بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة السيرة والتاريخ
تاريخ الخلفاء للسيوطيي
خلفاء الدولة العباسية [ 6 ]
● [ المقتدر بالله ] ●
295 هـ ـ 319 هـ
المقتدر بالله : أبو الفضل جعفر بن المعتضد ولد في رمضان سنة اثنتين و ثمانين و مائتين و أمه رومية و قيل : تركية اسمها غريب و قيل : شغب
و لما اشتدت علة أخيه المكتفي سأل عنه فصح عنه أنه احتلم فعهد إليه و لم يل الخلافة قبله أصغر منه فإنه وليها و له ثلاثة عشر سنة فاستصباه الوزير العباس بن الحسن فعمل على خلعه و وافقه جماعة على أن يولوا عبد الله بن المعتز فأجاب ابن المعتز بشرط أن لا يكون فيها دم فبلغ المقتدر ذلك فأصلح حال العباس و دفع إليه أموالا أرضته فرجع عن ذلك و أما الباقون فإنهم ركبوا عليه في العشرين من ربيع الأول سنة ست و المقتدر يلعب الأكرة فهرب و دخل و أغلقت الأبواب و قتل الوزير و جماعة و أرسل إلى ابن المعتز فجاء و حضر القواد و القضاة و الأعيان و بايعوه بالخلافة و لقبوه [ الغالب بالله ] فاستوزر محمد بن داود بن الجراح و استقضى أبا المثنى أحمد بن يعقوب و نفذت الكتب بخلافة ابن المعتز
قال المعافى بن زكريا الجريري : لما خلع المقتدر و بويع ابن المعتز دخلوا على شيخنا محمد بن جرير الطبري فقال : ما الخبر ؟ قيل : بويع ابن المعتز قال : فمن رشح للوزارة ؟ قيل : محمد بن داود قال : فمن ذكر للقضاة ؟ قيل : أبو المثنى فأطرق ثم قال : هذا الأمر لا يتم قيل له : و كيف ؟ قال : كل واحد ممن سميتم متقدم في معناه عالي الرتبة و الزمان مدبر و الدنيا مولية و ما أرى هذا إلا إلى اضمحلال و ما أرى لمدته طولا
و بعث ابن المعتز إلى المقتدر يأمره بالانصراف إلى دار محمد بن طاهر لكي ينتقل ابن المعتز إلى دار الخلافة فأجاب و لم يكن بقي معه إلا طائفة يسيرة فقالوا : يا قوم نسلم هذا الأمر و لا نجرب نفوسنا في دفع ما نزل بنا فلبسوا السلاح و قصدوا المخرم و به ابن المعتز فلما رآهم من حوله ألقى الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا منهزمين بلا قتال و هرب ابن المعتز و وزيره و قاضيه و وقع النهب و القتل في بغداد و قبض المقتدر على الفقهاء و الأمراء الذين خلعوه و سلموا إلى يونس الخازن فقتلهم إلا أربعة منهم القاضي أبو عمر سلموا من القتل و حبس ابن المعتز ثم أخرج فيما بعد ميتا و استقام الأمر للمقتدر فاستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات فسار أحسن سير و كشف المظالم و حض المقتدر على العدل ففوض إليه الأمور لصغره و اشتغل باللعب و اللهو و أتلف الخزائن
و في هذه السنة أمر المقتدر أن لا يستخدم اليهود و النصارى و أن يركبوا بالأكف
و فيها غلب أمر المهدي بالمغرب و سلم عليه بالإمامة و دعي له بالخلافة و بسط في الناس العدل و الإحسان فانحرفوا إليه و تمهدت له المغرب و عظم ملكه و بنى المهدية و هرب أمير إفريقية زيادة الله بن الأغلب إلى مصر ثم أتى العراق و خرجت المغرب عن أمر بني العباس من هذا التاريخ فكانت مدة ملكهم جميع الممالك الإسلامية مائة و بضعا و ستين سنة و من هنا دخل النقص عليهم
قال الذهبي : اختل النظام كثيرا في أيام المقتدر لصغره
و في سنة ثلاثمائة ساخ جبل بالدينور في الأرض و خرج من تحته ماء كثير أغرق القرى
و فيها ولدت بغلة فلوا فسبحان القادر على ما يشاء !
