من طرف فريق العمل الأحد أغسطس 09, 2015 2:23 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الثالث : الأمراض الجزئية
الفن الأول: أمراض الرأس والدماغ
تابع المقالة الرابعة: أمراض الرأس
وأكثر مضرتها في أفعال الحس والسياسة
● [ فصل في المالنخوليا ] ●
يقال مالنخوليا لتغيّر الظنون والفكر عن المجرى الطبيعي إلى الفساد وإلى الخوف والرداءة، لمزاج سوداوي يوحش روح الدماغ من داخل ويفزعه بظلمته كما توحش وتفزع الظلمة الخارجة، على أنّ مزاج البرد واليبس منافٍ للروح مضعف، كما أن مزاج الحرّ والرطوبة كمزاج الشراب ملائم للروح مقوّ.
وإذا تركت مالنخوليا مع ضجر وتوثّب وشرارة، انتقل فسمّي مانيا، وإنما يقال مالنخوليا لما كان حدوثه عن سوداء محترقة، وسبب مالنخوليا، إما أن يكون في الدماغ نفسه، وإما من خارج الدماغ. والذي في الدماغ نفسه، فإنه إمّا أن يكون من سوء مزاج بارد يابس بلا مادة تنقل جوهر الدماغ ومزاج الروح النيّر إلى الظلمة، وإمّا أن يكون مع مادة. والذي يكون مع مادة، فإما أن تكون المادة في العروق صائرة إليها من موضع آخر، أو مستحيلة فيها إلى السواد باحتراق ما فيها، أو تعكّره، وهو الأكثر أو تكون المادة متشرّبة في جرم الدماغ، أو تكون مؤذية للدماغ بكيفيتها وجوهرها فتنصبّ في البطون، وكثيراً ما يكون انتقالاً من الصرع. والذي يكون سببه خارج الدماغ. بشركة شيء آخر، يرتفع منه إلى الدماغ خلط، أو بخار مظلم، فإما أن يكون ذلك الشيء في البدن كله إذا استولى عليه مزاج سوداوي، أو الطحال إذا احتبس فيه السوداء، ولم يقدر على تنقيتها، أو عجز، ولم يقدر على جذب السوداء من الدم، وإما لأنه قد حدث به ورم، أو لم يحدث، بل آفة أخرى، أو لسبب شدة حرارة الكبد، وإما أن يكون ذلك الشيء هو المراق إذا تراكمت فيه فضول من الغذاء ومن بخار الأمعاء واحترقت أخلاطه واستحالت إلى جنس سوداوي، أحدثت ورماً، أو لم تحدث، فيرتفع منها بخار مظلم إلى الرأس، ويسمى هذا نفخة مراقية، ومالنخوليا نافخاً، ومالنخوليا مراقياً، وهو كثيراً ما يقع عن ورم أبواب الكبد، فيحرق دم المراق، وهو الذي يجعله جالينوس السبب في المالنخوليا المراقي. وروفس جعل سببه شدة حرارة الكبد والمعي. وقوم آخرون يجعلون سببه السدة الواقعة في العروق المعروف بالماساريقا مع ورم. وآخرون يجعلون السبب فيه اسدد الواقعة في الماساريقا، وإن لم يكن ورم. واستدلّ من جعل السبب في ذلك السدد الواقعة في الماساريقا، بأن غذاء هؤلاء لا ينفذ إلى العروق، فيعرض له فساد.
واستدلّ من قال أن ذلك من ورم بطول احتباس الطعام فيهم نيئاً بحاله في الأكثر، فلا يكون هذا الورم حاراً، لأنه لا يكون هناك حمّى وعطش وقيء مرار.
وربما كَان سبب تولده هو من خارج الدماغ، ومبدأ تولده هو في الدماغ، كما إذا كان في المعدة ورم حار، فأحرق بخاره رطوبات الدماغ، أو كان في الرحم أو سائر الأعضاء المشاركة للرأس.
والذي يكون عن برد ويبس بلا مادة فسببه سوء مزاج في القلب سوداوي بمادة أو بلا مادة، يشركه فيه الدماغ، لأن الروح النفساني متصل بالروح الحيواني، ومن جوهره، فيفسد مزاجه الفاسد السوداوي مزاج الدماغ، ويستحيل إلى السوداوية، وقد يكون لأسباب أخرى مبردة ميبّسة لا من القلب وحده على أنه لا يمكن أن يكون بلا شركة من القلب، بك عسى أن يكون معظم السبب فيه من القلب، ولذلك لا بد من أن يكون علاج القلب مع علاج الدماغ في هذا المرض.
