بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة ألأسرة الثقافية الصداقة والصديق
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم خذ بأيدينا فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي بها تصلح القلوب، وتنقى الجيوب، حتى نتعايش في هذه الدار مصطلحين على الخير، مؤثرين للتقوى، عاملين شرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعافية التي لابد من الشخوص إليها، ولا محيد عن الاطلاع عليها، إنك تؤتي من تشاء ما تشاء. سمع مني في وقت بمدينة السلام كلام في الصداقة، والعشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية، والحفاظ، والوفاء، والمساعدة، والنصيحة، والبذل، والموآساة، والجود، والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص، وسئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملة مما قال أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة، ليكون ذلك كله رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها في المعاش والمعاد. وسمعت الخوارزمي أبا بكر محمد بن العباس الشاعر البليغ يقول: اللهم نفق سوق الوفاء فقد كسدت، وأصلح قلوب الناس فقد فسدت، ولا تمتني حتى يبور الجهل كما بار العقل، ويموت النقص كما مات العلم. وأقول: اللهم اسمع واستجب، فقد برح الخفاء، وغلب الجفاء، وطال الانتظار، ووقع اليأس، ومرض الأمل، وأشفى الرجاء، والفرج معدوم، وأظن أن الداء في هذا الباب قديم، والبلوى فيه مشهورة، والعجيج منه معتاد. فأول ذلك أني قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية. فمن أين هذا؟ وكيف هو؟ فقال: يا بني! اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكوناً لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع، ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة، ومظاهرة غريبة، حتى أنا نلتقي كثيراً في الإرادات، والاختيارات، والشهوات، والطلبات، وربما تزاورنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل، فأجدها شبيهة بأمور حدثت لي في ذلك الأوان حتى كأنها قسائم بيني وبينه، أو كأني هو فيها، أو هو أنا، وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت أو قبله بقليل، أو بعده بقليل. قال: ورأيته قد ملكه التعجب من هذا وشبهه فحدثته بما تنقاسمه من قوى الفلك، وأن سهامنا واحدة، وأنصباءنا منها متساوية، أو قريبة من التساوي، فعجب وازداد بصيرة في إخلاص الصداقة، وتوكيد العلاقة. فقلت لأبي سليمان: كيف يصح هذا، وأنت مطالبك في الفلسفة، وصورك مأخوذة من الحكمة، وجعبتك مجموعة من الحقائق، وخوضك في الغوامض والدقائق، وذاك رجل في عداد القضاة، وجلة الحكام، وأصحاب القلانس، ومخاضه الظاهر الذي عليه الجمهور، ومأخذه مما عليه السواد الأعظم. فقال: هذا هو الذي انفردنا عنه بعد أن ازدوجنا عليه والأصل أبداً مخالف للفرع، لا خلاف الضد للضد، ولكن خلاف الشكل للشكل، وكانت مشتريه خالياً من قوة زحل، فبرز في حلبة القضاة، وكان المشتري لي مقتبساً من زحل، فظهرت بما ترى، فجمعتنا المشاكلة على العلم، وفرقنا الاختلاف بالفن. قلت: هذا والله طريف، ومما يزيد في طرافته أنك من سجستان وهو من الصيمرة. فقال: الأمكنة في الفلك أشد تضاماً من الخاتم في أصبعك، وليس لها هناك هذا البعد الذي تجده بالمسافة الأرضية من بلد إلى بلد بفراسخ تقطع، وجبال تعلى، وبحار تخرق. فقلت: هل تجد عليه في شيء أو يجد عليك في شيء؟ فقال: وجدي به في الأول قد حجبني عن موجدتي عليه في الثاني، على أنه يكتفي مني فيما خالف هواي باللمحة الضئيلة، وأكتفي أنا أيضاً منه في مثل ذلك بالإشارة القليلة، وربما تعاتبنا على حال تعرض على طريق الكناية عن غيرنا كأننا نتحدث عن قوم آخرين، ويكون لنا في ذلك مقنع، وإليه مفزع، وقل ما نجتمع إلا ويحدثني عني بأسرار ما سافرت عن ضميري إلى شفتي، ولا ندت عن صدري إلى لفظي، وذاك للصفاء الذي نتساهمه، والوفاء الذي نتقاسمه، والباطن الذي نتفق عليه، والظاهر الذي نرجع إليه، والأصل الذي رسوخنا فيه، والفرع الذي تشبثنا به، والله ما يسرني بصداقته حمر النعم، ولا أجد بها بحياتي، ما أجد بحياتي لي، وإذا كنت أعشق الحياة لأني بها أحيا، كذلك أعشق كل ما وصل الحياة بالحياة، وجنى لي ثمرتها، وجلب إلي روحها، وخلط بي طيبها وحلاوتها. وكان أبو سليمان يحدثني عن ابن سيار بعجائب، وأما أنا فما عرفته إلا قاضياً جليلاً، صاحب جد وتفخيم وتوقير وتعظيم، وكان مع ذلك بسيط اللسان، شريف اللفظ، واسع التصرف، لطيف المعاني، بعيد