منتدى نافذة ثقافية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    صيد الخاطر [ 3 ]

    بص وطل
    بص وطل
    Admin


    عدد المساهمات : 2283
    تاريخ التسجيل : 29/04/2014

    صيد الخاطر [ 3 ] Empty صيد الخاطر [ 3 ]

    مُساهمة من طرف بص وطل الأربعاء يناير 19, 2022 9:07 pm

    صيد الخاطر [ 3 ] Eslam_12

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الثقافة الإسلامية
    صيد الخاطر
    صيد الخاطر [ 3 ] 1410
    ● [ فصل ] ●
    علة الإبطاء في الإجابة

    رأيت من البلاء العجاب. أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة، ولا يرى أثراً للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي احتاج إلى الصبر.
    وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.
    ولقد عرض لي من هذا الجنس. فإنه نزلت بي نازلة. فدعوت وبالغت، فلم أر الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده.
    فتارة يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب ؟.
    فقلت: إخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلاً.
    ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة.
    قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة.
    فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
    والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب، من أشياء تؤذي في الظاهر بقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
    والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي " .
    والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه.
    فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود، كما روي عن أبي يزيد رضي الله عنه: أنه نزل بعض الأعاجم في داره، فجاء، فرآه فوقف بباب الدار، وأمر بعض أصحابه فدخل، فقلع طيناً جديداً قد طينه، فقام الأعجمي وخرج.
    فسئل أبو يزيد عن ذلك فقال: هذا الطين من وجه فيه شبهة، فلما زالت الشبهة زال صاحبها.
    وعن إبراهيم الخواص رحمة الله عليه أنه خرج لإنكار منكر، فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي، فعاد ودخل المسجد، وصلى ثم خرج، فبصبص الكلب له فمضى، وأنكر فزال المنكر.
    فسئل عن تلك الحال فقال: كان عندي منكر، فمنعني الكلب، فلما عدت تبت من ذلك، فكان ما رأيتم.
    والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح.
    وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أسرت، وإن أسرت تنصرت.
    والسادس: أنه ربما كان فقد ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ، وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول.
    وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ.
    فالحق عز وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طي البلاء.
    وإنما البلاء المحض، ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه، ففيه جمالك.
    وقد حكي عن يحيى البكاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام، فقال: يا رب كم أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يا يحيى إني أحب أن أسمع صوتك.
    وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك، من حصول ما فاتك من رفع خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب.
    ● [ فصل ] ●
    علاج البلايا
    من نزلت به بلية، فأراد تمحيقها، فليتصورها أكثر مما هي تهن.
    وليتخيل ثوابها وليتوهم نزول أعظم منها، ير الربح في الاقتصار عليها.
    وليتلمح سرعة زوالها، فإنه لولا كرب الشدة، ما رجيت ساعات الراحة.
    وليعلم أن مدة مقامها عنده، كمدة مقام الضيف يتفقد حوائجه في كل لحظة، فيا سرعة انقضاء مقامه، ويا لذة مدائحه وبشره في المحافل، ووصف المضيف بالكرم.
    فكذلك المؤمن في الشدة، ينبغي أن يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح، مخافة أن يبدو من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط، فكأن قد لاح فجر الأجر، فانجاب ليل البلاء، ومدح الساري بقطع الدجى، فما طلعت شمس الجزاء، إلا وقد وصل إلى منزل السلامة.
    ● [ فصل ] ●
    خطر العلم مع قلة العمل
    لما رأيت نفسي في العلم حسناً، فهي تقدمه على كل شيء وتعتقد الدليل، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، وتقول: أقوى دليل لي على فضله على النوافل. أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم، قد عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول، فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة السليمة والرأي الصحيح.
    إلا أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم، فصحت بها فما الذي أفادك العلم ؟. أين الخوف؟ أين القلق ؟ أين الحذر ؟.
    أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم ؟.
    أما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم إنه قام حتى ورمت قدماه ؟.
    أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج، كثير البكاء ؟.
    أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع ؟.
    أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة ؟.
    أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ؟.
    ويقول: يا دنيا غري غيري ؟.
    أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق ؟.
    أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة ؟.
    أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر ؟.
    أما قالت ابنة الربيع بن خيثم له ؟: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام ؟. فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات.
    أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطاً في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر ؟.
    أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة ؟ وكان يقول: والفاه سبقني العابدون، وقطع بي.
    أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة ؟.
    أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف ؟.
    أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف ؟ أما تعلمين أخيار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم، أو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
    احذري من الإخلاد إلى صورة العلم، مع ترك العمل به، فإنها حالة الكسالى الزمنى:
    وخذ لك منك على مهلة ... ومقبل عيشك لم يدبر
    وخف هجمة لا تقيل العثا ... ر وتطوي الورود على المصدر
    ومثّل لنفسك أي الرعي ... ل يضمك في حلبة المحشر
    ● [ فصل ] ●
    زهاد جهلة
    مما يزيد العلم عندي فضلاً، أن قوماً تشاغلوا بالتعبد عن العلم، فوقفوا عن الوصول إلى حقائق الطلب.