و في سنة إحدى و ثلاثمائة ولي الوزارة علي بن عيسى فسار بعفة و عدل و تقوى و أبطل الخمور و أبطل من المكوس ما ارتفاعه في العام خمسمائة ألف دينار
و فيها أعيد القاضي أبو عمر إلى القضاء و ركب المقتدر من داره إلى الشماسية و هي أول ركبة ركبها و ظهر فيها للعامة
و فيها أدخل الحسين الحلاج مشهورا على جمل إلى بغداد فصلب حيا و نودي عليه : هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ثم حبس إلى أن قتل في سنة تسع و أشيع عنه أنه ادعى الإلهية و أنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف و يكتب إلى أصحابه من النور الشعشعاني و نوظر فلم يوجد عنده شيء من القرآن و لا الحديث و لا الفقه
و فيها سار المهدي الفاطمي يريد مصر في أربعين ألفا من البربر فحال النيل بينه و بينها فرجع إلى الإسكندرية و أفسد فيها و قتل ثم رجع فسار إلى جيش المقتدر إلى برقة و جرت لهم حروب ثم ملك الفاطمي الإسكندرية و الفيوم من هذا العام
و في سنة اثنتين ختن المقتدر خمسة من أولاده فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار و ختن معهم طائفة من الأيتام و أحسن إليهم
و فيها صلي العيد في جامع مصر و لم يكن يصلي فيه العيد قبل ذلك فخطب بالناس علي بن أبي شيخة من الكتاب نظرا و كان من غلطه أن قال : اتقوا الله حق تقاته و لا تموين إلا و أنتم مشركون
و فيها أسلم الديلم على يد الحسن بن علي العلوي الأطروش و كان مجوسيا
و في سنة أربع وقع الخوف ببغداد من حيوان يقال له الزيزب ذكر الناس أنهم يرونه بالليل على الأسطحة و أنه يأكل الأطفال و يقطع ثدي المرأة فكانوا يتحارسون و يضربون بالطاسات ليهرب و اتخذ الناس لأطفالهم مكاب و دام عدة ليال
و في سنة خمس قدمت رسل ملك الروم بهدايا و طلبت عقد هدنة فعمل المقتدر موكبا عظيما فأقام العسكر وصفهم بالسلاح ـ و هم مائة و ستون ألفا ـ من باب الشماسية إلى دار الخلافة و بعدهم الخدام و هم سبعة آلاف خادم و يليهم الحجاب و هم سبعمائة حاجب و كانت الستور التي نصبت على حيطان دار الخلافة ثمانية و ثلاثين ستر من الديباج و البسط اثنين و عشرين ألفا و في الحضرة مائة سبع في السلاسل إلى غير ذلك
و في هذه السنة وردت هدايا صاحب عمان و فيها طير أسود يتكلم بالفارسية و الهندية أفصح من الببغا
و في سنة ست فتح مارستان أم المقتدر و كان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار
و فيها صار الأمر و النهي لحرم الخليفة و لنسائه لركاكته و آل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم و تنظر في رقاع الناس كل جمعة فكانت تجلس و تحضر القضاة و الأعيان و تبرز التواقيع و عليها خطها
و فيها عاد القائم محمد بن المهدي الفاطمي إلى مصر فأخذ أكثر الصعيد
و في سنة ثمان غلت الأسعار ببغداد و سغبت العامة لكون حامد بن العباس ضمن السواد و جدد المظالم و وقع النهب و ركب الجند فيها و شتتهم العامة و دام القتال أياما و أحرق العامة الحبس و فتحوا السجون و نهبوا الناس و رجموا الوزير و اختلفت أحوال الدولة العباسية جدا
و فيها ملكت جيوش القائم الجزيرة من الفسطاط و اشتد قلق أهل مصر و تأهبوا للحروب و جرت أمور و حروب يطول شرحها
و في سنة تسع قتل الحلاج بإفتاء القاضي أبي عمر و الفقهاء و العلماء أنه حلال الدم و له في أحواله السنية أخبار أفردها الناس بالتنصيف
و في سنة إحدى عشرة أمر المقتدر برد المورايث إلى ما صيرها المعتضد من توريث ذوي الأرحام
و في سنة ثنتي عشرة فتحت فرغانة على يد والي خراسان
و في سنة أربع عشرة دخلت الروم ملطية بالسيف
و فيها جمدت دجلة بالموصل و عبرت عليها الدواب و هذا لم يعهد
و في سنة خمس عشرة دخلت الروم دمياط و أخذوا من فيها و ما فيها و ضربوا الناقوس في جامعها
و فيها ظهرت الديلم على الري و الجبال فقتل خلق و ذبحت الأطفال
و في سنة ست عشرة بني القرمطي دارا سماها [ دار الهجرة ] و كان في هذه السنين قد كثر فساده و أخذه البلاد و فتكه بالمسلمين و اشتد الخطب به و تمكنت هيبته في القلوب و كثر أتباعه و بث السريا و تزلزل له الخليفة و هزم جيش المقتدر غير مرة و انقطع الحج في هذه السنين خوفا من القرامطة و نزح أهل مكة عنها و قصدت الروم ناحية خلاط و أخرجوا المنبر من جامعها و جعلوا الصليب مكانه
