بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة العقيدة
جامع الرسائل فى العقيدة
لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة
ومسائل أخرى فشت فيهم
● [ مسألة ] ●
بسم الله الرحمن الرحيم
سئلها الشيخ الإمام ، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحراني : في جماعة يجتمعون في مجلس ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوة ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها، ويزعمون أن هذا من الدين، ويذكرون في مجلسهم ألفاظاً لا تليق بالعقل والدين فمنها أنهم يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألبس علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لباس الفتوة ثم أمره أن يلبس من شاء، ويقولون إن اللباس أنزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صندوق ويستدلون عليه بقوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم) الآية،
فهل كما زعموا أم كذب مختلق، وهل هو من الدين أم لا، وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من يفعل ذلك أو يعين عليه، ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله إلى عبد الجبار ويزعم أن ذلك من الدين، فهل لذلك أصل أم لا، وهل الأسماء التي يسمون بها بعضهم بعضاً من اسم الفتوة ورؤوس الأحزاب والزعماء فهل لهذا أصل أم لا، ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه دسكرة، ويقوم للقوم نقيب إلى الشخص الذي يلبسونه فينزعه اللباس الذي عليه بيده ويلبسه اللباس الذي يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائز أم لا، وإذا قيل لا يجوز فعل ذلك ولا الإعانة عليه، فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك، وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا، وإذا قيل: لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر أن ينكر عليهم ويمنعهم من ذلك أم لا، مع إمكانه من الإنكار وهل أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنه أو من التابعين أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا،
وهل خلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من النور أم خلق من الأربع عناصر أم من غير ذلك، وهل الحديث الذي يذكره بعض الناس لولاك ما خلق الله عرشاً ولا كرسياً ولا أرضاً ولا سماءً ولا شمساً ولا قمراً ولا غير ذلك صحيح هو أم لا،
وهل الأخوة التي يؤاخيها المشايخ بين الفقراء في السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا، وهل آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أم بين كل مهاجري وأنصاري، وهل آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أم لا،
بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطاً شافياً مأجورين أثابكم الله تعالى.
● [ الجواب ] ●
[ لباس خرقة الفتوة مبتدع ]
[ لباس خرقة الفتوة مبتدع ]
الحمد لله أما ما ذكر من إلباس لباس الفتوة والسراويل أو غيره وإسقاء الملح والماء فهذا باطل لا أصل له ولم يفعل هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه لا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من التابعين لهم بإحسان، والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمراً من الأمور التي لا تعرف عنه فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه، فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه وعلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وما ذكروه من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين بسنته، واللباس الذي يواري السوءة هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح، أنزل الله تعالى هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وإنه فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه وقال له: إن ربك يطلب نصيبه من زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش، فهذا أيضاً كذب باتفاق أهل المعرفة فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف ولا سماع دفوف وشبابات ولا رقص، ولا سقط عنه ثوب من ثيابه في ذلك ولا قسمه على أصحابه وكل ما يروى من ذلك مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته.
[ شروط لباس خرقة الفتوة ]
والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث وأداء الأمانة وأداء الفرائض واجتناب المحارم ونصر المظلوم وصلة الأرحام والوفاء بالعهد أو كانت مستحبة كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله وأن يجتمعوا على السنة ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية إن كلاً منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهي شروط ليست في كتاب الله وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق " رواه البخاري. وفي السنن عنه أنه قال: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً " وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، ما كان من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله، وإن كان مما نهى عنه ورسوله فإنه ينهى عنه كما نهى الله عنه ورسوله، وليس لبني آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بني آدم كما قال الله تعالى: (واوفوا بعهدي اوف بعهدكم) وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر أو يعقده الاثنان كعقد البيع والإجارة والهبة وغيرهما أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين كعقد الوقف والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئاً مما نهى الله عنه ورسوله كان شرطه باطلاً.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "، والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية وهي شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقوداً أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه.
[ الفتى والفتوة والزعيم والحزب والدسكرة ]
وما قالوه فيها
وما قالوه فيها
وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم). وقوله تعالى: (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم). ومنه قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه)، لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن مكارم الأخلاق كقول بعضهم: طريقنا نتفتى وليس بتقوى، وقول بعضهم: الفتوة أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظماً، ومودة لا مضارة، قول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى، وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة سواء سميت فتوة أو لم تسم، وهي لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء كلفظ الإحسان والرحمة والعفو والصفح والحلم وكظم الغيظ والبر والصدقة والزكاة والخير ونحو ذلك من الأسماء الحسنة التي تتضمن هذه المعاني، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب والخيانة والفجور والظلم والفاحشة ونحو ذلك.
وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم)، فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيم فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك.
وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمراً بالجماعة والائتلاف، ونهياً عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمه وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ".
وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبك بين أصابعه.
وفي الصحيح عنه أنه قال: " المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله ".
وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قيل: يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً، قال: " تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ".
وفي الصحيح عنه أنه قال: " خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشتمه إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه ويشيعه إذا مات ".
وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخواناً ".
وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثاً أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وإن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وإن تناصحوا من ولاه الله أمركم ".
وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " صلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين "، فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها.
وأما لفظة الدسكرة فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة فيتعلق بها حمد أو ذم ولكن هي في عرف الناس يعبر عنها عن المجامع كما في حديث هرقل أنه جمع الروم في دسكرة، ويقال للمجتمعين على شرب الخمر أنهم في دسكرة، فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب لأن الغالب في عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم لكنه من فروض الكفايات فإن قام من يسقط به الفرض من ولاة الأمر أو غيرهم والأوجب على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه.
[ مم خلق النبي صلى الله عليه وسلم ]
وبم تتفاضل المخلوقات
وبم تتفاضل المخلوقات