    فروي عن بعض القدماء أنه قال لرجل: يا أبا الوليد، إن كنت أبا الوليد، يتورع أن يكنيه ولا ولد له !!.
    ولو أوغل هذا في العلم لعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: كنى صهيباً أبا يحيى، وكنى طفلاً فقال: يا أبا عمير، ما فعل النغير ؟.
    وقال بعض المتزهدين: قيل لي يوماً: كل من هذا اللبن. فقلت: هذا يضرني، ثم وقفت بعد مدة عند الكعبة فقلت: اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين، فهتف بي هاتف، ولا يوم اللبن؟.
    وهذا لو صح جاز أن يكون تأديباً له، لئلا يقف مع الأسباب ناسياً للمسبب وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: " ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى الآن قطعت أبهري. وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر " .
    ومن المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها، وهذا جهل بالعلم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل الغار، وشاور الطبيب، ولبس الدرع، وحفر الخندق، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافراً، وقال لسعد: لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
    فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط، والعمل على الأسباب مع تعلق القلب بالمسبب هو المشروع.
    وكل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم.
    ولقد ضل من مشى في ظلمة الجهل أو في زقاق الهوى.
    ● [ فصل ] ●
    شرف البشر
    ما أزال أتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء والأولياء، فإن كان التفضيل بالصور، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة.
    وإن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها، فالصورة ليست الآدمي، إنما هي قالب. ثم قد استحسن منها ما يستقبح في العادة، مثل خلوف فم الصائم، ودم الشهداء، والنوم في الصلاة، فبقيت صورة معمورة، وصار الحكم للمعنى.
    ألهم مرتبة يحبهم، أو فضيلة يباهي بهم. وكيف دار الأمر فقد سجدوا لنا. وهو صريح في تفضيلنا عليهم، فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة، يوم " لاَ عِلْمَ لَنَا " ، " يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ " .
    وإن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس، وعلينا أثقال أعباء الجسم.
    بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها، ويرفق في السير بها لطرق أرض مني قبل العشر.
    واعجبا أتفضل الملائكة بكثرة التعبد ! فما ثم صاد.
    أو يتعجب من الماء إذا جرى، أو من منحدر يسرع، إنما العجب من مصاعد يشق الطريق ويغالب العقبات ؟.
    بلى قد يتصور منهم الخلاف، ودعوى الإلهية. لقدرتهم على دك الصخور، وشق الأرض لذلك توعدوا: " وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ " لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه.
    فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية وضعف يقيننا بالناهي، وغلبة شهوتنا مع الغفلة. يحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم.
    تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به، ما قدر على التماسك.
    يصبح أحدنا وخطاب الشرع يقول له: الكسب لعائلتك، واحذر في كسبك. وقد تمكن منه ما ليس من فعله، كحب الأهل، وعلوق الولد بنياط القلب، واحتياج بدنه إلى ما لا بد منه.
    فتارة يقال للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرة فؤادك بكفك، ثم قم إلى المنجنيق لترمى في النار.
    وتارة يقال لموسى عليه السلام: صم شهراً، ليلاً ونهاراً.
    ثم يقال للغضبان: اكظم، وللبصير أغضض، ولذي المقول اصمت، ولمستلذ النوم تهجد، ولمن مات حبيبه اصبر، ولمن أصيب في بدنه أشكر، وللواقف في الجهاد بين الغمرات: لا يحل أن تفر. ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات فينزع الروح عن البدن، فإذا نزل فاثبت. واعلم أنك ممزق في القبر فلا تتسخط لأنه مما يجري به القدر. وإن وقع بك مرض فلا تشك إلى الخلق.
    فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء ؟ وهل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها مقاومة طبع، ولا رد هوى ؟. وهل هي إلا عبادة صورية بين ركوع وسجود وتسبيح ؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ؟ ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة علينا، ودافعين عنا، ومسخرين لإرسال الريح والمطر، وأكبر وظائفهم الاستغفار لنا. فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة.
    وإذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روي عن هاروت، وماروت، خرجوا أقبح من بهرج.
    ولا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير، لأنهم شديدو الإشفاق والخوف، لعلمهم بعظمة الخالق. لكن طمأنينة من لم يخطىء تقوي نفسه. وانزعاج الغائص في الزلل يرقى روحه إلى التراقي ؟.
    فاعرفوا إخواني شرف أقداركم، وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب فأنتم معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
    ● [ فصل ] ●
    السلامة في كتاب الله
    رأيت كثيراً من الخلق وعالماً من العلماء، لا ينتهون عن البحث عن أصول الأشياء التي أمر بعلم جلها من غير بحث عن حقائقها، كالروح مثلاً، فإن الله تعالى سترها بقوله: " قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي " فلم يقنعوا، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها ولا يقعون بشيء، ولا يثبت لأحد منهم برهان على ما يدعيه، وكذلك العقل، فإنه موجود بلا شك، كما أن الروح موجودة بلا شك، كلاهما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته.