و في سنة سبع عشرة خرج مؤنس الخادم الملقب بالمظفر على المقتدر لكونه بلغه أنه يريد أن يولي إمرة الأمراء هارون بن غريب مكان مؤنس و ركب معه سائر الجيش و الأمراء و الجنود و جاؤوا إلى دار الخلافة فهربت خواص المقتدر و أخرج المقتدر بعد العشاء و ذلك في ليلة رابع عشر المحرم من داره و أمه و خالته و حرمه و نهب لأمه ستمائة ألف دينار و أشهد عليه بالخلع و أحضر محمد بن المعتضد و بايعه مؤنس و الأمراء و لقبوه [ القاهر بالله ] و فوضت الوزارة إلى أبي علي بن مقلة و ذلك يوم السبت و جلس القاهر يوم الأحد و كتب الوزير عنه إلى البلاد و عمل الموكب يوم الاثنين فجاء العسكر يطلبون رزق البيعة و رزق السنة و لم يكن مؤنس يطلبون المقتدر ليردوه إلى الخلافة فحملوه على أعناقهم من دار مؤنس إلى قصر الخلافة و أخذ القاهر فجيء به و هو يبكي و يقول : الله الله في نفسي فاستدناه و قبله و قال له : يا أخي أنت و الله لا ذنب لك و الله لا جرى عليك مني سوء أبدا فطب نفسا و سكن الناس و عاد الوزير فكتب إلى الأقاليم بعود الخلافة إلى خلافته و بذل المقتدر الأموال في الجند
و في هذه السنة سير المقتدر ركب الحاج مع منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين فوافاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي فقتل الحجيج في المسجد الحرام قتلا ذريعا و طرح القتلى في بئر زمزم و ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم اقتلعه و أقام بها أحد عشر يوما ثم رحلوا و بقي الحجر الأسود عندهم أكثر من عشرين سنة و دفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع
و قيل : إنهم لما أخذوه هلك تحته أربعون جملا من مكة إلى هجر فلما أعيد حمل على قعود هزيل فسمن
قال محمد بن الربيع بن سليمان : كنت بمكة سنة القرامطة فصعد رجل لقلع الميزاب و أنا أراه فعيا صبري و قلت : يا رب ما أحلمك فسقط الرجل على دماغه فمات و صعد القرمطي على باب الكعبة و هو يقول :
( أنا بالله و بالله أنا ... يخلق الخلق و أفنيهم أنا )
و لم يفلح أبو طاهر القرمطي بعدها و تقطع جسده بالجدري
و في هذه السنة هاجت فتنة كبرى ببغداد بسبب قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } فقالت الحنابلة : معناها يقعده الله على عرشه و قال غيرهم : بل هي الشفاعة و دام الخصام و اقتتلوا جماعة كثيرة
و في سنة تسع عشرة نزل القرمطي الكوفة و خاف أهل بغداد من دخوله إليها فاستغاثوا و رفعوا أصواتهم و المصاحف و سبوا المقتدر
و فيها دخلت الديلم الدينور فسبوا و قتلوا
و في سنة عشرين ركب مؤنس على المقتدر فكان معظم جند مؤنس البربر فلما التقى الجمعان رمى بربري المقتدر بحربة سقط منها إلى الأرض ثم ذبحه بالسيف و شيل رأسه على رمح و سلب ما عليه و بقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش ثم حفر له بالموضع و دفن و ذلك يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال
و قيل : إن وزيره أخذ له ذلك اليوم طالعا فقال له المقتدر : أي وقت هو قال : وقت الزوال فتطير و هم بالرجوع فأشرفت خيل مؤنس و نشبت الحرب و أما البربري الذي قتله فإن الناس صاحوا عليه فسار نحو دار الخلافة ليخرج القاهر فصادفه حمل شوك فزحمه إلى دكان لحام فعلقه كلاب و خرج الفرس من مشواره من تحته فمات فحطه الناس و أحرقوه بالحمل الشوك
و كان المقتدر جيد العقل صحيح الرأي لكنه كان مؤثرا للشهوات و الشراب مبذرا و كان النساء غلبن عليه فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة و نفائسها و أعطى بعض حظاياه الدرة اليتيمة و وزنها ثلاثة مثاقيل و أعطى زيدان القهرمان سبحة جوهر لم ير مثلها و أتلف أموالا كثيرة و كان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان غير الصقالبة و الروم و السود و خلف اثني عشر ولدا ذكر و ولي الخلافة من أولاده ثلاثة : الراضي و المتقي و المطيع و كذلك اتفق للمتوكل و الرشيد و أما عبد الملك فولي الأمر من أولاده أربعة و لا نظير لذلك إلا في الملوك كذا قال الذهبي
قلت : في زماننا ولي الخلافة من أولاد المتوكل خمسة : المستعين العباس و المعتضد داود و المستكفي سليمان و القائم حمزة و المستنجد يوسف و لا نظير لذلك