واعلم أن دم القلب إذا كان صقيلاً رقيقاً صافياً مفرحاً قاوم فساد الدماغ وأصلحه. ولا عجب أن يكون مبدأ ذلك في أكثر الأمر من القلب، وإن كان إنما تستحكم هذه العلل في الدماغ، لأنه ليس ببعيد أن يكون مزاج القلب قد فسد أولاً، فيتبعه الدماغ أو يكون الدماغ قد فسد مزاجه، فيتبعه القلب، ففسد مزاج الروح في القلب واستوحش، ففسد ما ينفذ منه إلى الدماغ، وأعان الدماغ على إفساده، وقد يعرض في آخر الأمراض المادية خصوصاً الحادة مالنخوليا فيكون علامة موت. وحينيذٍ يعرض لذلك الإنسان أن يذكر الموت والموتى كثيراً، وبالجملة، فإن السوداء تكثر فتتولد تارةً بسبب العضو الفاعل للغذاء، وهو الكبد إذا أحرق الدم أو ضعف عن دفع الفضل السوداوي، وهو الأقل، وتارة بسبب العضو الذي هو مفرغة للسوداء، وهو الطحال، إذا ضعف عن أمرين: أحدهما: جذب ثقل الدم ورماده عن الكبد، والآخر: دفع فضل ما ينجذب إليه منه إلى المدفع الذي له، وقد يتولد السوداء في عضو آخر، إما بسبب شدة إحراقه لغذائه، أو بسبب عجزه عن دفع فضل عذائه، فيتحلل لطيفه، ويتعكر كثيفه سوداء، أو بسبب شديد تبريده وتجفيفه لما يصل إليه، وقد يكون السبب في تولده أيضاً الأغذية المولدة للسوداء. وقد رأى بعض الأطباء أن المالنخوليا قد يقع عن الجن، ونحن لا نبالي من حيث نتعلم الطب أن ذلك يقع عن الجن أو لا يقع بعد أن نقول: إنه إن كان يقع من الجن، فيقع بأن يحيل المزاج إلى السوداء، فيكون سببه القريب السوداء، ثم ليكن سبب تلك السوداء جنّاً أو غير جن، ومن الأسباب القوية في توليد المالنخوليا فراط الغم أو الخوف.
ويجب أن تعلم أن السوداء الفاعل للمالنخوليا قد تكون، إما السوداء الطبيعية، وإما البلغم إذا استحال سوداء بتكاثف، أو أدنى احتراق، وإن كان هذا يقل ويندر. وأما الدم إذا استحال بانطباخ، أو بتكاثف دون احتراق شديد. وأما الخلط الصفراوي، فإنه إذا بلغ فيه الاحتراق الغاية فعل مانيا، ولم يقتصر على المالنخوليا.
فكل واحد من أصناف السوداء إذا وقع من الدماغ الموقع المذكور، فعل المالنخوليا، لكن بعضه يفعل معه المانيا. وأمسلم المالنخوليا ما كان عن عكر الدم،، وما كان معه فرح، وكثيراً ما ينحل المالنخوليا بالبواسير والدوالي، وقد يقل تولد هذه العلة في البيض السمان، ويكثر في الأدم الزب القضاف، ويكثر تولدها فيمن كان قلبه حاراً جداً، ودماغه رطباً فتكون حرارة قلبه مولّدة للسوداء فيه، ورطوبة دماغه قابلة لتأثير ما يتولد في قلبه، ومن المستعدين له اللثغ الأحذاء الخفاف الألسنة، والطرف الأشد حمرة الوجه والأدم الزب، وخصوصاً في صدورهم السود الشعور، الغلاظها الواسعو العروق، الغلاظ الشفاه، لأن بعض هذه دلائل حرارة القلب، وبعضها دلائل رطوبة الدماغ، وكثيراً ما يكونون في الظاهر بلغميين، وهذه العلة تعرض للرجال أكثر، وللنساء أفحش. وتكثر في الكهول والشيوخ، وتقلّ في الشتاء، وتكثر في الصيف والخريف، وقد تهيج في الربيع كثيراً أيضاً، لأن الربيع يثير الأخلاط خالطاً إياها بالدم، وربما كان هيجانه بأدوار فيها تهيج السوداء وتثور. والمستعد للمالنخوليا يصير إليها بسرعة إذا أصابه خوف أو غم أو سهر، أو احتبس منه عادة سيلان الدم أو قيء سوداوي أو غير ذلك.