المرامي، يذهب مذهب أبي حنيفة. ثم قال أبو سليمان: الصداقة التي تدور بين الرغبة والرهبة شديدة الاستحالة، وصاحبها من صاحبه في غرور، والزلة فيها غير مأمونة، وكسرها غير مجبور. قال: فأما الملوك فقد جلوا عن الصداقة، ولذلك لا تصح لهم أحكامها، ولا توفي بعهودها، وإنما أمورهم جارية على القدرة، والقهر، والهوى، والشائق، والاستحلاء، والاستخفاف، وأما خدمهم وأولياؤهم فعلى غاية الشبه بهم، ونهاية المشاكلة لهم، لانتشابهم بهم، وانتسابهم إليهم، وولوع طورهم بما يصدر عنهم، ويرد عليهم. وأما التناء وأصحاب الضياع، فليسوا من هذا الحديث في عير ولا نفير. وأما التجار فكسب الدوانيق سد بينهم وبين كل مروءة، وحاجز لهم عن كل ما يتعلق بالفتوة. وأما أصحاب الدين والورع فعلى قلتهم فربما خلصت لهم الصداقة لبنائهم إياها على التقوى، وتأسيسها على أحكام الحرج، وطلب سلامة العقبي. وأما الكتاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل. وأما أصحاب المذاب والتطفيف فإنهم رجرجة بين الناس، لا محاسن لهم فتذكر، ولا مخازي فتنشر، ولذلك قيل لهم همج، ورعاع، وأوباش، وأوناش، ولفيف، وزعانف، وداصة، وسقاط، وأنذال، وغوغاء، لأنهم من دقة الهمم، وخساسة النفوس، ولؤم الطبائع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين، وعصابة المشهورين، فلهذه الأمور الحائلة عن مقارها، الزائغة إلى غير جهاتها علل وأسباب لو نفس الزمان قليلاً لكنا ننشط لشرحها، وذكر ما قد أتى النسيان عليه، وعفى أثره الإهمال، وشغل عنه طلب القوت، ومن أين يظفر بالغداء، وإن كان عاجزاً عن الحاجة، وبالعشاء وإن كان قاصراً عن الكفاية، وكيف يحتال في حصول طمرين للستر لا للتجمل، وكيف يهرب من الشر المقبل، وكيف يهرول وراء الخير المدبر، وكيف يستعان بمن لا يعين، ويشتكى إلى غير رحيم، ولكن حال الجريض دون القريض، ومن العجب والبديع أنا كتبنا هذه الحروف على ما في النفس من الحرق، والأسف، والحسرة، والغيظ، والكمد، والومد، وكأني بغيرك إذا قرأها تقبضت نفسه عنه، وأمرس نقده عليها، وأنكر علي التطويل والتهويل بها. وإنما أشرت بهذا إلى غيرك لأنك تبسط من العذر ما لا يجود به سواك، وذاك لعلمك بحالي، وأطلاعك على دخلتي، واستمراري على هذا الأنقاض والعوز اللذين قد نقضا قوتي، ونكثا مرتي، وأفسدا حياتي، وقرناني بالأسى، وحجباني عن الأسى، لأني فقدت كل مؤنس، وصاحب، ومرفق، ومشفق، والله! لربما صليت في الجامع فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال، أو عصار، أو نداف، أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، مجتنفاً على الحيرة، محتملاً الأذى، يائساً من جميع من ترى، متوقعاً لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص. وفي تمجيد الصمت مر بي كلام لبعض الحكماء القدماء أنا أرويه لك ههنا لا لأجدد به عليك ما ليس عندك، ولكن لأذكرك، فإن الإذكار بالخبر بعث على الاهتمام به، والبعث عليه سلوك لطريقه. قال هذا الحكيم: لو لم يكن للصامت في صمته إلا الكفاية لأن يتكلم، فحكي عنه محرفاً، فيضطر إلى أن يقول: ليس هكذا قلت، وإنما قلت كذا وكذا، فيكون إنكاره إقراراً، ويكون اعترافه بأصل ما حكي عنه شاهداً لمن وشى به، وادعاؤه التحريف غير مقبول منه بلا بينة يأتي بها، لكان ذلك من أكبر فضائل الصمت، وأدع هذا وأقول: كان سبب إنشاء هذه الرسالة في الصداقة والصديق أني ذكرت شيئاً منها لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان الوزير أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة، وتدبيره أمره الوزارة، حين كانت الأشغال خفيفة، والأحوال على إذلالها جارية، فقال لي ابن سعدان: قال لي زيد عنك كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك، قال: فدون هذا الكلام، وصله بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم، فإن حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب، فجمعت ما في الرسالة، وشغل عن رد القول فيها، وأبطأت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان. فلما كان هذا الوقت وهو رجب سنة أربع مائة عثرت على المسودة وبيضتها على نحيلها، فإن راقتك فذاك الذي عزمت بنيتي، وحولي، واستخارتي، وإن تزحلقت عن ذلك فللعذر الذي سحبت ذيله، وأرسلت سيله. وقبل كل شيء ينبغي أن نثق بأنه لا صديق، ولا من يتشبه بالصديق، ولذلك قال جميل بن مرة في الزمان الأول حين كان الدين يعانق بالإخلاص، والمروءة تتهادى بين الناس، وقد لزم قعر البيت، ورفض المجالس، واعتزل الخاصة والعامة، وعوتب