يسحبون وقدرت في الآية قبلها وقيل لمناسبة أعيدوا النوع الثاني ما يحذف من العلل والمعلومات ولذلك أمثلة أحدها قوله تعالى { ولهم عذاب أليم } { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق } أي فكتموا واشتروا فحذف الكتمان والاشتراء لإرشاد السياق إليه ولا يصح أن يكون إنزال الكتاب بالحق علة لعذابهم الثاني قوله تعالى { هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } المعنى ولكن أكثركم فاسقون نقمتم منا معناه لإيماننا بالله وبالمنزل فحذف المعلول اختصارا لدلالة السياق عليه وإرشاده إليه الثالث قوله تعالى { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } تقديره وليكون من الموقنين أريناه ذلك الرابع قوله تعالى { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى } تقديره ولتنذر أهل أم القرى ومن حولها أنزلناه الخامس قوله { وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد } معناه وأن الله يهدي من يريد أنزلناه آيات بينات السادس قوله { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } معناه ولأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور استدللنا على جواز البعث بالنشأة وبإحياء الأرض بعد موتها النوع الثالث حذف جواب لو في سياق التهديد وله أمثلة الأول قوله تعالى { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } تقديره لرأيت أمرا هائلا عظيما نكرا لكنه حذف تفخيما للأمر ليذهب الذهن فيه كل مذهب الثاني قوله { ولو ترى إذ وقفوا على النار } { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } الثالث { ولو ترى إذ الظالمون } الرابع { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } الخامس { ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم } النوع الرابع حذف المقسم إذا كان في الكلام ما يرشد إليه فالمقسم عليه في قوله تعالى { ص والقرآن ذي الذكر } إهلاك المكذبين لقوله { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } والمقسم عليه في قوله تعالى { ق والقرآن المجيد } البعث بعد الموت لما ذكره بعد ذلك من ذكر البعث والدلالة عليه وكذلك المقسم عليه في قوله { بالنفس اللوامة } وأما المقسم عليه في قوله تعالى { والفجر } فإهلاك المكذبين لقوله { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } النوع الخامس حذف الذكر وهو ضربان أحدهما أن يكون من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وذلك كقوله { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } { إنا جعلناها فتنة للظالمين } { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } معناه وما جعلنا ذكر ذلك إلا فتنة للناس إذ لا يفتنون بمجرد الجعل وإنما يفتنون بذكر ذلك وكذلك قوله { وما جعله الله إلا بشرى لكم } معناه وما جعل الله ذكر الإمداد إلا بشرى لكم فإنهم لا يستبشرون بمجرد الإمداد الثاني أن يكون الذكر مأمورا متعلقا بظرف زماني كقوله تعالى { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } وقوله { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم } { اذكر نعمتي عليك } وقوله { يوم يجمع الله الرسل } { ويوم يقول كن فيكون } على قول وقوله { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } معنى ذلك اذكر يوم يجمع الله الرسل أذكر يوم نقول كن فيكون اذكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها اذكر إذ قال ربك فحذف الذكر لكثرة الاستعمال ودلالة السياق عليه النوع السادس حذف الفعل الذي يتعلق به التحليل والتحريم كقوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } معناه نكاح أمهاتكم { حرمت عليكم الميتة } أي أكل الميتة والدم ولحم الخنزير { ويحل لهم الطيبات } أي تناول الطيبات { ويحرم عليهم الخبائث } أي قربان الخبائث { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي نكاح ما وراء ذلكم { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } معناه وأكل طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وأكل طعامكم حل لهم وحذف المضاف في هذا الباب غالبا بعرف الاستعمال حتى لا يكادون يذكرون الفعل المتعلق بالعين المحللة أو المحرمة وقد ترشد المقاصد إلى المحذوفات المختلفة كقوله { إنما الخمر والميسر } الآية معناه إنما شرب الخمر وقمار الميسر واستقسام الأزلام وعبادة الأنصاب أو ذبح الأنصاب فأرشد المقصود من كل عين من هذه الأعيان إلى ما حذف منها النوع السابع حذف المضاف ولا يكاد يحصى كثرة فمن