العلامات: علامة ابتداء المالنخوليا، ظن رديء، وخوف بلا سبب، وسرعة غضب، وحُب التخلي، واختلاج ودوار ودوي، وخصوصاً في المراق، فإذا استحكم فالتفزغ وسوء الظن، والغم والوحشة والكرب، وهذيان كلام، وشبق لكثرة الريح، وأصناف من الخوف مما لا يكون أو يكون، وأكثر خوفه مما لا يخاف في العادة، وتكون هذه الأصناف غير محدودة. وبعضهم يخاف سقوط السماء عليه، وبعضهم يخاف ابتلاع الأرض إياه، وبعضهم يخاف الجن، وبعضهم يخاف السلطان، وبعضهم يخاف اللصوص، وبعضهم يتقي أن لا يدخل عليه سبع.
وقد يكون للأمور الماضية في ذلك تأثير، ومع ذلك فقد يتخيلون أموراً بين أعينهم ليست، وربما تخيلوا أنفسهم أنهم صاروا ملوكاً، أو سباعاً، أو شياطين، أو طيوراً، أو آلات صناعية.
ثم منهم من يضحك خاصة الذي مالنخولياه دموي، لأنه يتخيل ما يلذه ويسره. ومنهم من يبكي خاصة الذي مالنخولياه سوداوي محض، ومنهم من يحب الموت، ومنهم من يبغضه.
وعلامة ما كان خاصاً بالدماغ، إفراط في الفكرة، ودوام الوسواس، ونظر دائم إلى الشيء الواحد، وإلى الأرض. ويدل عليه لون الرأس، والوجه والعين، وسواد شعر الرأس وكثافته، وتقدم سهر وفكر، وتعرض للشمس وما أشبهه، وأمراض دماغية سبقت، وأن لا تكون العلامات التي نذكرها للأعضاء الأخرى المشاركة للدماغ خاصة، وأن لا يظهر النفع إذا عولج ذلك العضو ونقي، وأن تكون الأعراض عظيمة جداً.
وأما الكائن بمشاركة البدن كله، فسواد البدن، وهلاسه، واحتباس ما كان يستفرغ من الطحال والمعدة، وما كان يستفرغ بالإدرار، أو من المقعدة، أو من الطمث، وكثرة شعر البدن، وشدّة سواده، وتقدم استعمال أغذية رديئة سوداوية مما عرفته في الكتاب الثاني.
والأمراض المعقبة للمالنخوليا هي مثل الحمّيات المزمنة والمختلطة. وعلامة ما كان من الطحال كثرة الشهوة لانصباب السوداء إلى المعدة مع قلة الهضم لبرد المزاج وكثرة القراقر ذات اليسار، وانتفاخ الطحال، وذلك مما لا يفارقهم، وشبق شديد للنفخة، وربما كان معه حمّى ربع، وربما كانت الطبيعة لينة، وربما أوجب للذع السوداء ألماً.
وما كان من المعدة، فعلامته وجود علامات ورم المعدة المذكورة في باب أمراض المعدة، وزيادة العلّة مع التخمة والامتلاء، وفي وقت الهضم، وكثيراً ما قد يهيج به عند الأكل إلى أن يستمرأ أوجاع، ثم يسكن عند الاستمراء فإن كان حاراً دل عليه الالتهاب في المراق، وقيء المرار وعطش.
وأكثر من به مالنخوليا فإنه مطحول، وعلامة المراقي ثقل في المراق، واجتذاب إلى فوق، وتهوّع لازم، وخبث نفس وفساد هضم، وجشاء حامض، وبزاق رطب، وقرقرة وخروج ريح، وتلهّب، وأن يجد وجعاً في المعدة، أو وجعاً بين الكتفين، وخصوصاً بعد الطعام إلى أن يستمرأ بالتمام، وربما قذف البلغم المراري، وربما قذف الحامض المضرس، وعرض له هذه الأعراض مع التناول للطعام، بل بعده بساعات فيكون برازه بلغمياً مرارياً، ويخف بجودة الهضم ويزيد بنقصانه، وربما تقدمه ورم في المراق، أو كان معه، ويجد اختلاجاً في المراق في أوقات، وتزداد العلّة مع التخمة، وسرعة الهضم. ونقول: إن السوداء الفاعل للمالنخوليا إن كان دموياً كان مع فرح وضحك، ولم يلزم عليه الغمّ الشديد، وإن كان من بلغم كان مع كسل وقلّة حركة وسكون، وإن كان من صفراء كان مع اضطراب وأدنى جنون، وكان مثل مانيا، وإن كان سوداء صرفاً كان الفكر فيه كثيراً، والعادية أقلّ إلا أن يحرك، فيضجر ويحقد حقداً لا ينسى.