    فإن قال قائل: فما السر في كتم هذه الأشياء ؟ قلت: لأن النفس ما تزال تترقى من حالة إلى حالة فلو اطلعت على هذه الأشياء لترقت إلى خالقها، فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه؛ لأنه إذا كان بعض مخلوقاته لا يعلم كنهه، فهو أجل وأعلى.
    ولو قال قائل: ما الصواعق ؟ وما البرق ؟ وما الزلازل ؟.
    قلنا: شيء مزعج، ويكفي.
    والسر في ستر هذا أنه لو كشفت حقائقه خف مقدار تعظيمه.
    ومن تلمح هذا الفصل علم أنه فصل عزيز، فإذا ثبت هذا في المخلوقات فالخالق أجل وأعلى.
    فينبغي أن يوقف في إثباته على دليل وجوده، ثم يستدل على جواز بعثه رسله، ثم تتلقى أوصافه من كتبه ورسله، ولا يزاد على ذلك.
    ولقد بحث خلق كثير عن صفاته بآرائهم فعاد وبال ذلك عليهم.
    وإذا قلنا: إنه موجود، وعلمنا من كلامه أنه سميع، بصير، حي، قادر. كفانا هذا في صفاته، ولا نخوض في شيء آخر.
    وكذلك نقول: متكلم والقرآن كلامه، ولا نتكلف ما فوق ذلك.
    ولم يقل السلف: تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء، ولا قالوا: استوى على العرش بذاته، ولا قالوا: ينزل بذاته، بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة.
    ونقول: لما لم يثبت بالدليل ما لا يجوز عليه.
    وهذه كلمات كالمثال، فقس عليها جميع الصفات، تفز سليماً من تعطيل، متخلصاً من تشبيه.
    ● [ فصل ] ●
    سر وجود الهمل
    رأيت أكثر الخلق في وجودهم كالمعدومين، فمنهم من لا يعرف الخالق، ومنهم من يثبته على مقتضى حسه، ومنهم من لا يفهم المقصود من التكليف.
    وترى المترسمين بالزهد يدأبون في القيام والقعود، ويتركون الشهوات، وينسون ما قد أنسوا به من شهوة الشهرة، وتقبيل الأيادي.
    ولو كلم أحدهم لقال: ألمثلي يقال هذا ؟ ومن فلان الفاسق ؟.
    فهؤلاء لا يفهمون المقصود، وكذلك كثير من العلماء في احتقارهم غيرهم، والتكبر في نفوسهم.
    فتعجبت كيف يصلح هؤلاء لمجاورة الحق، وسكنى الجنة ؟!.
    فرأيت أن الفائدة في وجودهم في الدنيا، تجانس الفائدة في دخولهم الجنة، فإنهم في الدنيا بين معتبر به، يعرف عارف الله سبحانه نعمة الله عليه، بما كشف له مما غطى عن ذاك، ويتم النظام بالاقتداء تصور أولئك.
    فإن العارف لا يتسع وقته لمخالطة من يقف مع الصورة، الزاهد كراعي البهم، والعالم كمؤدب الصبيان، والعارف كملقن الحكمة.
    ولولا نفاط الملك وحارسه. ووقاد أتونه. ما تم عيشه.
    فمن تمام عيش العارف استعمال أولئك بحسبهم، فإذا وصلوا إليه حرر مانعهم، وفيهم من لا يصل إليه، فيكون وجود أولئك كزيادة - لا - في الكلام. هي حشو، وهي موكدة.
    فإن قال قائل: فهب هذا يصح في الدنيا. فكيف في الجنة ؟.
    والجواب: أن الأنس بالجيران مطلوب، ورؤية القاصر من تمام لذة الكامل، ولكل شرب.
    ومن تأمل ما أشرت إليه، كفاه رمز لفظي عن تطويل الشرح.
    ● [ فصل ] ●
    من دروس النشأة
    لما تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي. بتسخير السحاب. وإنزال المطر برفق، والبذر دفين تحت الأرض، كالموتى، قد عفن ينتظر نفخة من صور الحياة فإذا أصابته اهتز خضراً.
    وإذا انقطع عنه الماء، مد يد الطلب يستعطي، وأمال رأسه خاضعاً، ولبس حلل التغير، فهو محتاج إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس، وبرودة الماء، ولطف النسيم، وتربية الأرض فسبحان من أراني - فيما يربيني به - كيف تربيتي في الأصل.
    فيا أيتها النفس التي قد اطلعت على بعض حكمه، قبيح بك - والله - الإقبال على غيره.
    ثم العجب كيف تقبلين على فقير مثلك، ينادي لسان حاله بي مثل ما بك، يا حمام !.
    فارجعي إلى الأصل الأول، واطلبي من المسبب.
    ويا طوبى لك أن عرفتيه، فإن عرفانه ملك الدنيا والآخرة.