ذلك قوله تعالى { لها ما كسبت } أي جزاء ما كسبت { وعليها ما اكتسبت } أي وبال ما اكتسبت { وتوفى كل نفس ما عملت } أي أجر ما عملت { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } أي تجدوا ثوابه عند الله { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي جزاء ما سعى ويجزيهم أجرهم بأحسن جزاء الذي كان يعملون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم } أي أسباب حسرات عليهم { ولكم في القصاص حياة } أي في شرع القصاص حياة وفي هاهنا للسببية { والحرمات قصاص } وانتهاك الحرمات أسباب القصاص { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } أي سبب ريبة في قلوبهم { والإثم والبغي } أي أسباب الإثم والبغي فإن الإثم عهدة الذنب على قول والأصح أن الإثم الفعل الذي لا عهدة له { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } أي إلى أسبابها { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } أي ير جزاءه وكذلك { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } { ليروا أعمالهم } أي جزاء أعمالهم { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } أي عن شكر النعيم فإن المباح من النعيم لا يسأل عنه توبيخا وقد وقع ذلك في سياق التهديد { لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم } أي كفتنة إخراج أبويكم { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } أي كآية إرسال الأولين { هي أشد قوة من قريتك } أي من أهل قريتك { لتنذر أم القرى ومن حولها } أي أهل أم القرى ومن حولها { يخافون ربهم } أي عذاب ربهم { يرجون تجارة } أي ربح تجارة لأن ربح الأعمال ثوابها والتجارة بالأعمال { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } كضوء المصباح { أو كصيب من السماء } أي كأصحاب صيب من السماء { يذهبن السيئات } أي إثم السيئات { لقد كان في يوسف } أي في قصة يوسف النوع الثامن حذف جواب الشرط فمن ذلك قوله تعالى { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } { فقد كذب الذين من قبلهم } جوابه محذوف تقديره فتأس بمن كذب قبلك من المرسلين ولا يصح أن يكون قوله كذبت رسل من قبلك جوابا لأنه متقدم على الشرط وجواب الشرط لا يتقدم عليه وكذلك قوله { وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } لا يجوز أن يكون جوابا لتقدمه على عودهم وإنما الجواب فليحذروا ما أصاب الأولين وكذلك قوله { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } أما العفو فإنه مرتب على الشرط ولكن كان يمنع عن ذلك وأما القدرة فلا يصح فيها الترتيب لقدمها وجواب الشرط يجزكم بذلك لقدرته على الجزاء وكذلك قوله { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } لا يصح ترتيب سمعه وعلمه على عزيمة الطلاق والجزاء فليحذروا أذيتهن بقول يسمعه الله أو فعل يراه الله وكذلك قوله { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } أي يجازيكم عليه وهذا بعرف الاستعمال النوع التاسع حذف بعض القصة لدلالة المذكور على المحذوف وذلك كقوله تعالى { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق } تقديره فأرسلوه فأتاه فقال يوسف أيها الصديق { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا } حذف فأتياه فقالا إنا رسول رب العالمين الآية وكذلك قوله { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى } حذف الجمل التي أمرا بإبلاغها إما على جهة التفصيل لو لفظ بها وإما على جهة الاختصار مثل أن يقول فأتياه فأبلغاه ذلك قال فمن ربكما يا موسى وكذلك قوله { اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى } فحذف ذكر ما أمر بإبلاغه إليه ولو لفظ به لكان ذكره مختصرا أحسن فيقدر كذلك ذلك مثل أن تقول وأبلغه ذلك كما قال { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين } ولم يقل فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك الفائدة الثانية والثلاثون التذكير بالنعم يتضمن اقتضاء شكرها لأن شكرها هو المقصود من ذكرها { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } { فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون } { اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } فالغرض بتذكير النعم والتوسل بذكرها إلى شكرها لما يتوقف شكرها على ذكرها وإلا فمجرد ذكر النعمة لا غرض فيه
كتاب: الإمام في بيان أدلة الأحكام المؤلف : الإمام عز الدين بن عبد العزيز بن عبد السلام السلمي منتديات الرسالة الخاتمة - البوابة