المعالجات:
يجب أن يبادر بعلاجه قبل أنيستحكم، فإنه سهل في الابتداء صعب عند الاستحكام، ويجب على كل حال أن يفرح صاحبه ويطرب ويجلس في المواضع المعتدلة، ويرطّب هواء مسكنه، ويطيّب بفرش الرياحين فيه، وبالجملة يجب أن يشمم دائماً الروائح الطيبة والأدهان الطيّبة، ويناول الأغذية الفاضلة الكيموس المرطّبة جداً، ويدبّر في تخصيب بدنه بالأغذية الموافقة، وبالحمّام قبل الغذاء، ويُصبّ على رأسه ماء فاتر، ليس بشديد الحرارة، وإذا خرج من الحمّام -وبه قليل عطش- فلا بأس أن يسقى قليل ماء، ويستعمل الدلك المخصب المذكور في باب حفظ الصحة واعتن بترطيبه فوق اعتنائك بتسخينه ما أمكن، وليجتنب الجماع والتعرّق الشديد، ويجتنب الباقلاء والقديد والعدس والكرنب والشراب الغليظ والحديث، وكل مملّح ومالح وحريف، وكل شديد الحموضة، بل يجب أن يتناول الدسم والحلو، وإذا أريد تنويمهم، فلك أن تنطل رؤوسهم بماء الخشخاش والبابونج والأقحوان، فإن النوم من أوفق علاجاتهم، ويتدارك بما يفيده من الصلاح ما يورثه الخشخاش من المضرّة، فإما إن كان المالنخوليا من سوء مزاج مفرط برد ويبس، فينبغي أن يشتغل بتسخين القلب، وبالمفرّحات، وأدوية المسك والترياق والمثروديطوس وما أشبه ذلك، ويعالج الرأس بما مرّ، وذكر في باب الرعونة.
والقويّ منه يعرض عقيب مرض آخر حار، فيسهل علاجه حتى إنه يزول بالتنطيلات. وأما إن كان من مادة سوداوية متمكنة في الدماغ، فملاك علاجه ثلاثة أشياء.
أولها: استفراغ المادة، وربما كان بالحقن وبالقيء، إلا من كانت معدته ضعيفة، فلا تقيّئه في هذه العلة البتّة حتى ولا في المراقي أيضاً.
والثاني: أن يستعمل مع الاستفراغ الترطيب دائماً بالنطولات والأدهان الحارّة، ويجعل فيها من الأدوية مثل البابونج والشبث وإكليل الملك، وأصل السوسن، لئلا يغلظ الخلط بتحليل ساذج لا تليين فيه ولا يغلظ بما يرطب ولا تحليل فيه، وإن كان السوداء بعيداً من الحرارة، فلك أن تزيد الشيخ وورق الغار، والفوتنج مع الترطيب، ولا تبالي وتستعمل الأغذية المولدة للدم المحمودة، مثل السمك الرضراضي، واللحوم الخفيفة المذكورة وفي الأوقات بالشراب الأبيض الممزوج دون العتيق القوي.
والثالث: أن تستعمل تقوية القلب إن أحسّ بمزاج بارد، فبالمفرّحات الحارّة، وإن أحسّ بمزاج يميل إلى الحرارة فبالمفرحات المعتدلة، وإن كانت الحرارة شديدة جداً استعمل المفرحات الباردة الغير المفرطة البرد، ويتعرّف ذلك من النبض ولنشرع في تفصيل هذا التدبير، فنقول:
أما الاستفراغ، فإن رأيت أن العروق ممتلئة كيف كان، وأن السوداءَ دموي، فافصد من الأكحل، بل يجب على كل حال أن تبتدي بالفصد، إلا أن تخاف ضعفاً شديداً، أو تعلم أن المواد قليلة، وهي في الدماغ فقط، وأن اليبس مستول على المزاج، ثم إن فصدت ووجدت دماً رقيقاً، فلا تحبس الدم لذلك، فإنه كثيراً ما يتقدم فيه الرقيق، ولذلك يجب أن يوسّع الفصد لئلا يتروق الرقيق ويحتبس الغليظ، فيزيد شراً وانظر أي الجانبين من الرأس أثقل، فافصد الباسليق الذي يليه، وربما احتجت أن تفصد من الباسلقين إذا وجدت العلامة عامة وقبل فصد عروق الجبهة تحرك أكثر ثم إن وجدت الخلط سوداوياً بالحقيقة، وإلى البرد، فاستفرغ بالحبوب المتخذة من الأفتيمون والصبر والخربق وابتدئ بالإنضاج، ثم استفرغ في أول الأمر بأدوية خفيفة يقع فيها أفتيمون وشحم الحنظل وسقمونيا يسير، ثم