و في لطائف المعارف للثعالبي ـ نادرة : لم يل الخلافة من اسمه جعفر إلا المتوكل و المقتدر فقتلا جميعا : المتوكل ليلة الأربعاء و المقتدر يوم الأربعاء
و من محاسن المقتدر ما حكاه ابن شاهين أن وزيره علي بن عيسى أراد أن يصلح بين ابن صاعد و بين أبي بكر بن أبي داود السجستاني فقال الوزير : يا أبا بكر أبو محمد أكبر منك فلو قمت إليه قال : لا أفعل فقال الوزير : أنت شيخ زيف فقال ابن أبي داود : الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من ؟ فقال : هذا ثم قام ابن أبي داود و قال : تتوهم أني أذل لك لأجل أن رزقي يصل إلي على يدك و الله لا أخذت من يدك شيئا أبدا فبلغ المقتدر ذلك فصار يزن رزقه بيده و يبعث به في طبق على يد الخادم
مات في أيام المقتدر من الأعلام : محمد بن أبي داود الظاهري و يوسف بن يعقوب القاضي و ابن شريح شيخ الشافعية و الجنيد شيخ الصوفية و أبو عثمان الحيري الزاهد و أبو بكر البرديجي و جعفر الفريابي و ابن بسام الشاعر و النسائي صاحب السنن و الجبائي شيخ المعتزلة و ابن المواز النحوي و ابن الجلاء شيخ الصوفية و أبو يعلى الموصلي صاحب المسند و الأشناني المقرئ و أبن سيف من كبار قراء مصر و أبو بكر الروياني صاحب المسند و ابن المنذر الإمام و ابن جريري الطبري و الزجاج النحوي و ابن خزيمة و ابن زكريا الطبيب و الأخفش الصغير و بنان الجمال و أبو بكر بن أبي داود السجستاني و ابن السراج النحوي و أبو عوانة صاحب الصحيح و أبو القاسم البغوي المسند و أبو عبيد بن حربوية و الكعبي شيخ المعتزلة و أبو عمر القاضي و قدامة الكاتب و خلائق آخرون
● [ القاهر بالله ] ●
319هـ ـ 322هـالقاهر بالله : أبو منصور محمد بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل
أمه أم ولد اسمها فتنة لما قتل المقتدر أحضر هو و محمد بن المكتفي فسألوا ابن المكتفي أن يتولى فقال : لا حاجة لي في ذلك و عمي هذا أحق به فكلم القاهر فأجاب : فبويع و لقب [ القاهر بالله ] كما لقب به في سنة سبع عشرة فأول ما فعل أن صادر آل المقتدر و عذبهم و ضرب أم المقتدر حتى ماتت في العذاب
و في سنة إحدى و عشرين شغب عليه الجند و اتفق مؤنس و ابن مقلة و آخرون على خلعه بابن المكتفي فتحيل القاهر عليهم إلى أن أمسكهم و ذبحهم و طين على ابن المكتفي بين حيطتين
و أما ابن مقلة فاختفى فأحرقت داره و نهبت دور المخالفين ثم أطلق أرزاق الجند فسكنوا و استقام الأمر للقاهر و عظم في القلوب و زيد في ألقابه [ المنتقم من أعداء دين الله ] و نقش ذلك على السكة
و في هذه السنة أمر بتحريم القيان و الخمر و قبض على المغنين و نفى المخانبث و كسر آلات اللهو و أمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سواذج و كان مع ذلك و لا يصحو من السكر و لا يفتر عن سماع الغناء
و في سنة اثنتين و عشرين ظهرت الديلم و ذلك لأن أصحاب مرداويج دخلوا أصبهان و كان من قواده علي بن بوية فاقتطع مالا جليلا فانفرد عن مخدومه ثم التقى هو و محمد بن ياقوت نائب الخليفة فهزم محمد و استولى ابن بويه على فارس و كان بويه فقيرا صعلوكا يصيد السمك رأى كأنه بال فخرج من ذكره عمود نار ثم تشعب العمود حتى ملأ الدنيا فعبرت بأن أولاده يملكون الدنيا و يبلغ سلطانهم على قدر ما احتوت عليه النار فمضت السنون و آل الأمر على هذا إلى أن صار قائدا لمرداويج ابن زياد الديلمي فأرسله يستخرج له مالا من الكرخ فاستخرج خمسمائة ألف درهم و أتى همذان ليملكها فغلق أهلها في وجهه الأبواب فقاتلهم و فتحها عنوة و قيل صلحا ثم صار سيراز
ثم إنه قل ما عنده من المال فنام على ظهره فخرجت حية من سقف المجلس فأمر بنقضه فخرجت صناديق ملأى ذهبا فأنفقها في جنده
و طلب خياطا يخيط له شيئا ـ و كان أطروشا فظن أنه قد سعى به فقال : و الله ما عندي سوى اثني عشر صندوقا و لا أعلم ما فيها فأحضرت فوجد فيها مالا عظيما
و ركب يوما فساخت قوائم فرسه فحفروه فوجدوا فيه كنزا
و استولى على البلاد و خرجت خراسان و فارس عن حكم الخلافة
و في هذه السنة قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل النوبختي الذي قد أشار بخلافة القاهر ألقاه على رأسه في بئر و طمت و ذنبه أنه زايد القاهر قبل الخلافة في جارية و اشتراها فحقد عليه