    ● [ فصل ] ●
    الخلوة وحلاوة المناجاة
    كنت في بداية الصبوة، قد ألهمت سلوك طريق الزهاد، بإدامة الصوم والصلاة.
    وحببت إلي الخلوة. فكنت أجد قلباً طيباً. وكانت عين بصيرتي قوية الحدة تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات.. ولي نوع أنس، وحلاوة مناجاة !!.
    فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه، فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة.
    ثم استمالني آخر فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه، لخوف الشبهات. وكانت حالتي قريبة.
    ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح، فانعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة.
    وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله.
    فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس، فيتوبون ويصلحون، وأخرج مفلساً فيما بيني وبين حالي.
    وكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طب نفسي، فلجأت إلى قبور الصالحين، وتوسلت في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي إلى الخلوة على كراهة مني، ورد قلبي علي بعد نفور عني، وأراني عيب ما كنت أوثره.
    فأفقت من مرض غفلتي ! وقلت في مناجاة خلوتي: سيدي كيف أقدر على شكرك ؟ وبأي لسان أنطق بمدحك ؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبهتني من رقدتي وأصلحت حالي على كره من طبعي.
    فما أربحني فيما سلب مني إذا كانت ثمرته اللجأ إليك !.
    وما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي على الخلوة بك.
    وما أغناني إذ أفقرتني إليك، وما آنسني إذ أوحشتني من خلقك.
    آه على زمان ضاع في غير خدمتك ! أسفاً لوقت مضى في غير طاعتك.
    قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل.
    وإذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم.
    وما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض.
    فالآن قد هبت نسائم العافية، فأحسست بالألم فاستدللت على الصحة.
    فيا عظيم الإنعام تممم لي العافية.
    آه من سكر لم يعلم قدر عربدته إلا في وقت الإفاقة.
    لقد فتقت ما يصعب رتقه، فواأسفاً على بضاعة ضاعت، وعلى ملاح تعب في موج الشمال مصاعداً مدة، ثم غلبه النوم فرد إلى مكانه الأول.
    يا من يقرأ تحذيري من التخليط فإني - وإن كنت نفسي بالفعل، نصيح لإخواني بالقول - احذروا - إخواني من الترخص فيما لا يؤمن فساده.
    فإن الشيطان يزين المباح، في أول مرتبة. ثم يجر إلي الجناح فتلمحوا المآل، وافهموا الحال.
    وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوع مخالفة، فيكفي الاعتبار في تلك الحال، بأبيكم: " هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى " ؟.
    إنما تأمل آدم الغاية وهي الخلد، ولكنه غلط في الطريق، وهذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء.
    يتأولون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد.
    مثاله أن يقول للعالم أدخل على هذا الظالم فاشفع في مظلوم، فيستعجل الداخل رؤية المنكرات، ويتزلزل دينه.
    وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم.
    فمن لم يتق بدينه فليحذر من المصائد، فإنها خفية.
    وأسلم ما للجبان العزلة، خصوصاً في زمان قد مات فيه المعروف، وعاش المنكر، ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة.
    فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز، ولم يقدر على جذبهم مما هم فيه.
    ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات يراهم منسلخين من نفع العلم قد صاروا كالشرطة.
    فليس إلا العزلة عن الخلق. والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة. ولأن أنفع نفسي وحدي: خير لي من أن أنفع غيري وأتضرر.
    فالحذر الحذر من خوادع التأويلات، وفواسد الفتاوي، والصبر الصبر على ما توجبه العزلة.
    فإنه إن انفردت بمولاك فتح لك باب معرفته. فهان كل صعب، وطاب كل مر، وتيسر كل عسر، وحصلت كل مطلوب.
    والله الموفق بفضله، ولا حول ولا قوة إلا به.
    ● [ فصل ] ●
    مدخل الفساد
    تأملت على نفسي تأويلاً في مباح أنال به شيئاً من الدنيا، إلا أنه في باب الورع كدر.
    فرأيته أولاً قد احتلب در الدين فذهبت حلاوة المعاملة لله تعالى.
    ثم عاد فقلص ضرع حلبي له فوقع الفقد للحالين.
    فقلت لنفسي: ما مثلك إلا كمثل وال ظالم جمع مالاً من غير حله، فصودر. فأخذ منه الذي جمع، وألزم ما لم يجمع.
    فالحذر الحذر من فساد التأويل، فإن الله تعالى لا يخادع، ولا ينال ما عنده بمعصيته.
    ● [ فصل ] ●
    خير الأمور الوسط
    رأيت نفسي كلما صفا فكرهاً، أو اتعظت بدارج، أو زارت قبور الصالحين، تتحرك همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى.
    فقلت لها يوماً، وقد كلمتني في ذلك: حدثيني ما مقصودك ؟ وما نهاية مطلوبك ؟.
    أتراك تريدين مني أن أسكن قفراً لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه.
    وأن آكل الجشب الذي لم أتعوده، فيقع نضوي طلحاً في يومين.
    وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه، فلا أدري من كرب محمولي من أنا ؟.
    وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي مع بقاء القدرة على الطلب.
    بالله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك، وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم.
    اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل.
    وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات، وإنما أعني أخذ البلغة الصالحة للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوي الذهن.
    ألا ترين إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان، وقاس العلماء على ذلك الجوع وما يجري مجراه من كونه حاقناً، أو حاقباً.
    وهل الطبع إلا ككلب يشغله الأكل ؟، فإذا رمي له ما يتشاغل به طاب له الأكل.
    فأما الانفراد والعزلة فعن الشر لا عن الخير.
    ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم.
    هيهات لقد عرفت أن أقواماً دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم، وقوي الخلط السوداوي عليهم، فاستوحشوا من الناس، ومنهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من أمداد اللطف، وإذا به من سوء الهضم.
    وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة.
    فالله الله في العلم، والله الله في العقل، فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه.
    فإذا حفظا حفظاً وظائف الزمان، ودفعا ما يؤذي، وجلبا ما يصلح، وصارت القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة.
    فقالت لي النفس: فوظف لي وظيفة واحسبني مريضاً قد كتبت له شربة.
    فقلت لها: قد دللتك على العلم وهو طبيب ملازم. يصف كل لحظة لكل داء يعرض دواء يلائم.
    وفي الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر، وجميع الجوارح، وتحقق الحلال في المطعم، وإيداع كل لحظة ما يصلح لها من الخير، ومناهبة الزمان في الأفضل، ومجانبة ما يؤدي إلى من نقص ربح أو وقوع خسران.
    ولا تعملي عملاً إلا بعد تقديم النية.
    وتأهبي لمزعج الموت فكأن قد، وما عندك من مجيئه في أي وقت يكون.
    ولا تتعرضي لمصالح البدن، بل وفريها عليه وناوليه إياها على قانون الصواب، لا على مقضى الهوى، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين.
    ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم، من قول النفس فلان يأكل الخل والبقل، وفلان لا ينام الليل، فاحملي ما تطيقين، وما قد علمت قوة البدن عليه.
    فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن نفسها، فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت وإن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ولو قتلت.
    وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة، ولقد حمل أقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضاً قطعتهم عن خير، وتسخطت قلوبهم بوقوعها، فعليك بالعلم. فإنه شفاء من كل داء، والله الموفق.
    ● [ فصل ] ●
    سلفيون جهال
    عجبت من أقوام يدعون العلم، ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها، فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا، لأن من أمر ما جاء ومر من غير اعتراض ولا تعرض فما قال شيئاً لا له ولا عليه.
    ولكن أقواماً قصرت علومهم، فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل، ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا.
    وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحته الخنساء فقالت:
    إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
    شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة شفاها
    فلما أتمت القصيدة، قال: لكاتبه إقطع لسانها، فجاء ذاك الكاتب المغفل بالموسى.
    فقالت له: ويلك إنما قال أجزل لها العطاء.
    ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت: كاد والله يقطع مقولي.
    فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم، فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد، لم ألمه، وهذه طريقة السلف.
    فأما من قال: الحديث يقتضي كذا، ويحمل على كذا، مثل أن يقول: استولى على العرش بذاته، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته فهذه زيادة فهمها قائلها من الحس لا من النقل.
    ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له ابن عبد البر، صنف كتاب التمهيد، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على العرش. لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى.
    وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام. فقاس صفة الحق عليه.
    فأين هؤلاء وأتباع الأثر ؟.
    ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين.
    واعلم أيها الطالب للرشاد، أنه سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان. عليهما مر الأحاديث كلها.
    أما النقل فقوله سبحانه وتعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " . ومن فهم هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس.
    وأما العقل فإنه قد علم مباينة الصانع للمصنوعات، واستدل على حدوثها بتغيرها، ودخول الانفعال عليها، فثبت له قدم الصانع.
    وا عجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام ؟.
    أوليس في الحديث الصحيح أن الموت يذبح بين الجنة والنار.
    أوليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته. لما ثبت عند من يفهم ماهية الموت؟.
    فقال: الموت عرض يوجب بطلان الحياة. فكيف يمات الموت ؟.
    فإذا قيل له فما تصنع بالحديث ؟.
    قال: هذا ضرب مثل بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى.
    قلنا له: فقد روي في الصحيح: تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان.
    فقال الكلام لا يكون غمامة، ولا يتشبه بها.
    قلنا له أفتعطل النقل، قال: لا، ولكن أقول يأتي ثوابهما.
    قلنا: فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق.
    فقال: علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام، والموت لا يذبح ذبح الأنعام، ولقد علمتم سعة لغة العرب. ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا.
    فقال العلماء صدقت: هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة، وفي ذبح الموت.
    فقال: واعجبا لكم، صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما، حفظاً لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه، بما قد دل الدليل على تنزيهه عنه؟.
    فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة. ويقول: لا أقطع حتى أقطع، فما قطع حتى قطع.
    ● [ فصل ] ●
    حول دليل الرجم
    تفكرت في السر الذي أوجب حذف آية الرجم من القرآن لفظاً. مع ثبوت حكمها إجماعاً، فوجدت لذلك معنيين.