بطبيخ الأفتيمون والغاريقون، ثم إن لم ينجع استعملت الأيارجات الكبار ثم لم احتجت بعد ذلك إلى استفراغ استعملت الخربق مع خوف وحذر، وحجر اللاؤورد، والحجر الأرمني والحب المتخذ منهما بلا خوف ولا حذر. وكثيراً ما ينفعهم استعمال هذه الأدوية المذكورة في ماء الجبن على المداومة وتقليل المبلغ من الدواء، فإن لم ينجع عاودت من رأس، ويكون في كل أسبوع يستفرغ مرة بحب لطيف وسط، وتستعمل فيما بين ذلك الإطريفل الأفتيموني، وقد جرب سقيهم الأطريفل بالأفتيمون على هذه الصفة، وهو أن يؤخذ من الإطريفل ثلاثة دراهم، ومن الأفتيمون درهم، ومن الأيارج نصف درهم، وفي كل شهر يستفرغ بالقوي من الأيرجات الكبار والحبوب الكبار إلى أن تجد العلة قد زالت. ويستعمل أيضاً القيء، خصوصاً إن رأيت في المعدة شيئاً يزيد في العلة، ولم تكن المعدة بشديدة الضعف، ويجب أيضاً أن يكون القيء بمياه قد طبخ فيها فوذنج، وكركند، وبزر الفجل، ويتناول عصارة فجل غرز فيه الخربق، وترك أياماً حتى جرت فيه قوته مع سكنجبين، أو يتناول هذا الفجل نفسه منقعاً في السكنجبين، وليكن مقدار السكنجبين ثلاثة أساتير ومقدار عصارته أستار، ويزيد ذلك وينقصه بقدر القوة، وأما إن خِفْت ضعف القوة، فاجتنب الخربق، وإذا نقيت، فاقصد القلب بما ذكرناه مراراً، وهذا الإطريفل الأفتيموني مجرّب النفع في هذا الباب.
وإذا أزمنت العلّة استعملت القيء بالخربق، واستعملت المضوغات والغرغرات المعروفة، واستعملت الشمومات الطيبة والمسك والعنبر والأفاويه والعود، فإن كانت المادة إلى المرار الصفراوي، فاستفرغ بطبيخ الأفتيمون وحب الأصطمحيقون المعتدل، وبما نستفرغ الصفراء المحرقة، وما يقال في بابه، وزد في الترطيب، وقلل من التسخين، على أنه لا بد لك من البابونج، وما هو في وقته إذا استعملت النطولات، ولا سبيل لك إلى استعمال المبرِّدات الصرفة على الرأس وقد حمد بعض القدماء في مثل هذا الموضع أن يأخذ من الصبر كل يوم شيئاً قليلاً، أو ينجرع كل يوم ماء طبخ فيه أفسنتين ثلاث أوق، أو عشرة قراريط من عصارة الأفسنتين مدوفاً في الماء، وقد حمد أن يتجرع كل ليلة خلاً ثقيفاً، سيما خلّ العنصل. وأما أنا فأخاف غائلة الخلّ في هذه العلة، إلا أن يكون على ثقة أن المادة متولدة عن صفراء محترقة، وأنها حارة فيكون الخل أنفع الأشياء له، وخصوصاً العنصلي والسكنجبين المتخذ بخل العنصل، وكذلك الخل الذي جعل فيه جعدة أو زراوند. وقد ينفع الخل أيضاً إذا كان المرض بمشاركة الطحال والمادة فيه، ويجب أن تطيب مشمه من التركيبات المعتدلة التي يقع فيها كافور ومِسك مع دهن بنفسج كثير غالب برائحته يبوسة الكافور والمسك وسائر الروائح الباردة الطيبة، خصوصاً النيلوفر.
وأما إن كان سبب المالنخوليا ورماً في المعدة والأحشاء، أو مزاجاً حاراً فيها محرقاً، تداركت ذلك، وبردت الرأس، ورطبته وقويته لئلا يقبل ما يتأدّى إليه من غيره، وإن كان السبب في المراق ووجدت رياحاً وقراقر، فإن كان في المراق ورم حار عالجته وحلّلته بما يجب مما يقال في باب الأورام، وقويت الرأس وعرّقته في أدهان مقوّية ومرطبات، واستعملت المحاجم بشرط ليستفرغ الدم، ولا تسخن في مثل هذه الحال الكبد، بل عليك أن تبرّده إذا وجدته حاراً محرقاً للدم بحرارته، وقو الطحال وضع على المراق المحاجم ودواء الخردل ونحوه، وذلك لئلا يرسل الطحال المادة إلى الدماغ.