و فيها تحرك الجند عليه أن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه و يقول لهم : إنه بنى لكم المطامير ليحبسكم و غير ذلك فأجمعوا على الفتك به فدخلوا عليه بالسيوف فهرب فأدركوه و قبضوا عليه في سادس جمادى الآخرة و بايعوا أبا العباس محمد بن المقتدر و لقبوه [ الراضي بالله ] ثم أرسلوا إلى القاهر الوزير و القضاة أبو الحسن ابن القاضي أبي عمر والحسن بن عبد الله بن أبي الشوارب و أبا طالب بن البهلول فجاؤوه فقيل له : ما تقول ؟ قال : أنا أبو منصور محمد بن المعتضد لي في أعناقهم بيعة و في أعناق الناس و لست أبرئكم و لا أحللكم منها فقوموا فقاموا فقال الوزير : يخلع و لا يخلع و لا نفكر فيه أفعاله مشهورة و قال القاضي أبو الحسين : فدخلت على الراضي و أعدت عليه ما جرى و أعلمته أني أرى إمامته فرضا فقال : انصرف و دعني و إياه فأشار سيماء مقدم الحجرية على الراضي بسمله فكحله بمسمار محمى
قال محمود الأصبهاني : كان سبب خلع القاهر سوء سيرته و سفكه الدماء فامتنع من الخلع فسلموا عينيه حتى سالتا على خديه
و قال الصولي : كان أهوج سفاكا للدماء قبيح السيرة كثير التلون و الاستحالة مدمن الخمر و لولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث و النسل
و كان قد صنع حربة يحميها فلا يطرحها حتى يقتل بها إنسانا
قال علي بن محمد الخراساني : أحضرني القاهر يوما و الحرية بين يديه فقال : أسألك عن خلفاء بني العباس عن أخلاقهم و شيمهم قلت : أما السفاح : فكان مسارعا إلى سفك الدماء و أتبعه عماله على مثل ذلك و كان مع ذلك سمحا وصولا بالمال قال : فالمنصور ؟ قلت : كان أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس و ولد أبي طالب و كانوا قبلها متفقين و هو أول خليفة قرب المنجمين و أول خليفة ترجمت له المتب السريانية و الأعجمية كـ [ كتاب كليلة و دمنة ] و [ كتاب إقليدس ] و كتب اليونان فنظر الناس فيها و تعلقوا بها فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي و السير و المنصور أول من استعمل مواليه و قدمهم على العرب قال : فالمهدي ؟ قلت : كان جوادا عادلا منصفا رد ما أخذ أبوه من الناس غصبا و بالغ في إتلاف الزنادقة و بنى المسجد الحرام و مسجد المدينة و المسجد الأقصى قال : فالهادي ؟ قلت : كان جبارا متكبرا فسلك عماله طريقه على قصر أيامه قال : فالرشيد ؟ قلت : كان مواظبا على الغزو و الحج و عمر القصور و البرك بطريق مكة و بنى الثغور كأذنه و طرطوس و المصيعته و مرعش و عم الناس إحسانه و كان في أيامه البرامكة و ما اشتهر من كرمهم و هو أول خليفة لعب بالصوالجة و رمي النشاب في البرجاس و لعب الشطرنج من بني العباس قال : فالأمين ؟ قلت : كان جوادا إلا أنه أنهمك في لذاته ففسدت الأمور قال : المأمون ؟ قلت : غلب عليه النجوم و الفلسفة و كان حليما جوادا قال : فالمعتصم ؟ قلت : سلك طريقه و غلب عليه حب الفروسية و التشبه بملوك الأعاجم و اشتغل بالغزو و الفتوح قال : فالواثق ؟ قلت : سلك طريقة أبيه قال : فالمتوكل ؟ قلت : خالف ما كان عليه المأمون و الواثق من الاعتقادات و نهى عن الجدال و المناظرات و الأهواء و عاقب عليها و أمر بقراءة الحديث و سماعه و نهى عن القول بخلق القرآن فأحبه الناس ثم سأل عن باقي الخلفاء ؟ و أنا أجيبه بما فيهم فقال لي : سمعت كلامك و كأني أشاهد القوم ثم قام
و قال المسعودي : أخذ القاهر من مؤنس و أصحابه مالا عظيما فلما خلع و سمل طولب بها فأنكر فعذب بأنواع العذاب فلم يقر بشيء فأخذه الراضي بالله فقربه و أدناه و قال له : قد ترى مطالبة الجند بالمال و ليس عندي شيء و الذي عندك فليس بنافع لك فاعترف به فقال : أما إذا فعلت هذا فالمال مدفون في البستان و كان قد أنشأ بستانا فيه أصناف الشجر حملت إليه من البلاد و زخرفه و عمل فيه قصرا و كان الراضي مغرما بالبستان و القصر فقال : و في أي مكان المال منه ؟ فقال : أنا مكفوف لا أهتدي إلى مكان فاحفر البستان تجده ؟ فحفر الراضي البستان و أساسات القصر و قلع الشجر فلم يجد شيئا فقال له : و أين المال ؟ فقال : و هل عندي مال ؟ و إنما كان حسرتي في جلوسك في البستان و تنعمك فأردت أن أفجعك فيه فندم الراضي و حبسه فأقام إلى سنة ثلاث و ثلاثين ثم أطلقوه و أهملوه فوقف يوما بجامع المنصور بين الصفوف و عليه مبطنه بيضاء و قال : تصدقوا علي فأنا من عرفتم و ذلك في أيام المستكفي ليشنع عليه فمنع من الخروج إلى أن مات سنة تسع و ثلاثين في جمادى الأولى عن ثلاث و خمسين سنة