في ذلك فقال: لقد صحبت الناس أربعين سنة فما رأيتهم غفروا لي ذنباً، ولا ستروا لي عيباً، ولا حفظوا لي غيباً، ولا أقالوا لي عثرة، ولا رحموا لي عبرة، ولا قبلوا مني عذرة، ولا فكوني من أسرة، ولا جبروا مني كسرة، ولا بذلوا لي نصرة، ورأيت الشغل بهم تضييعاً للحياة، وتباعداً من الله تعالى، وتجرعاً للغيظ مع الساعات، وتسليطاً للهوى في الهنات بعد الهنات، ولذلك قال الثوري لرجل قال له أوصني قال: أنكر من تعرفه، قال: زدني، قال: لا مزيد. وكان ابن كعب يقول: لا خير في مخالطة الناس، ولا فائدة في القرب منهم، والثقة بهم والاعتماد عليهم، ولذلك قال الأول: إخاء الناس ممتزج ... وأكبر فعلهم سـمج فإن بدهتك مقطعة ... فما لذنبهم فرج فقومهم بهجرهم ... فإن لم يهجروا اعتوجوا صروف الدهر دانية ... تقطع بينها المهج وأنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الكاتب الصابي في إخوان الزمان لنفسه: أيا رب كل الناس أبناء علة ... أما تعثر الدنيا لنا بصديق وجوه بها من مضمر الغل شاهد ... ذوات أديم في النفاق صفيق إذا اعترضوا دون اللقاء فإنهم ... قذى لعيون أو شجى لحلوق وإن أظهروا برد الوداد وظله ... أسروا من الشحناء حر حريق ألا ليتني حيث انتوت أفرخ القطا ... بأقصى محل في الفلاة سحيق أخو وحدة قد آنستني كأنني ... بها نازل في معشري وفريقي فذلك خير للفتى من ثوائه ... بمسبعة من صاحب ورفيق وكان العسجدي يقول كثيراً: الصداقة مرفوضة، والحفاظ معدوم، والوفاء اسم لا حقيقة له، والرعاية موقوفة على البذل، والكرم فقد مات، والله يحيي الموتى! استرسال الكلام في هذا النمط شفاء للصدر، وتخفيف من البرحاء، وانجياب للحرقة، واطراد للغيظ، وبرد للغليل، وتعليل للنفس، ولا بأس بإمرار كل ما لاءمه، ودخل في حوزته، وإن كان آخره لا يدرك، وغايته لا تملك. قال صالح بن عبد القدوس: بني عليك بتقوى الإله ... فإن العواقب للمتقي وإنك ما تأت من وجهه ... تجد بابه غير مستغلق عدوك ذو العقل أبقى عليك م ... ن الصاحب الجاهل الأخرق وذو العقل يأتي جميل الأمو ... ر ويعمد للأرشد الأوفق فأما الذي قال في أصدقائه وجلسائه الخير، وأثنى عليهم الجميل، ووصف جده بهم، ودل على محبته لهم، فغريب! قال بعضهم: أنتم سروري وأنتم مشتكي حزني ... وأنتم في سواد الليل سماري أنتم وإن بعدت عنا منازلكم ... نوازل بين أسراري وتذكاري فإن تكلمت لم ألفظ بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد إضماري الله جاركم مما أحاذره ... فيكم وحبي لكم من هجركم جاري وقال آخر: أخ لمته أو لامني ثم نرعوي ... إلى ثائب من حلمنا غير مخدج أهون إذا عز الجليل وربما ... أزمت برأس الحية المتمعج أخبرنا أبو سعيد السيرافي، قال: أخبرنا ابن دريد قال: قال أبو حاتم السجستاني: إذا مات لي صديق سقط مني عضواً. كتب علي بن عبيدة الريحاني البصري إلى صديق له: كان خوفي من أن لا ألقاك متمكناً، ورجائي خاطراً، فإذا تمكن الخوف طفيت، وإذا خطر الرجاء حييت. وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: صحبة عشرين يوماً قرابة. وقال رجل لضيغم العابد: أشتهي أن أشتري داراً في جوارك حتى ألقاك كل وقت، قال ضيغم: المودة التي يفسدها تراخي اللقاء مدخولة. وكتب آخر إلى صديق له: مثلي هفا، ومثلك عفا، فأجابه: مثلك اعتذر، ومثلي اغتفر. وقال أعرابي: الغريب، من لم يكن له حبيب. وقيل لأعرابي: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح. وقال الفضل بن يحيى: الصبر على أخ تعتب عليه خير من آخر تستأنف مودته. وقال عبد الله بن مسعود: ما الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب. كتب رجل إلى صديق له: أما بعد: فإن كان إخوان الثقة كثيراً، فأنت أولهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحداً فأنت هو! وقال آخر: تركت لك القصوى لتدرك فضلها ... وقلت ترى بيني وبين أخي فرق ولم يك بي عنها نكول وإنما ... توانيت عن حقي فتم لك الحق ولا بد لي من أن أكون مصلياً ... إذا كنت أهوى أن يكون لك السبق قال العباس بن الحسن العلوي يصف جليساً له: لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء، والثمل على الغناء! وقال آخر: ذهب التواصل والتعارف ... فالناس كلهم معارف لم يبق منهم بينهم ... إلا التملق والتواصف وعناق بعضهم لبعض ... في التساير والتواقف صارفهم عن المود ... دة إنهم قوم صيارف إني انتقدت خيارهم ... فالقوم ستوق وزائف وقال آخر: فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوماً دماً فهو آكله وكتب يحيى بن زياد الحارثي