وإن كان المراق بارد المزاج نافخه ولم يكن ثَمَّ ورم ولا لهيب، سقيته ماء طبيخ الأفسنتين وعصارته على ما ذكر، وتنطل معدته بالنطولات الحارة المذكورة وتضمدها بتلك الضمّادات واستعمل فيها بزر الفنجنكشت، وبزر السذاب، وأصل السوسن، وشجرة مريم، وتمسك الأضمدة عليها مدة طويلة، ثم إذا نزعتها وضعت على الموضع قطناً مغموساً في ماء حار، أو صوفاً منفوشاً، أو إسفنجة. وينفع استعمال ضماد الخردل على ما بين الكتفين، وضمادات ذروروتيس أيضاً المذكورة في القراباذين، فينفع أن يستعمل عليه المحاجم بغير شرط، إلا أن يكون هناك ورم أو وجع، فيمنع ذلك. وكثيراً ما ينتفع أصحاب المالنخوليا المراقي بالأشياء المبرِّدة من حيث أن تكون مرطبة مضادة ليبس السوداء، ولأنها تكون مانعة من تولد الريح والبخار اللذين يؤذيان بتصعّدهما إلى الرأس، وإن كان الانتفاء بالبارد ليس انتفاعاً خفيفاً قاطعاً للمرض: ولكن البارد إذا كان رطباً لم يتولد منه السوداء وانحسمت مادته، ولم يبخر أيضاً المادة الحاصلة ورجي أن يستولي عليها الطبيعة فيصلحها.
واعلم أن التدبير الغليظ المولد للبلغم، وربما قاوم السوداء، والتدبير الملطّف لما يفعل من الاحتراق بسهولة ربما أعانه، ولا يغرنّك انتفاع بعضهم ببلغم يستفرغه قذفاً أو برازاً، فإن ذلك ليس لأن استفراغ البلغم ينفعه، بل لأن الكثرة وانضغاط الأخلاط بعضها ببعض يزول عنهم.
وأما النافع بالذات، فاستفراغ السوداء، وقانون علاج المالنخوليا أن يبالغ في الترطيب، ومع ذلك أن لا يقصر في استفراغ السوداء، وكلما فسد الطعام في بطون أصحاب المالنخوليا، فاحملهم على قذفه، وخصوصاً حين يحسّون بحموضة في الفم، فيجب أن تقيئهم لا محالة حينئذ، ويحرم عليهم أن يأكلوا عليه طعاماً آخر ويستعمل الجوارشنات المقوّية لفم المعدة، وليحذروا إدخال طعام على طعام قد فسد، ويجب أن يشغل. صاحب المالنخوليا بشيء كيف كان وأن يحضره من يحتشمه، ومن يستطيبه، والشرب المعتدل للشراب الأبيض الممزوج قليلاً، ويشغل أيضاً بالسماع والمطربات، ولا أضر له من الفراغ والخلوة، وكثيراً ما يغتمُّون بعوارض تقع لهم أو يخافون أمراً، فيشتغلون به عن الفكرة ويعاقون، فإن نفس أعراضهم عن الفكرة علاج لهم أصيل، فإن كان السبب دروراً احتبس من طمث أو مقعدة أو غير ذلك فادرأ، فإن حدث سقوط الشهوة فالعلة رديئة، والجفاف مستول، وإن عرضت في أبدانهم قروح دلّ على موت قريب.