و كان له من الولد : عبد الصمد أبو القاسم و أبو الفضل و عبد العزيز
و مات في أيامه من الأعلام : الطحاوي شيخ الحنفية و ابن دريد و أبو هاشم الجبائي و آخرون
● [ الراضي بالله ] ●
322هـ ـ 329 هـالراضي بالله : أبو العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل
ولد سنة سبع و تسعين و مائتين و أمه أم ولد رومية اسمها ظلوم بويع له يوم خلع القاهر فأمر ابن مقلة أن يكتب كتابا في مثالب القاهر و يقرأ على الناس
و في هذا العام ـ أي عام اثنتين و عشرين و ثلاثمائة ـ من خلافته مات مرداويج مقدم الديلم بأصبهان و كان قد عظم أمره و تحدثوا أنه يريد قصد بغداد و أنه مسالم لصاحب المجوس و كان يقول : أنا أرد دولة العجم و أمحق دولة العرب
و فيها بعث علي بن بويه إلى الراضي يقاطعه على البلاد التي استولى عليها بثمان مائة ألف ألف درهم كل سنة فبعثه له لواء و خلعا ثم أخذ ابن بويه يماطل بحمل المال
و فيها مات المهدي صاحب المغرب و كانت أيامه خمسا و عشرين سنة و هو جد خلفاء المصريين الذين يسمونهم الجهلة الفاطميين فإن المهدي هذا ادعى أنه علوي و إنما جده مجوسي قال القاضي أبو بكر الباقلاني : جد عبيد الله الملقب بالمهدي مجوسي دخل عبيد الله المغرب و ادعى أنه علوي و لم يعرفه أحد من علماء النسب و كان باطنيا خبيثا حريصا على إزالة ملة الإسلام أعدم العلماء و الفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق و جاء أولاده على أسلوبه : أباحوا الخمور و الفروج و أشاعوا الرفض و قام بالأمر بعد موت هذا ابنه القائم بأمر الله أبو القاسم محمد
و في هذه السنة ظهر محمد بن علي الشمغاني المعروف بابن أبي القراقر و قد شاع عنه يدعي الإلهية ؟ و أنه يحيى الموتى فقتل وصلت و قتل معه جماعة من أصحابه
و فيها توفى أبو بكر جعفر السجزي أحد الحجاب قيل : بلغ من العمر مائة و أربعين سنة و حواسه جيدة
و فيها انقطع الحج من بغداد إلى سنة سبع و عشرين
و في سنة ثلاث و عشرين تمكن الراضي بالله و قلد ابنيه أبا الفضل و أنا جعفر المشرق و المغرب
و فيها كانت واقعة ابن شنبوذ المشهورة و استتابته عن القراءة بالشاذ و المحضر الذي كتب عليه و ذلك بحضرة الوزير أبي علي بن مقلة و فيها في جمادى الأولى ريح عظيمة ببغداد و اسودت الدنيا و أظلمت من العصر إلى المغرب
و فيها في ذي القعدة انقضت النجوم سائر الليل انقضاضا عظيما ما رثي مثله
و في سنة أربع و عشرين تغلب محمد بن رائق أمير واسط و نواحيها و حكم على البلاد و بطل أمر الوازرة و الدواوين و تولى هو الجميع و كتابه و صارت الأموال تحمل إليه و بطلت بيوت المال و بقي الراضي معه صورة و ليس من الخلافة إلا الاسم
و في سنة خمس و عشرين اختل الأمر جدا و صارت البلاد بين خارجي قد تغلب عليها أو عامل لا يحمل مالا و صاروا مثل ملوك الطوائف و لم يبق بيد الراضي غير بغداد و السواد مع كون يد ابن رائق عليه و لما ضعف أمر الخلافة في هذه الأزمان و وهت أركان الدولة العباسية و تغلبت القراطمة و المبتدعة على الأقاليم قويت همة صاحب الأندلس الأمير عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني و قال : أنا أولى الناس بالخلافة و تسمى بأمير المؤمنين الناصر لدين اله و استولى على أكثر الأندلس و كانت له الهيبة الزائدة و الجهاد و الغزو و السيرة المحمودة استأصل المتغلبين و فتح سبعين حصنا فصار المسمون بأمير المؤمنين في الدنيا ثلاثة : العباسي ببغداد و هذا بالأندلس و المهدي بالقيروان
و في سنة ست و عشرين خرج بحكم على ابن رائق فظهر عليه و اختفى ابن رائق فدخل بحكم بغداد فأكرمه الراضي و رفع منزلته و لقبه أمير الأمراء و قلده إمارة بغداد و خراسان
و في سنة سبع و عشرين كتب أبو علي عمر بن يحيى العلوي إلى القرمطي و كان يحبه أن يطلق طريق الحاج و يعطيه عن كل جمل خمسة دنانير فأذن و حج الناس و هي أول سنة أخذ فيها المكس من الحجاج
و في سنة ثمان و عشرين بغداد غرقا عظيما حتى بلغت زيادة الماء تسعة عشر ذراعا و غرق الناس و البهائم و انهدمت الدور