إلى عبد الله بن المقفع يلتمس معاقدة الإخاء، والاجتماع على المخالصة والصفاء، فلما لم يجبه كتب إليه يعتب، فكتب له عبد الله: إن الإخاء رق، وكرهت أن أملكك رقي قبل أن أعرف حسن ملكتك. شاعر: وأعرض عن ذي المال حتى يقال لي ... قد احدث هذا جفوة وتعظما وما بي جفاء عن صديق ولا أخ ... ولكنه فعلي إذا كنت معدما وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله كان يأكل تمراً ومعه جليس له، فكان النبي صلى الله عليه وسلم وآله إذا رأى حشفة عزلها، فقال جليسه: يا رسول الله أعطني الحشفة حتى آكلها، قال: لا أرضى لجليسي إلا ما أرضاه لنفسي. وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: لن لمن يجفو فقل من يصفو. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: قليل للصديق الوقوف على قبره. أبو زبيد الطائي: إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء بالحسب الوثيق فكل إمارة إلا قليلاً ... مغيرة الصديق على الصديق ولا تك عندها حلواً فتحسى ... ولا مراً فتنشب في الحلوق وأغمض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق وقال موسى بن جعفر رضي الله عنهما؛ خير إخوانك المعين لك على دهرك، وشرهم من لك بسوق يومه. كان أبو داود السجستاني أيام شبابه وطلبه للرواية قاعداً في مجلس، والمستملي في حدته، فجلس إليه فتى وأراد أن يكتب فقال له: أيها الرجل استمد من محبرتك، قال: لا، فانكسر الرجل، فأقبل عليه أبو داود، وقد أحسن بخجله: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان، فقد استوجب بالحشمة الحرمان، فكتب الرجل من محبرته، وسمي أبو داود حكيماً. وقال شاعر: مولاك مولى عدو لا صديق له ... كأنه نفر أو عضه صفر وقال ابن الحشرج: فلا وأبيك لا أعطي صديقي ... مكاشرتي وأمنعه تلادي وقال العجير: بعيد من الشيء القليل احتفاظه ... عليك ومنزور الرضا حين يغضب وقال آخر: أخوك أخوك من تدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا وقال ميمون بن مهران: صديق لا تنفعك حياته، لا يضرك موته. أنشدنا علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح قال: أنشدنا ابن دريد عن الأشنانداني لأعرابي: إن كنت تجعل من حباك بوده ... ظهر البعير فثق بأنك عاقره من ذا حملت عليه كلك كله ... إلا اشمأز فظن أنك حاقره كلف جوادك ما يطيق فبالحري ... أن يستقل بما تطيق حوافره أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى، أخبرنا ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، قال عبد الله بن جعفر: كمال الرجل بخلال ثلاث: معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة؛ فذو الثلاثة سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق. قال ابن أبي دؤاد: صديق عدوك حربك. قال محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي الله عنهم لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ حاجته من الدراهم والدنانير؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذاً بإخوان. شاعر: ومن يرع بقلاً من سويقة يغتبق ... قراحاً، ويسمع قول كل صديق قال العتابي لصاحب له: ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة،، وإذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا نكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كف عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثثته استرحت. وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال. وقيل للخليل: استفساد الصديق أهون من استصلاح العدو؟ قال: نعم، كما أن تخريق الثوب أهون من نسجه. وقيل لابن المقفع: الصديق أحب إليك أم القريب؟ قال: القريب أيضاً يجب أن يكون صديقاً. مرض قيس بن سعد بن عبادة فأبطأ إخوانه عنه، فسأل عنهم، فقيل: إنهم يستحيون ممالك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله ما يمنع الإخوان من العيادة، ثم أمر منادياً فنادى؛ ألا من كان لقيس عليه حق، فهو منه في حل وسعة، فكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده. قال عبد الملك بن مروان: من كل شيء قد قضيت وطراً، إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفو. شاعر: وقل الذي يرعاك إلا لنفسه ... وللنفع يعتد الصديق معده قال أبو عثمان الجاحظ: كان ابن أبي دواد إذا رأى صديقه مع عدوه قتل صديقه. قال أبو حامد المروروذي: هذا هو الإسراف والتجاوز والعداء الذي يخالف الدين والعقل، لعل صديقك إذا رأيته مع عدوك يثنيه إليك، ويعطفه عليك، ويبعثه