ومن كانت السوداء في بدنه منهم متحرّكة فهو أقبل للعلاج ممن لم تكن سوداؤه كذلك، والذي تكون فيه السوداء متحركة فهو الذي يظهر سوداؤه في القيء، وفي البراز، والبول، وفي لون الجلد، والبهق، والكلف، والقروح، والجرب، والدوالي، وداء الفيل، والسيلان من المقعدة ونحو ذلك، فإن ذلك كله يدل على أنه قاتل للتمييز عن الدم. وإذا ظهر بهم شيء من هذا فهو علامة خير، وإذا عرض لبعضهم تشنّج بعد الإسهال والاستفراغ، فإنهم أولى بذلك من غيرهم ليبسهم فيجب أن يقعدوا في ماء فاتر ويطعمون خبزاً منقوعاً في جلاَّب وقليل شراب ويسقوا ماء ممزوجاً، ثم ينومون ويحمّمون بعده، ثم يغذون كما يخرجون.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ فصل في القطرب ] ●
هو نوع من المالنخوليا، أكثر ما يعرض في شهر شباط، ويجعل الإنسان فرَّاراً من الناس الأحياء، محبّاً لمجاورة الموتى والمقابر، مع سوء قصد لمن يغافصه، ويكون بروز صاحبه ليلاً، واختفاؤه وتواريه نهاراً، كل ذلك حباً للخلوة، وبعداً عن الناس، ومع ذلك فلا يسكن في موضع واحد أكثر من ساعة واحدة، بل لا يزال يتردّد ويمشي مشياً مختلفاً لا يدري أين يتوجه مع حذر من الناس، وربما لم يحذر بعضهم غفلة منه وقلة تفطن لما يرى ويشاهد.
ومع ذلك فإنّه يكون على غاية السكون، والعبوس، والتأسف، والتحزّن، أصفر اللون، جاف اللسان، عطشان، وعلى ساقه، قروح لا تندمل، وسببها فساد مادته السوداوية، وكثرة حركة رجله، وتنزل المواد إليها، ولا سيما هو كل وقت يعثر، ويساك رجله شيء، أو يعضّه كلب، فيكون ذلك سبباً لكثرة انصباب المواد إلى ساقيه، فيكون فيها القروح، ولبقائها على حالها وحال أسبابها لا تندمل، ويكون يابس البصر، لا يدمع بصره، ويكون بصره ضعيفاً وغائراً، كل ذلك ليبس مزاج عينه.
وإنما سمي هذا قطرباً لهرب صاحبه هرباً لا نظام له، ولأجل مشيه المختلف، فلا يعلم وجهه، وكما يهرب من شخص يظهر له، فإنه لقلة تحفظه وغور صواب رأيه يأخذ في وجهه فيلقى شخصاً آخر، فيهرب من الرأس إلى جهة أخرى، والقطرب دويبة تكون على : وجه الماء تتحرك عليه حركات مختلفة بلا نظام، وكل ساعة تغوص وتهرب، ثم تظهر وقيل دويبة أخرى لا تستريح، وقيل: الذكر من السعالي، وقيل: الأمعط. والأشبه لموضعنا القولان الأولان وسبب هذه العلة السوداء والصفراء المحترقة.
المعالجات:
علاجه علاج المالنخوليا بعينه، إذا كان من صفراء أو سوداء محترقة، ويجب أن تبالغ في فصده حتى يخرج منه دم كثير ويقارب الغشي، ويدبّر بالأغذية المحمودة والحمامات الرطبة، ويسقى ماء الجبن ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك يستفرغ بأيارج أركاغانيس، ثم يُحتال في تنويمه، ثم يقوى قلبه بعد الاستفراغ بالترياق وما يجري مجراه، ومع ذلك يرطب جداً وينطل بالمنومات لئلا يجتمع تسخين تلك الأدوية التي لا بدّ منها مع حركات رياضية، بل يحتاج أن يسخن قلبه بما يقويه، ويرطّب بدنه، وينوّم ليعتدل مزاجه. وتمام علاجه التنويم الكثير، وأن يسقى الأفتيمون أحياناً لتهدأ طبيعته، ويقطع فكره، وإذا لم ينجع فيه الدواء والعلاج، أُدِّب وأُوجِعَ، وضُرِبَ رأسه، ووجهه، وكوِيَ يافوخه، فإنه يفيق، فإن عاد أعيد.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ فصل في العشق ] ●
هذا مرض وسواسي شبيه بالمالنخوليا، يكون الإنسان قد جلبه إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل التي له، ثم أعانته على ذلك شهوته أو لم تعن، وعلامته غؤر العين ويبسها، وعدم الدمع إلا عند البكاء، وحركة متّصلة للجفن ضحاكة، كأنه ينظر إلى شيء لذيذ، أو يسمع خبراً ساراً، أو يمزح، ويكون نفَسه كثير الانقطاع والاسترداد، فيكون كثير الصعداء ويتغيّر حاله إلى فرح وضحك، أو إلى غم وبكاء عند سماع الغزل، ولا سيما عند ذكر الهجر والنوى، وتكون جميع أعضائه ذابلة خلا العين، فإنها تكون مع غور مقلتها كبيرة الجفن سُمّيته لسهره وتزفره المنجز إلى رأسه، ولا يكون لشمائله نظام، ويكون نبضه نبضاً مختلفاً بلا نظام البتة، كنبض أصحاب الهموم.