و في سنة تسع اعتل الراضي و مات في شهر ربيع الآخر و له إحدى و ثلاثون سنة و نصف و كان سمحا كريما أديبا شاعرا فصيحا محبا للعلماء و له شعر مدون و سمع الحديث من البغوي و غيره
قال الخطيب : للراضي فضائل : منها آخر خليفة له شعر مدون و آخر خليفة خطب يوم الجمعة و آخر خليفة جالس الندماء و كانت جوائزه و أموره على ترتيب المتقدمين و آخر خليفة سافر بزي القدماء و من شعره :
( كل صفو إلى كدر ... كل أمر إلى حذر )
( و مصير الشباب للـ ... موت فيه أو الكدر )
( در در المشيب من ... واعظ ينذر البشر )
( أيها الآمل الذي ... تاه في لجه الغرر )
( أين من كان قبلنا ؟ ... ذهب الشخص و الأثر )
( رب فاغفر خطيئتي ... أنت يا خير من غفر )
ذكر أبو الحسن بن زرقويه عن إسماعيل الخطبي قال : وجه إلي الراضي ليلة الفطر فجئت إليه فقال : يا إسماعيل قد عزمت في غد على الصلاة بالناس فما الذي أقول إذا انتهيت إلى لنفسي ؟ فأطرقت ساعة ثم قلت : قل يا أمير المؤمنين { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } الآية فقال لي : حسبك ثم تبعني خادم فأعطاني أربعمائة دينار
مات في أيامه من الأعلام : نفطويه و ابن مجاهد المقرئ و ابن كاس الحنفي و ابن أبي حاتم و مبرمان و ابن عبد ربه صاحب العقد و الإصطخري شيخ الشافعية و ابن شنبوذ و أبو بكر الأنباري
● [ المتقي بالله ] ●
329 هـ ـ 333 هـالمتقي لله : أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل
بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الراضي و هو ابن أربع و ثلاثين سنة و أمه أمة اسمها خلوب و قيل : زهرة و لم يغير شيئا قط و لا تسرى على جاريته التي كانت له و كان كثير الصوم و التعبد و لم يشرب نبيذا قط و كان يقول : لا أريد نديما غير المصحف و لم يكن سوى له الاسم و التدبير لأبي عبد الله أحمد بن علي الكوفي كاتب بجكم
و في هذه السنة من ولايته سقطت القبة الخضراء بمدينة المنصورة و كانت تاج بغداد و مأثرة بني العباس و هي من بناء المنصور ارتفاعها ثمانون ذراعا و تحتها إيوان طوله عشرون ذراعا في عشرين ذراعا و عليها تمثال فارس بيده رمح فإذا استقبل بوجهه جهة علم أن خارجيا يظهر من تلك الجهة فسقط رأس هذه القبة في ليلة ذات مطر و رعد
و في هذه السنة قتل بحكم التركي فولي إمرة الأمراء مكانه كورتكين الديلمي و أخذ المتقي حواصل بحكم التي كانت ببغداد و هي زيادة على ألف ألف دينار
ثم في هذا العام ظهر ابن رائق فقاتل كورتكين ببغداد فهزم كورتكين و اختفى و ولي ابن رائق إمرة الأمراء مكانه
و في سنة كان الغلاء ببغداد فبلغ كر الحنطة ثلاثمائة و ست عشر دينارا و اشتد القحط و أكلوا الميتات و كان قحطا لم ير ببغداد مثله أبدا
و فيها خرج أبو الحسن علي بن محمد اليزيدي فخرج لقتاله الخليفة و ابن رائق فهزما و هربا إلى الموصل و نهبت بغداد و دار الخلافة فلما وصل الخليفة إلى تكريت وجد هناك سيف الدولة أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان أخاه الحسن و قتل ابن رائق غلية فولى الخليفة مكانه الحسن بن حمدان و لقبه [ ناصر الدولة ] و خلع على أخيه و لقبه [ سيف الدولة ] و عاد إلى بغداد و هما معه فهرب اليزيدي إلى واسط ثم ورد الخبر في ذي القعدة أن اليزيدي يريد بغداد فاضطرب الناس و هرب وجوه أهل بغداد و خرج الخليفة ليكون مع ناصر الدولة و سار سيف الدولة لقتال اليزيدي فكانت بينهما وقعة هائلة بقرب المدائن و هزم اليزيدي فعاد بالويل إلى واسط فساق سيف الدولة إلى واسط فانهزم اليزيدي إلى البصرة
و في سنة إحدى و ثلاثين وصلت الروم إلى أرزن و ميافارقين و نصيبين فقتلوا و سبوا ثم طلبوا منديلا في كنيسة الرها يزعمون أن المسيح مسح به وجهه فارتسمت صورته فيه على أنهم يطلقون جميع من سبوا فأرسل إليهم و أطلقوا الأسرى
و فيها هاج الأمراء بواسط على سيف الدولة فهرب في البريد يريد بغداد ثم سار إلى الموصل أخوه ناصر الدولة خائفا لهرب أخيه و سار من واسط تورون فقصد بغداد و قد هرب منه سيف الدولة إلى الموصل فدخل تورون بغداد في رمضان فخاع عليه المتقي و ولاه أمير الأمراء ثم وقعت الوحشة بين المتقي و تورون أبا جعفر بن شيرزاد من واسط إلى بغداد فحكم عليها و أمر و نهي فكاتب المتقي ابن حمدان بالقدوم عليه فقدم في جيش عظيم و استتر ابن شيرزاد في سار المتقي بأهله إلى تكريت و خرج ناصر الدولة بجيش كثير من الأعراب و الأكراد إلى قتال تورون فالتقيا بعكبرا فانهزم ابن حمدان و الخليفة إلى نصيبين فكتب الخليفة إلى الأخشد صاحب مصر أن يحضر إليه ثم بان له من بني حمدان الملل و الضجر فراسل الخليفة تورون في الصلح فأجاب و بالغ في الأيمان ثم حضر الأخشيد إلى المتقي و هو بالرقة و قد بلغه مصالحه تورون فقال : يا أمير المؤمنين أنا عبدك و ابن عبدك و قد عرفت الأتراك و فجورهم و غدرهم فالله في نفسك سر معي إلى مصر فهي لك و تأمن على نفسك فلم يقبل فرجع الأخشيد إلى بلاده و خرج المتقي من الرقة إلى بغداد في رابع المحرم سنة ثلاث و ثلاثين و خرج للقائه تورون فالتقيا بين الأنبار و هيت فترجل تورون و قبل الأرض فأمره المتقي بالركوب فلم يفعل و مشى بين يديه إلى المخيم الذي ضربه له فلما نزل قبض عليه و على ابن مقلة و من معه ثم كحل الخليفة و أدخل بغداد مسمول العينين و قد أخذ منه الخاتم و البردة و القضيب و أحضر تورون عبد الله بن المكتفي و بايعه بالخلافة و لقب المستكفي بالله ثم بايعه المتقي المسمول و أشهد على نفسه بالخلع مع ذلك لعشر بقين من الحرم ـ و قيل : من صفر ـ و لما كحل قال القاهر :
( صرت و إبراهيم شيخي عمى ... لا بد للشيخين من مصدر )
( ما دام تورون له إمرة ... مطاعة فالميل في المجمر )
و لم يحل الحول على تورون حتى مات و أما المتقي فإنه أخرج إلى جزيرة مقابلة للسندية فسجن بها فأقام بالسجن خمسا و عشرين سنة إلى أن مات في شعبان سنة سبع و خمسين
و في أيام المتقي كان ابن حمدي اللص ضمنه ابن شيرزاد لما تغلب على بغداد اللصوصية بها بخمسة و عشرين ألف دينار في الشهر فكان يكبس بيوت الناس بالمشعل و الشمع و يأخذ الأموال و كان اسكورج الديلمي قد ولي شرطة بغداد فأخذ و وسطه و ذلك سنة ثنتين و ثلاثين
مات في أيام المتقي من الأعلام : أبو يعقوب النهرجوري أحد أصحاب الجنيد و القاضي أبو عبد الله المحاملي و أبو بكر الفرغاني الصوفي و الحافظ أبو العباس بن عقدة و ابن ولاد النحوي و آخرون
و لما بلغ القاهر أنه سمل قال : صرنا اثنين نحتاج إلى ثالث فكان كذلك شمل المستكفي
● [ المستكفي بالله ] ●
333 هـ ـ 334 هـالمستكفي بالله : أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بن المعتضد أمه أم ولد اسمها أملح الناس بويع له بالخلافة عند خلع المتقي في صفر سنة ثلاث و ثلاثين و عمره إحدى و أربعون سنة و مات تورون في أيامه و معه كاتبه أبو جعفر بن شيرزاد فطمع في المملكة و حلف العساكر لنفسه فخلع عليه الخليفة ثم دخل أحمد بن بويه بغداد فاختفى ابن شيرزاد و دخل ابن بويه دار الخلافة فوقف بين يدي الخليفة فخلع عليه و لقبه [ معز الدولة ] و لقب أخاه عليا [ عماد الدولة ] و أخاهما الحسن [ ركن الدولة ] و ضرب ألقابها على السكة و لقب المستكفي نفسه [ إمام الحق ] و ضرب ذلك على السكة ثم إن معز الدولة قوي أمره و حجر على الخليفة و قدر له كل يوم برسم النفقة خمسة آلاف درهم فقط و هو أول من ملك العراق من الديلم و أول من أظهر السعاة ببغداد و أغرى المصارعين و السباحين فانهمك شباب بغداد في تعلم المصارعة و السباحة حتى صار السباح يسبح و على يده كانون و فوقه قدرة فيسبح حتى ينضج اللحم
ثم أن معز الدولة تخيل من المستكفي فدخل عليه في جمادى الآخرة سنة أربع و ثلاثين فوقف ـ و الناس و وقوف على مراتبهم ـ فتقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة فمد يديه إليها ظنا أنهما يريدان تقبيلهما فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض و جراه بعمامته و هاجم الديلم دار الخلافة إلى الحرم و نهبوها فلم يبق فيها شيء و مضى معز الدولة إلى منزله و ساقوا المستكفي ماشيا إليه و خلع و سملت عيناه يومئذ و كانت خلافته سنة و أربعة أشهر و أحضروا الفضل بن المقتدر و بايعوه ثم قدموا ابن عمه المستكفي فسلم عليه بالخلافة و أشهد على نفسه بالخلع ثم سجن إلى أن مات سنة ثمان و ثلاثين و ثلاثمائة و له ست و أربعون سنة و شهران و كان يتظاهر بالتشيع
319هـ ـ 322هـ
322هـ ـ 329 هـ
329 هـ ـ 333 هـ
333 هـ ـ 334 هـ