على تدارك فائتة منك، ولو لم يكن هذا كله لكان التأني مقدماً على العجل، وحسن الظن أولى به من سوء الظن. ثم قال: ذهب الإنصاف في العداوة والصداقة، وأصبح الناس أبناء واحد في الرغبة، والرهبة، والجهل، والجبرية، والعمل على سابق الهوى، وداعية النفس، وهذا لأن الدين مرخي الرسن، مخدوش الوجه، مفقوء العين، مزعزع الركن، والمروءة ممزقة الجلباب، مهجورة الباب، ليس إليها داع، ولا لها محبب، والله المستعان. قال الأصمعي: كان يقال: البخيل من أقرض إلى ميسرة. قال عمر بن شبة: التقى أخوان في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله. فقال: والله يا أخي لو علمت منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي. وقال المدائني: إذا ولي صديق لك ولاية، فأصبته على العشر من صداقته فليس بأخ سوء. قال فيلسوف: من عاشر الإخوان بالمكر كافأوه بالغدر. وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذ عشرين سنة في طلب أخ إذا غضب لم يقل إلا الحق فما أجده. وقال عبيد الله بن قيس الرقيات: يستأسدون على الصديق وللعدو ثعالب. اعتل بعض إخوان الحسن بن سهل، فكتب إليه الحسن: أجدني وإياك كالجسم الواحد، إذا خص عضواً منه ألم عم سائره، فعافاني الله بعافيتك، وأدام لي الإمتاع بك. قال ثعلب: كان يقال: لعداوة يحيى بن برامك أنفع لعدوه من صداقة غيره لصديقه. أخبرنا القدسي، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى، قال ابن الأعرابي عن المفضل: جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطباً، قال: لمن؟ قال: لمودتك، قال: قد أنكحتكها وجعلت الصداق أن لا تقبل في مقالة قائل. قال أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله، أطع أخاك، ولن له، ولا تسمع فيه قول حاسد وكاشح، غداً يأتيك أجله فيكفيك فقده، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله؟ قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله تعالى: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " . وأنشدنا الأندلسي: لي صديق هو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز شاعر: ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس فيصلح وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: حافظ على الصديق ولو في الحريق. وقال شاعر: لست ذا ذلة إذا عضني الدهر ولا شامخاً إذا واتاني. أنا نار في مرتقى نفس الحاسد ماء جار مع الإخوان كان على حاتم أبي نواس الحسن بن هانىء إخوان ذا الزمان دود وود وزوان. أخبرنا الطبراني، قال: سمعت عبد الله بن المعتز يقول: قال بعض الملاح: إن الناس قد مسخوا خنازير، فإذا وجدت كلباً فتمسك به. قال أبو العيناء في رجلين أفسد ما بينهما: تنازعا ثوب العقوق حتى صدعاه صدع الزجاجة ما لها من جابر. قال شريح القاضي: الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق من الجار، والجار أحق ممن سواه. قال رجل لأبي مجنب: إني لا أودك، فقال: إني لأجد رائد ذاك. كاتب: قد أهديت لك مودتي رغبة، ورضيت منك بقبولها مثوبة، وأنت بالقبول قاض لحق، ومالك لرق، والسلام. سئل صعصة عن طلحة فقال: كان حلو الصداقة، مر العداوة. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الإخوان بمنزلة النار، قليلها متاع وكثيرها بوار. قال الأحتف: كانت المودة قبل اليوم محضاً، فليتها تكون اليوم مذقاً قال أحمد بن أبي فنن: حدثنا عمرو بن سعيد بن سلام قال: كنت في حرس المأمون ليلة من الليالي نائباً. فبرز المأمون في بعض الليل متفقداً من حضر، فعرفته، فقال لي: من أنت؟ فقلت: عمرو - عمرك الله - بن سعيد - أسعدك الله - بن سلام - سلمك الله - فقال: أنت تكلأنا مذ الليلة. قلت يكلأك الله. فقال المأمون: إن أخا الهيجاء من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا صرف زمان صدعك ... بدد شمل نفسه ليجمعك ادفعوا إليه أربعة آلاف دينار، فوددت أن الأبيات طالت. قيل للعتابي: إنا نراك زاهداً في استطراف الإخوان؟ قال: إني لم أحمد تالدهم. تمثل عبد الملك بقول الشاعر: فاستبق ودك للصديق ولا تكن ... قتباً يعض بغارب ملحاحا واهجرهم هجر الصديق صديقه ... حتى تلاقيهم عليك شحاحا أخبرنا أبو سعيد السيرافي قال أخبرنا ابن دريد، حدثنا عبد الرحمن، قال: عرض عمي الأصمعي برجل كان حاضراً فأنشد: صديقك لا يثني عليك بطائل ... فماذا ترى فيك العدو يقول فقال الرجل: وحسبك من لؤم وخبث سجية ... بأنك عن عيب الصديق سؤول شاعر: يصافيني الكريم إذا التقينا ... ويبغضني اللئيم إذا رآني قال ابن عائشة: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك. قال أبو جعفر المنصور: من أعطى إخوانه النصفة، وعاشرهم بجميل العشرة قوي بهم عضده، وزاد بهم جلده، وبذلوا دونه المهج، وخاضوا في رضاه اللجج. شاعر: بيني وبين لئام الناس معتبة ... ما تنقضي وكرام الناس إخواني إذا لقيت لئيم القوم عنفني ... وإن لقيت كريم القوم حياني شاعر: وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وأشرقني على حنق بريقي عفوت ذنوبه وصفحت عنه ... مخافة أن أعيش بلا صديق قال بعض السلف: استطرد لعدوك، وأبقه بإظهار الرضا عنه، والمداراة له حتى تصيب الفرصة فتأخذه على غرة. قال طلحة بن عبد الله: أعظم لخطرك أن لا تري عدوك أنه لك عدو. قال الحسن بن وهب: طرف الصداقة أملح من طرف العلاقة، والنفس بالصديق آنس منها بالعشيق. شاعر: ولقد طويتكم على علاتكم ... وعرفت ما فيكم من الأدغال قيل لروح بن زنباع: ما معنى الصديق؟ قال: لفظ بلا معنى. وأنشد هلال بن العلاء الرقي: لما عفوت ولم أحقد على أحد ... أرحت نفسي من غم العداوات إني أحيي عدوي عند رؤيته ... لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنه قد ملا قلبي محبات والناس داء، وداء الناس قربهم ... وفي الجفاء لهم قطع الأخوات فلست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودات ألقى العدو بوجه لاقطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات وأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودات قال الشعبي: تعايش الناس بالدين زماناً حتى ذهب الدين، ثم تعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً. لسعية بن عريض اليهودي: وإذا تصاحبهم تصاحب خانة ... ومتى تفارقهم تفارق عن قلى إخوان صدق ما رأوك بغبطة ... فإذا افتقرت فقد هوى بك ما هوى إن الكريم إذا أردت وصاله ... لم يلف حبلي واهناً رث القوى أرعى أمانته وأحفظ عهده ... جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتى يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى قرع رجل باب بعض السلف في ليل فقال لجاريته: أبصري من القارع؟ فأتت الباب فقالت: من ذا؟ قال: أنا صديق مولاك، فقال الرجل: قولي له: والله إنك لصديق، فقالت له ذلك فقال: والله إني لصديق، فنهض الرجل وبيده سيف، وكيس، يسوق جارية، وفتح الباب وقال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال: لابك، ما ساءك، فإني قد قسمت أمرك بين نائبة فهذا المال، وبين عدو فهذا السيف، أو أيمة فهذه الجارية؟! فقال: الرجل: لله بلادك ما رأيت مثلك. قال الأحنف: من حق الصديق أن يحتمل له ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة. قال بزرجمهر: إياك وقرناء السوء، فإنك إن عملت قالوا: رائيت، وإن قصرت قالوا: أثمت، وإن بكيت قالوا: شهرت، وإن ضحكت قالوا: جهلت، وإن نطقت قالوا: تكلفت، وإن سكت قالوا: عييت، وإن تواضعت قالوا افتقرت، وإن أنفقت قالوا: أسرفت، وإن اقتصدت قالوا: بخلت. وقال أبو بكر: قارب إخوانك في خلائقهم تسلم من بوائقهم، وترتع في حدائقهم. قال أعرابي: دع مصارمة أخيك وإن حثا التراب في فيك. قال عمرو بن العاص: من أفحش الظلم أن تلزم حقك في مال أخيك، فيبذله لك، ويلزمك حقه في تعظيمك إياه فتمنعه، فإذا أنت جشمته إفضال المنعمين، وابتذلته ابتذال الأكفاء. وقال أعرابي لصديق له: كن ببعضك لي حتى أكون بكلي لك. وفي كليلة ودمنة: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على النتن حملت تنناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً. وقال أيضاً: المودة بين الصالحين بطيء انقطاعها، سريع اتصالها، كآنية الذهب، بطيئة الانكسار، هينة الإعادة، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها، بعيد اتصالها، كآنية الفخار التي يكسرها أدنى شيء، ولا وصل له. قال عثمان بن عفان: ما ملك رفيقاً من لم يتجرع بغيظ ريقاً. قال أبو عثمان النيسابوري، وكان من الزهاد العباد: أنكر علي أبو حفص، أيام ملازمتي وخدمتي له شيئاً، فضقت ذرعاً، وهممت لو أني بطي الأرض حتى لا يراني، فخيل إليه ذاك مني، فلما رآني قال لي: يا أبا عثمان! لا تثق بمودة من لا يحبك إلا معصوماً، قال: فسكنت وعدت إلى العادة. قال الأصمعي فيما روي لنا المرزباني عن ابن دريد، عن عبد الرحمن، عن الأصمعي قال أعرابي: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، واعجز منه من ضيع من ظفر به منهم. قيل لمسور بن مخرمة الزهري: أي الندماء أحب إليك؟ قال: لم أجد نديماً كالحائط، إن بصقت في وجهه لم يغضب علي، وإن أسررت إليه شيئاً لم يفشه عني. قال ابن مناذر: كنت أمشي مع الخليل فانقطع شسع نعلي فخلع نعله فقلت له: ما تصنع؟ قال: أواسيك بالحفاء! وقال بعض السلف: إياك وكره الإخوان، فإنه لا يؤذيك إلا من تعرف وأنشد: جزى الله عنا الخير من ليس بيننا ... ولا بينه ود ولا نتعارف فما سامنا ضيماً ولا شفنا أذى ... من الناس إلا من نود ونألف قال شبيب بن شيبة: إخوان الصديق خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء. قال أعرابي لصاحب له: أنزلني من نفسك منزلة عبد، أنزلك من تفسي منزلة مولى، فإنك إذا فعلت ذلك تطاوعنا بلا أمر، وتناهينا بلا زجر، وإذا كان رقيبنا العقل، الهادي إلى الرضا، الذائد عن الأذى، فلا عتب يسود به وجه، ولا عذر يغض منه طرف، والسلام. كاتب. أما بعد، فقد استجبت لإخائك، ثقة مني بوفائك، فلما أن طعمت فضلك، وسرت مسيرك، واستفرغتني مودتك، واستغرقتني مقتك، فاجأتني بتغير لونك، وانزواء ركنك، وفاحش لفظك، وشانيء لحظك. شاعر: ستنكت نادماً في الأرض مني ... وتعلم أن رأيك كان عجزا وقال الراجز: إن الرفيق لاصق بقلبي ... إذا أضاف جنبه بجنبي أبذل نصحي، وأكف لعبي ... ليس كمن يفحش أو يحظنبي قال بعض السلف: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، ولعدوك عدلك وإنصافك. شاعر: ترك التعهد للصديق يكون داعية القطيعة قال أبو بكر في دعائه: اللهم! إني أعوذ بك من نظرة غيظ نفذت من عين حاسد، غائبها حرب، وشاهدها سلم. شاعر: فلا تقطع أخاك من أجل ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم وأنشد: إذا أنكرت أحوال الصديق ... فلست من التحيل في مضيق طريق كنت تسلكه زماناً ... فأسبع فاجتنبه إلى طريق كاتب: عرضت عليك مودتي فأعرضت عني، وأعرض عنك غيري فتعرضت له، فالله المستعان على فوت ما أملته لديك، وبه التعزي عما أصبت به منك. مر بخالد بن صفوان صديقان، فعرج عليه أحدهما وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: عرج علينا هذا لفضله، وطوانا ذاك لثقته. ويروي في مثله: عرج علينا هذا بالمقة وانصرف ذاك عنا بالثقة. شاعر: أعاتب ليلى إنما الهجر أن ترى ... صديقك يأتي ما أتى لا تعاتبه قال أعرابي لصاحب له: قد درن ذات بيننا، فهلم إلى العتاب لنغسل به هذا الدرن، فقال له صاحبه: إن كان كما تصف فذاك لبادرة ساءتك مني، إما لك وإما لي، فهلا أخذت بقول القائل: إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا والله لا صفت مودتنا، ولا عذب شربها لنا إلا بعد أن يغفر كل واحد منا لصاحبه ما يغفره لنفسه من غير من ولا أذى. شاعر: إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن جانب السيف مزحل قال العوامي: الصديق يرتفع عن الإنصاف، ويجل أيضاً عن الهجران، لأن الإنصاف ينبغي أن يكون عاماً مع الناس كلهم، وأما الهجران، فالعاقل لا يسرع إليه لعدم الإنصاف بل يستأني، ويقف، ويكظم، ويتوقع، ويرى أن العارض في الأمر لا يزال به الأمر الثابت، والعرق النابت. شاعر: إذا رأيت ازوراراً من أخي ثقة ... ضاقت علي برحب الأرض أوطاني فإن صددت بوجهي كي أكافئه ... فالعين غضبي وقلبي غير غضبان وقال العتبي: وصاحب لي أبنيه ويهدمني ... لا يستوي هادم يوماً وبنآء إذا رآني فعبد خاف معتبة ... وإن نأيت فثم الغمر والداء بلغ الإسكندر الملك موت صديق له فقال: ما يحزنني موته أني لم أبلغ من بره ما كان أهله مني. قال ابن أبي ليلى: لا أماري صديقي، فإما أن أكذبه، وإما أن أغضبه. وكان بين القاضي أبي حامد المروروذي وبين ابن نصرويه العداوة الفاشية، والشحناء الظاهرة، فكان إذا جرى ذكر ابن نصرويه أنشد: وأبي ظاهر العداوة إلا ... طغياناً، وقول ما لا يقال وكان يقول: والله إني بباطنه في عداوته أوثق مني بظاهر صداقة غيره، وذاك لعقله الذي هو أقوى زاجر له عن مساءتي، إلا فيما يدخل في باب المنافسة، ولهذا استمر أمرنا أربعين سنة، من غير فحاشة ولا شناعة، ولقد دعيت إلى الصلح فأبيت فقلت: لا نحرك الساكن منا، فلقديم العداوة بالعقل، والحفاظ من الذمام والحرمة ما ليس لحديث الصداقة بالتكلف والملق، ولقد وقفني مرة على ضربة تأتت له علي كان فيها البوار، كف عنها، وأخذ بالحسنى، فأريته أختها، وكانت خافية عنده، فقال: لولا علمي بأنك تسبق إلى مثل هذه ما قابلتك بتلك، فقلت: هو والله ذاك، ووالله لقد ضرني ناس كانوا ينتحلون مودتي، ويتبارون في صداقتي، لضعف نحائزهم، ولؤم غرائزهم، ولقد ثبت لي هو في عداوته على عقل وتذمم أفضيا بهما إلى سلامة الدين، والنفس، والحال. وورد معز الدولة هذا المصر، فسأله عني سراً، فأثنى