ويتغير نبضه وحاله عند ذكر المعشوق خاصةً، وعند لقائه بغتة، ويمكن من ذلك أن يستدلّ على المعشوق أنه من هو إذا لم يتعرّف به، فإن معرفة معشوقه أحد سبل علاجه. والحيلة في ذلك أن يذكر أسماء كثيرة تعاد مراراً، ويكون اليد على نبضه، فإذا اختلف بذلك اختلافاً عظيماً، وصار شبه المنقطع، ثم عاود وجرّبت ذلك مراراً، علمت أنه اسم المعشوق، ثم يذكر كذلك السكك والمساكن والحرف والصناعات والنسب والبلدان، وتضيف كلاً منها إلى اسم المعشوق ويحفظ النبض حتى إذا كان يتغير عند ذكر شيء واحد مراراً، جمعت من ذلك خواص معشوقه من الاسم والحلية والحرفة وعرفته، فإنا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان في الوقوف عليه منفعة، ثم إن لم تجد علاجاً إلا تدبير الجمع بينهما على وجه يحلّه الدين والشريعة فعلت، وقد رأينا من عاودته السلامة والقوة، وعاد إلى لحمه، وكان قد بلغ الذبول وجاوزه، وقاسى الأمراض الصعبة المزمنة، والحميات الطويلة بسبب ضعف القوة لشدّة العشق لما أحس بوصل من معشوقه بعد مطل معاودة في أقصر مدة قضينا به العجب، واستدللنا على طاعة الطبيعة للأوهام النفسانية.
المعالجات:
تتأمل هل أدّت حاله إلى احتراق خلط بالعلامات التي تعرفها، فتستفرغ، ثم تشتغل بترطيبهم وتنويمهم وتغذيبتهم بالمحمودات، وتحميهم على شرط الترطيب المعلوم وإيقاعهم في خصومات وإشغال ومنازعات، وبالجملة أمور شاغلة، فإن ذلك ربما أنساهم ما أدنفهم، أو يحتال في تعشيقهم غير المعشوق ممّن تحله الشريعة، ثم ينقطع فكرهم عن الثاني قبل أن تستحكم، وبعد أن يتناسوا الأول، وإن كان العاشق من العقلاء، فإن النصيحة والعظة له والاستهزاء به وتعنيفه والتصوير لديه أن ما به إنما هو وسوسة وضرب من الجنون مما ينفع نفعاً، فإن الكلام ناجع في مثل هذا الباب، وأيضاً تسليط العجائز عليه ليبغضن المعشوق إليه، ويذكرن منه أحوالاً قذرة ويحكين له منه أموراً منفراً منها، ويحكين له منه الجفا الكثير، فإن هذا مما يسكّن كثيراً، وإن كان قد يغري آخرين. ومما ينفع في ذلك أن تحاكي هؤلاء العجائز صورة المعشوق بتشبيهات قبيحة، ويمثلن أعضاء وجهه بمحاكيات مبغضة، ويُدِمنَ ذلك ويُسهبن فيه، فإنّ هذا عملهن، وهنّ أحذق فيه من الرجال إلا المخنثين، فإن المخنثين لهم أيضاً فيه صنعة لا تقصر عن صنعة العجائز. وكذلك يمكنهن أن يجتهدن في أن ينقلن هوى العاشق إلى غير ذلك المعشوق بتدريج، ثم يقطعن صنيعهن قبل تمكن الهوى الثاني.
ومن الشواغل المذكورة اشتراء الجواري، والإكثار من مجامعتهن، والاستجداد منهن، والطرب معهن. ومن الناس من يسلّيه، إمّا الطرب والسماع، ومنهم من يزيد ذلك في غرامه، ويمكن أن يتعرف ذلك.
وأما الصعيد وأنوع اللعب والكرامات المتجدّدة من السلاطين، وكذلك تنوعّ الغموم العظيمة، وكلها مسلّ، وربما احتيج أن يدبّر هؤلاء تدبير أصحاب المالنخوليا وَالمانيا والقطرب، وأن يستفرغوا بالأيارجات الكبار، ويرطّبوا بما ذكر من المرطبات، وذلك إذا انتقلوا بشمائلهم وسحنة أبدانهم إلى مضاهاة أولئك، وعليك أن تشتغل بترطيب أبدانهم.
● [ تمت المقالة الرابعة : أمراض الرأس ] ●
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الثالث : الأمراض الجزئية
منتدى حُكماء رُحماء الطبى . البوابة