    أحدهما: لطف الله تعالى بعباده في أنه لا يواجههم بأعظم المشاق. بل ذكر الجلد، وستر الجرم، ومن هذا المعنى قال بعض العلماء: إن الله تعالى قال في المكروهات " كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ " ، على لفظ لم يسم فاعله، وإن كان قد علم أن هو الكاتب.
    فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال: " :كَتَبَ رَبُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " .
    والوجه الثاني: أنه يبين بذلك فضل الأمة في بذلها النفوس قنوعاً ببعض الأدلة.
    فإن الاتفاق لما وقع على ذلك الحكم كان دليلاً. إلا أنه ليس كالدليل المقطوع بنصه.
    ومن هذا الجنس شروع الخليل عليه الصلاة والسلام، في ذبح ولده بمنام، وإن كان الوحي في اليقظة آكد.
    ● [ فصل ] ●
    قوانين الأسباب والمسببات
    عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده، عالماً بأنه لا يقدر على جلب نفعي ودفع ضري سواه.
    ثم قمت أتعرض بالأسباب، فأنكر على يقيني، وقال: هذا قدح في التوكل.
    فقلت: ليس كذلك، فإن الله تعالى وضعها من الحكم.
    وكان معنى حالي أن ما وضعت لا يفيد وإن وجوده كالعدم.
    وما زالت الأسباب في الشرع كقوله تعالى: " وَإذَا كُنْتَ فِيِهمْ فَأَقَمْتَ لَهْمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ " .
    وقال تعالى: " فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ " .
    وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، وشاور طبيبين، ولما خرج إلى الطائف لم يقدر على دخول مكة، حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال: أدخل في جوارك.
    وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلاً بلا سبب.
    فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب، كان إعراضي عن الأسباب دفعاً للحكمة.
    ولهذا أرى أن التداوي مندوب إليه، وقد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء فتداووا.
    ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجباً، أو ندباً.
    ولم يسبقه حظر، فيقال: هو أمر إباحة.
    وكانت عائشة رضي الله عنه تقول: تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينعت له.
    وقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كل من هذا فإنه أوفق لك من هذا.
    ومن ذهب إلى أن تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: يدخل الجنة سبعون ألفاً بلا حساب. ثم وصفهم فقال: لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
    وهذا لا ينافي التداوي، لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا ويسترقون لئلا تصيبهم نكبة، وقد كوى عليه الصلاة والسلام سعد بن زرارة، ورخص في الرقية في الحديث الصحيح. فعلمنا أن المراد ما أشرنا إليه.
    وإذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع، رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي، وشرب ماء التمر عندي أوفق، وهذا طب.
    فإذا لم أشرب ما يوافقني، ثم قلت اللهم عافني، قالت لي الحكمة: أما سمعت أعقلها وتوكل ؟ إشرب وقل عافني، ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من تراب، تكاسل أن يرفعه بيده، ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء.
    وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجريد، وإنما سافر على التجريد لأنه يجرب بربه عز وجل هل يرزقه أو لا، وقد تقدم الأمر إليه: " وَتَزَوَّدُوا " فقال: لا أتزود، فهذا هالك قبل أن يهلكه.
    ولو جاء وقت صلاة وليس معه ماء، ليم على تفريطه، وقيل له: هلا استصحبت الماء قبل المفازة.
    فالحذر الحذر من أفعال أقوام فمرقوا عن الأوضاع الدينية، وظنوا أن كمال الدين بالخروج عن الطباع، والمخالفة للأوضاع.
    ولولا قوة العلم والرسوخ فيه، لما قدرت على شرح هذا ولا عرفته، فافهم ما أشرت إليه، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها، وكن مع أهل المعاني لا مع أهل الحشو.
    ● [ فصل ] ●
    النظافة والجمال
    تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال أبدانهم، فمنهم من لا ينظف فمه بالخلال بعد الأكل.
    ومنهم من لا ينقي يديه في غسلها من الزهم، ومنهم من لا يكاد يستاك، وفيهم من لا يكتحل، وفيهم من لا يراعي الإبط إلى غير ذلك، فيعود هذا الإهمال بالخلل في الدين والدنيا.
    أما الدين إنه قد أمر المؤمن بالتنظف والاغتسال للجمعة لأجل اجتماعه بالناس، ونهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم، وأمر الشرع بتنقية البراجم، وقص الأظفار، والسواك، والاستحداد. وغير ذلك من الآداب.
    فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشرع، وربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة، مثل أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل.
    وأما الدنيا فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم، يتقدمون إلى السرار.
    والغفلة التي أوجبت إهمالهم أنفسهم، أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم.
    فإذ أخذوا في مناجاة السر، لم يمكن أن أصدف عنهم، لأنهم يقصدون السر، فألقى الشدائد من ريح أفواههم.
    ولعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر أصبعه على أسنانه.
    ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة، وقد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل، فيثمر ذلك التفاتها عنه.
    وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي.
    وفي الناس من يقول: هذا تصنع.
    وليس بشيء، فإن الله تعالى: " زيَّنَنَا لَمّا خَلَقَنَا " . لأن العين حظاً في النظر.
    ومن تأمل أهداب العين والحاجبين. وحسن ترتيب الخلقة، علم أن الله زين الآدمي.
    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه، وكان ساقه ربما انكشفت فكأنها جمارة.
    وكان لا يفارقه السواك، وكان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة.
    وفي حديث أنس الصحيح: ما شانه الله بيضاء.
    وقد قالت الحكماء: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله.
    وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ما لكم تدخلون علي قلحاً، استاكوا.
    وقد فضلت الصلاة بالسواك، على الصلاة بغير سواك، فالمتنظف ينعم نفسه، ويرفع منها قدرها.
    وقد قال الحكماء: من طال ظفره قصرت يده، ثم إنه يقرب من قلوب الخلق وتحبه النفوس، لنظافته وطيبه.
    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الطيب.
    ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال. فإن النساء شقائق الرجال، فكما أنه يكره الشيء منها فكذلك هي تكرهه، وربما صبر هو على ما يكره وهي لا تصبر.
    وقد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد وهم من أقذر الناس، وذلك أنهم ما قومهم العلم.
    وأما ما يحكى عن داود الطائي: أنه قيل له لو سرحت لحيتك، فقال: إني عنها مشغول، فهذا معتذر عن العمل بالسنة، والإخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه من الآخرة، ولو كان مفيقاً لذلك لم يتركه، فلا يحتج بحال المغلوبين.
    ومن تأمل خصائص الرسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كاملاً في العلم والعمل، فيه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق.
    ● [ فصل ] ●
    اخشوشنوا
    تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر والبرد. فرأيتها تعكس المقصود في باب الحكمة. وإنما تحصل مجرد لذة ولا خير في لذة تعقب ألماً.
    فأما في الحر فإنهم يشربون الماء المثلوج. وذلك على غاية في الضرر، وأهل الطب يقولون: إنه يحدث أمراضاً صعبة يظهر أثرها في وقت الشيخوخة ويضعون الخيوش المضاعفة الرقيق الشفاف وفي البرد يصنعون اللبود المانعة للبرد.
    وهذا من حيث الحكمة مضاد ما وضعه الله تعالى. فإنه جعل الحر لتحلل الأخلاط، والبرد لجمودها، فيجعلون هم جميع السنة ربيعاً، فتنعكس الحكمة التي وضع الحر والبرد لها، ويرجع الأذى على الأبدان.
    ولا يظن سامع هذا أني آمره بملاقاة الحر والبرد.
    وإنما أقول له: لا يفرط في التوقي، بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض الأخلاط، إلى حد لا يؤثر في القوة. وفي البرد بأن يصيبك منه الأمر القريب لا المؤذي، فإن الحر والبرد لمصالح البدن.
    وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد أصلاً فتغيرت حالته فمات عاجلاً، وقد ذكرت قصته في كتاب لقط المنافع في علم الطب.
    ● [ فصل ] ●
    فلسفة الصبر والرضا
    ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا فيه أفضل من الرضى به.
    فأما الصبر: فهو فرض. وأما الرضا فهو فضل.
    وإنما صعب الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر.
    فمن ذلك أنك إذا رأيت مغموراً بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال، فهو يصوغه أواني يستعملها.
    ومعلوم أن البلور والعقيق والشبه، قد يكون أحسن منها صورة، غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه.
    ويلبس الحرير، ويظلم الناس، والدنيا منصبة عليه.
    ثم يرى خلقاً من أهل الدين، وطلاب العلم، مغمورين بالفقر والبلاء، مقهورين تحت ولاية ذلك الظالم.
    فحينئذ يجد الشيطان طريقاً للوسواس ويبتدي بالقدح في حكمة القدر.
    فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا، وعلى جدال إبليس في ذلك.
    وكذلك في تسليط الكفار على المسلمين والفساق على أهل الدين.
    وأبلغ من هذا إيلام الحيوان، وتعذيب الأطفال، ففي مثل هذه المواطن يتمحص الإيمان.
    ومما يقوي الصبر على الحالتين النقل والعقل.
    أما النقل فالقرآن والسنة، أما القرآن فمنقسم إلى قسمين، أحدهما بيان سبب إعطاء الكافر والعاصي، فمن ذلك قوله تعالى: " إِنَّمَا نُملي لهمْ ليزْدَادُوا إثماً " . " وَلَوْلاَ أَنْ يَكونَ الناسُ أمة واحة لجَعْلنا لمنْ يكفُرُ بالرَّحمن لبُيوتهم سقفاً مِنْ فِضَّةٍ " ، " وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيْهَا فَفَسَقُوا فِيهَا " . وفي القرآن من هذا كثير.
    والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى: " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمُ " ، " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأسَاءُ وَالضَّرّ؟َاءُ وَزُلْزِلُوا " ، " أًمْ حَسِبْتُمُ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ " وفي القرآن من هذا كثير.
    وأما السنة فمنقسمة إلى قول وحال. أما الحال: فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: كسرى وقيصر في الحرير والديباج، فقال له صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا عمر ؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟.
    وأما القول فكقوله عليه الصلاة والسلام: لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
    وأما العقل: فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها أن يقول: قد ثبتت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر. فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللاً.
    ومنها أن يقول: ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى، وما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى، لأن ذلك البسط يوجب عقاباً طويلاً، وهذا القبض يؤثر انبساطاً في الأجر جزيلاً، فزمان الرجلين ينقضي عن قريب. والمراحل تطوى. والركبان في السير الحثيث.
    ومنها أن يقول: قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف كبياض نهار، ولا ينبغي للمستعمل في الطين إن يلبس نظيف الثياب، بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ تنظف ولبس أجود ثيابه. فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة وعوقب على التواني فيما كلف، فهذه النبذة تقوي أزر الصبر.
    وأزيدها بسطاً فأقول: أترى إذا أريد اتخاذ شهداء، فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين، أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة ؟ وبعلي إلا مثل ابن ملجم: أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر، ولو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا.. لرأيت المسبب لا الأسباب، والمقدر لا الأقدار، فصبرت على بلائه. إيثاراً لما يريد، ومن ههنا ينشأ الرضى.
    كما قيل لبعض أهل البلاء: ادع الله بالعافية، فقال: أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل.
    إن كان رضاكم في سهري ... فسلام اللّه على وسني
    ● [ فصل ] ●
    الرضا عن الله
    لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم. هتف بي هاتف من باطني. دعني من شرح الصبر على الأقدار، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت.
    وصف حال الرضى. فإني أجد نسيماً من ذكره فيه روح للروح.
    فقلت: أيها الهاتف اسمع الجواب. وافهم الصواب.
    إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته رضيت بقضائه، وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي.
    أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة.
    فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار، حلاوة كما قال القائل:
    عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب
    وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب
    حسبي من الحب أني ... لما تحبّ أحبّ
    وقال بعض المحبين في هذا المعنى:
    ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاك
    فصاح بي الهاتف. حدثني بماذا أرضى ؟ قدر أني أرضى في أقداره بالمرض والفقر، أفأرضى بالكسل عن خدمته، والبعد عن أهل محبته ؟ فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضى، مما لا يدخل.
    فقلت له: نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد.
    إرضى بما كان منه. فأما الكسل والتخلف فذاك منسوب إليك، فلا ترضى به من فعلك.
    وكن مستوفياً حقه عليك، مناقشاً نفسك فيما يقربك منه، غير راض منها بالتواني في المجاهدة.
    فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها. فكن راضياً بها كما قالت رابعة رحمة الله عليها - وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل، فقيل: هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا ؟ - فقالت: إن الراضي لا يتخير ومن ذاق طعم المعرفة. وجد فيه طعم المحبة، فوقع الرضى عنده ضرورة.
    فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة.
    فقد قال سبحانه وتعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.
    فذلك الغنى الأكبر... ووافقراه ...
    ● [ فصل ] ●
    تعليل
    رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم في زمن الصبا عن المعاش، فيحتاجون إلى ما لا بد منه، فلا يصلهم من بيت المال شيء، ولا من صلات الإخوان ما يكفي، فيحتاجون إلى التعرض للإذلال، فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين.
    أحدهما: قمع إعجابهم بهذا الإذلال، والثاني: نفع أولئك بثوابهم.
    ثم أمعنت الفكر فتلمحت نكتة لطيفة، وهو أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك. لم تساكنها بالقلب، ونبت عنها بالعزم، ورأت أقرب الأشياء شبهاً بها. مزبلة عليها الكلاب، أو غائطاً يؤتى لضرورة.
    فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار. لم يكن للقلب بها متعلق متمكن فتهون حينئذ.
    ● [ فصل ] ●
    من خلط الزهاد
    ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات. والذي يحملهم على هذا الجهل. فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم.
    وهذا لأن الطباع لا تتساوى، فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو.
    غير أن لنا ضابطاً هو الشرع، فيه الرخصة وفيه العزيمة. فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط.
    ورب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها.
    ولو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة بالله تعالى. فتنبت القلوب من خوفه، وتنحل الأجسام للحذر منه فوجب التلطف حفظاً لقوة الراحلة.
    ولأن آلة العلم والحفظ. القلب والفكر، فإذا رفهت الآلة جاد العمل، وهذا أمر لا يعلم إلا بالعلم.
    فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا. وظنوا أن المراد إتعاب الأبدان، وإنضاء الرواحل، وما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة مقاومة، كما قال القائل. روحوا القلوب تعي الذكر.

    صيد الخاطر [ 3 ] Fasel10

    كتاب : صيد الخاطر
    المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن الجوزي
    منتدى ميراث الرسول - البوابة
    صيد الخاطر [ 3 ] E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 9:11 pm