خيراً وقال: ما قطن مصرنا غريب أعظم بركة منه، وإنه لجمالنا عند المباهاة، ومفزعنا عند الخلاف. ولقد سألني معز الدولة عنه سراً، فأثنيت خيراً وقلت: أيها الأمير! والله ما نشأت فتنة في هذا المصر إلا وهو كان سبب زوالها، وإطفاء ثائرتها، وإعادة الحال إلى غضارتها ونضارتها. فقال معز الدولة لأبي مخلد سراً، كيف الحال بينهما، يعنينا، فقال: بينهما نبو لا ينادى وليده، وتعاد لا يلين أبداً شديده. فقال: لئن كان كما تقول فإنهما ركنا هذا البلد، وعدتا هذا السواد، اجعلهما عيني أبصر بهما أحوال الناس في هذا المكان، وأعول عليهما في ما يريان ويشيران، فخلا بي أبو مخلد وبصاحبي، وتقدم إلينا عن صاحبه بما زادنا بصيرة وتألفاً إلى هذه الغاية، ثم قال أبو حامد: والله إن عداوة العاقل لألذ وأحلى من صداقة الجاهل، لأن الصديق الجاهل يتحاماك بعداوته، ويهدي إليك فضل عقله ورأيه، ومن فضل عداوة الجاهل أنك لا تستطيع مكاشفته حياء منه، وإيثاراً للإرعاء عليه، ومن فضل عداوة العاقل أنك تقدر على مغالبته بكل ما يكون منه إليك، ثم قال: وما أظن أنه كان فيما مضى إلى وقتنا هذا متصادقان على العقل والدين مثل أبي بكر وعمر، ومن يتحرى أخبارهما، ويقفو آثارهما وقف على غور بعيد، هذا مع العنجهية المصحوبة أيام الجاهلية، والعجرفية المعتادة أوان الكفر، فلما أنار الله قلوبهما بالإيمان رجعا إلى عقل نصيح، ودين صحيح، وعرفان بالعرف والنكر، ونهوض بكل ثقل وخف، وإني لأرحم الطاعن فيهما، والنائل منهما، لضعف عقله ودينه، وذهابه عما خصا به، وعما فيه، وميزا عنه، ورقيا إليه، واندفع في هذا وشبهه، وكان والله بليل الريق، يستحضر كيف شاء بالطويل والعريض، والجليل والدقيق. أطلنا هذا الفصل على ما اعتن، والمعذرة فيه مقدمة إليك، وأنت أولى من يقبلها، وزادني تفضلاً من عنده عليهما، جامعاً لما شت من الكرم، حافظاً لما قد ضاع من الذمم. قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: شر الإخوان من تكلف له، وخيرهم من أحدثت لك رؤيته ثقة به، وأهدت إليك غيبته طمأنينة إليه. قال شاعر: لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان لما أخذت أماناً ... إلا من الإخوان أنشد عمر بن عبد العزيز: إني لأمنح من يواصلني ... مني صفاء ليس بالمذق وإذا أخ لي حال عن خلق ... داويت منه ذاك بالرفق والمرء يصنع نفسه ومتى ... ما تبله ينزع إلى العرق وأنشد آخر: يا أكرم الناس في ضيق وفي سعة ... وأنطق الناس في نظم وفي خطب إنا وإن لم يكن ما بيننا نسب ... فرتبة الود تعلو رتبة النسب كم من صديق يراك الشهد عن بعد ... ومن عدو يراك السم عن قرب وأنشد آخر: فما منك الصديق ولست منه ... إذا لم يعنه شيء عناكا قال أعرابي: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة. قال محمد بن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد بداً من معاشرته حتى يجعل الله له من ذلك مخرجاً. قال أبو بكر: حق الجليس إذا دنا أن يرحب به، وإذا جلس أن يوسع له، وإذا حدث أن يقبل عليه، وإذا عثر أن يقال، وإذا أنقص أن ينال، وإذا جهل أن يعلم. كان بعض السلف يقول في دعائه: اللهم احفطني من أصدقائي، فسئل عن ذلك فقال: إني أحفظ نفسي من أعدائي. قال أبو سليمان: إن كانوا عندك أصدقاء فما أقر عينك بهم لأنك محفوظ فيهم، وإن كانوا غير أصدقاء فما وجه فكرك فيهم. وقال الشاعر: تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك، ليس النوك عنك بعازب وليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني في المغائب ومن ماله مالي إذا كنت معدماً ... ومالي له إن عض دهر بغارب فما أنت إلا كيف أنت ومرحباً ... وبالبيض رواغ كروغ الثعالب قيل لبزرجمهر: ما بال معاداة الصديق أقرب مأخذاً من مصادقة العدو؟ قال: لأن إنفاق المال أهون من كسبه، وهدم البناء أسهل من رفعه، وكسر الإناء أيسر من إصلاحه. قال أبو سليمان: لم يعمل شيئاً في الجواب لأنه ماثل مسألة السائل بمسألة مثلها، فلو سأله السائل عن هذه كلها ما كان جوابه، ثم أجاب هو بكلام لا يدخل في هذه الرسالة لأنه من الفلسفة التي هي موقوفة على أصحابها لا نزاحمهم عليها، ولا نماريهم فيها. وقال الشاعر: إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا قال معاوية: المودة بين السلف ميراث بين الخلف. قال أبو العتاهية: قلت لعلي بن الهيثم: ما يجب للصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة.
كتاب : الصداقة والصديق المؤلف : أبو حيان التوحيدي منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة