منتدى نافذة ثقافية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    شفاء العليل [ 19 ]

    بص وطل
    بص وطل
    Admin


    عدد المساهمات : 2283
    تاريخ التسجيل : 29/04/2014

    شفاء العليل [ 19 ] Empty شفاء العليل [ 19 ]

    مُساهمة من طرف بص وطل الأحد فبراير 27, 2022 8:23 pm

    شفاء العليل [ 19 ] Eslam_14

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الثقافة الإسلامية
    شفاء العليل في مسائل
    القضاء والقدر والحكمة والتعليل
    شفاء العليل [ 19 ] 1410
    ● [ تابع الباب الحادي والعشرون ] ●
    ● فصل ●

    وأما الأقسام الخمسة الباقية فلا يدخل منها في الوجود إلا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة والأقسام الأربعة لا تدخل في الوجود أما الشر المحض الذي لا خير فيه فذاك ليس له حقيقة بل هو العدم المحض، فإن قيل فإبليس شر محض والكفر والشرك كذلك وقد دخلوا في الوجود فأي خير في إبليس وفي وجود الكفر، قيل في خلق إبليس من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله كما سننبه على بعضه فالله سبحانه لم يخلقه عبثا ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكهم فكم لله في خلقه من حكمة باهرة وحجة قاهرة وآية ظاهرة ونعمة سابغة وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان ففي إيجاد السموم من المصالح والحكم ما هو خير من تفويتها وأما الذي لا خير فيه ولا شر فلا يدخل أيضا في الوجود فإنه عبث فتعالى الله عنه وإذا امتنع وجود هذا القسم في الوجود فدخول ما الشر في إيجاده أغلب من الخير أولى بالامتناع ومن تأمل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالب وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها واللذات أكثر من الآلام والعافية أعظم من البلاء والغرق والحرق والهدم ونحوها وإن كثرت فالسلامة أكثر ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيره غالب لأجل ما يعرض فيه من الشر لفات الخير الغالب وفوات الخير الغالب شر غالب ومثال ذلك النار فإن في وجودها منافع كثيرة وفيها مفاسد لكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبة إلى مصالحها وكذلك المطر والرياح والحر والبرد وبالجملة فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها ولكن خيرها غالب وأما العالم العلوي فبريء من ذلك، فإن قيل فهلا خلق الخلاق الحكيم هذه خالية من الشر بحيث تكون خيرات محضة فإن قلتم اقتضت الحكمة خلق هذا العالم ممتزجا فيه اللذة بالألم والخير بالشر فقد كان يمكن خلقه على حالة لا يكون فيه شر كالعالم العلوي سلمنا أن وجود ما الخير فيه أغلب من الشر أولى من عدمه فأي خير ومصلحة في وجود رأس الشر كله ومنبعه وقدوة أهله فيه إبليس وأي خير في إبقائه إلى آخر الدهر وأي خير يغلب في نشأة يكون فيها تسعة وتسعون إلى النار وواحد في الجنة وأي خير غالب حصل بإخراج الأبوين من الجنة حتى جرى على الأولاد ما جرى ولو داما في الجنة لارتفع الشر بالكلية وإذا كان قد خلقهم لعبادته فكيف اقتضت حكمته أن صرف إليهم عنا ووفق لها الأقل من الناس وأي خير يغلب في خلق الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي وأي خير في إيلام غير المكلفين كالأطفال والمجانين فإن قلتم فائدته التعويض أنقض عليكم بإيلام البهائم ثم وأي خير في خلق الدجال وتمكينه من الظهور والافتتان به وإذ قد اقتضت الحكمة ذلك فأي خير حصل في تمكينه من إظهار تلك الخوارق والعجائب وأي خير في السحر وما يترتب عليه من المفاسد والمضار وأي خير في إلباس الخلق شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض وأي خير في خلق السموم وذات السموم والحيوانات العادية المؤذية بطبعها وأي خير في خراب هذه البنية بعد خلقها في أحسن تقويم وردها إلى أرذل العمر بعد استقامتها وصلاحها وكذلك خراب هذا الدار ومحو أثرها فإن كان وجود ذلك خيرا غالبا فإبطاله إبطال للخير الغالب دع هذا كله فأي خير راجح أو مرجوح في النار وهي دار الشر الأعظم والبلاء الأكبر ولا خلاص لكم عن هذه الأسئلة إلا بسد باب الحكم والتعليل وإسناد الكون إلى محض المشيئة أو القول بالإيجاب الذاتي وأن الرب لا يفعل باختياره ومشيئته وهذه الأسئلة إنما ترد على من يقول بالفاعل المختار فلهذا لجأ القائلون إلى إنكار التعليل جملة فاختاروا أحد المذهبين وتحيزوا إلى إحدى الفئتين وإلا فكيف تجمعون بين القول بالحكمة والتعليل وبين هذه الأمور فالجواب بعد أن نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر بل في تحقيق هذه الكلمات الجواب الشافي: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ}: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}: {وأحسن كل الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} بل هو في غاية التناسب واقع على أكمل الوجوه وأقربها إلى حصول الغايات المحمودة والحكم المطلوبة فلم يكن تحصل تلك الحكم والغايات التي انفرد الله سبحانه بعلمها على التفصيل وأطلع من شاء من عباده على أيسر اليسير منها إلا بهذه الأسباب والبدايات وقد سأله الملائكة المقربون عن جنس هذه الأسئلة وأصلها فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وأقروا له بكمال العلم والحكمة وأنه في جميع أفعاله على صراط مستقيم وقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ولما ظهر لهم ببعض حكمته فيما سألوا عنه وأنهم لم يكونوا يعلمون قال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.
    ● فصل ●
    ونحن نذكر أصولا مهمة نبين بها جواب هذه الأسئلة وقد اعترف كثير من المتكلمين ممن له نظر في الفلسفة والكلام أنه لا يمكن الجواب عنها إلا بالتزام القول بالموجب بالذات أو القول بإبطال الحكمة والتعليل وأنه سبحانه لا يفعل شيئا لشيء ولا يأمر بشيء لحكمة ولا جعل شيئا من الأشياء سببا لغيره وما ثم إلا مشيئة محضة وقدرة ترجح مثلا على مثل بلا سبب ولا على وأنه لا يقال في فعله لم ولا كيف ولا لأي سبب وحكمة ولا هو معلل بالمصالح قال الرازي في مباحثه: "فإن قيل فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور فنقول لأنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول وذلك مما خرج عنه" يعني كان ذلك هو القسم الذي هو خير محض لا شر فيه قال: "وبقي في الفعل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبا على شره" وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجودا قال وهذا الجواب لا يعجبني لأن لقائل أن يقول أن جميع هذه الخيرات والشرور إنما توجد باختيار الله سبحانه وإرادته فالاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجبا عن النار بل الله اختار خلقه عقيب مماسة النار وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإرادته فكان يمكنه أن يختار خلق الإحراق عندما يكون خيرا ولا يختار خلقه عندما يكون شرا ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه فاعلا بالذات لا بالقصد والاختيار ويرجع حاصل الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار ما شاء كان بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتة فأقر على نفسه أنه لا خلاص له في تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ولا أوجد العالم بعد عدمه ولا يفنيه بعد إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم وليس عنده إلا هذا القول أو قول الجبرية منكري الأسباب والحكم والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل وأوجبوا رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال لمنافاتها العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة: "أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنه القول الوسط الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسول وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون.
    ● فصل ●
    الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه وإحاطته بكل معلوم وأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض بل قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا والخلاف في هذا الأصل مع فرقتين إحداهما أعداء الرسل كلهم وهم الذين ينفون علمه بالجزئيات وحاصل قولهم أنه لا يعلم موجودا البتة فإن كل موجود جزئي معين فإذا لم يعلم الجزئيات لم يكن عالما بشيء من العالم العلوي والسفلي والفرقة الثانية غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم وحكموا بقتلهم الذين يقولون لا يعلم أعمال العباد حتى يعلموها ولم يعلمها قبل ذلك ولا كتبها ولا قدرها فضلا عن أن يكون شاءها وكونها وقول هؤلاء معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين وكتب الله المنزلة وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم مملوءة بتكذيبهم وإبطال قولهم وإثبات عموم علمه الذي لا يشاركه فيه خلقه ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ويعلمهم به وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه لا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها كما قال الخضر لموسى وهما أعلم أهل الأرض حينئذ ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر ويكفي أن ما يتكلم به من علمه لو قدر أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام يكتب به ما يتكلم به مما يعلمه لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم تنفذ كلماته فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته وغناهم إلى غناه وحكمتهم إلى حكمته وإذا كان أعلم الخلق به على الإطلاق يقول: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ويقول في دعاء الاستخارة: "فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب" ويقول سبحانه للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ويقول سبحانه لأعلم الأمم وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ويقول لأهل الكتاب: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} وتقول رسله يوم القيامة حين يسألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس الأمر فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه كما يضمحل ضوء السراج الضعيف في عين الشمس فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القحة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه ويقدح في حكمته ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه وأن يكون الأمر بخلاف ذلك فسبحان الله رب العالمين تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون فسبحان الله كلمة يحاشى الله بها عن كل ما يخالف كماله من سوء ونقص وعيب فهو المنزه التنزيه التام من كل وجه وبكل اعتبار عن كل نقص متوهم وإثبات عموم حمده وكماله وتمامه ينفي ذلك واتصافه بصفات الإلهية التي لا تكون لغيره وكونه أكبر من كل شيء في ذاته وأوصافه وأفعاله ينفي ذلك لمن رسخت معرفته في معنى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وسافر قلبه في منازلها وتلقى معانيها من مشكاة النبوة لا من مشكاة الفلسفة والكلام الباطل وآراء المتكلمين فهذا أصل يجب التمسك به في هذا المقام وأن يعلم أن عقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته، الأصل الثاني: أنه سبحانه حي حقيقة وحياته أكمل الحياة وأتمها وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال ونفي أضدادها من جميع الوجوه ومن لوازم الحياة الفعل الاختياري فإن كل حي فعال وصدور الفعل عن الحي بحسب كمال حياته ونقصها وكل من كانت حياته أكمل من غيره كان فعله أقوى وأكمل وكذلك قدرته ولذلك كان الرب سبحانه على كل شيء قدير وهو فعال لما يريد وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن نعيم بن حماد أنه قال: "الحي هو الفعال" وكل حي فعال فلا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل والشعور وإذا كانت الحياة مستلزمة للفعل وهو الأصل الثالث فالفعل الذي لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختياري الإرادي الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته ومشيئته وما يصدر عن الذات من غير سفير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلا وإن كان أثرا من آثارها ومتولدا عنها كتأثير النار في الإحراق والماء في الإغراق والشمس في الحرارة فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام وليست أفعالا لها وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها فالفعل والعمل من الحي العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته وكون الرب سبحانه حيا فاعلا مختارا مريدا مما اتفقت عليه الرسل والكتب ودل عليه العقل والفطرة وشهدت به الموجودات ناطقها وصامتها جمادها وحيوانها علويها وسفليها فمن أنكر فعل الرب الواقع بمشيئته واختياره وفعله فقد جحد ربه وفاطره وأنكر أن يكون للعامل رب، الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء فقد جعل سبحانه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه بل الموجودات كلها أسباب ومسببات والشرع كله أسباب ومسببات والمقادير أسباب ومسببات والقدر جار عليها متصرف فيها فالأسباب محل الشرع والقدر والقرآن مملوء من إثبات الأسباب كقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}: {جَزَاءً وِفَاقاً}: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وقوله: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} الآية وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} وكل موضع رتب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببا له كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} وهذا أكثر من أن يستوعب وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء وهو أكثر من أن يستوعب كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وكل موضع رتب فيه الحكم على ما قبله بحرف أفاد التسبب وقد تقدم وكل موضع تقدم ذكرت فيه الباء تعليلا لما قبلها بما بعدها أفاد التسبب وكل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبيب فإن العلة الغائية عله للعلة الفاعلية ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ويكفي شهادة الحس والعقل والفطر ولهذا قال من قال من أهل العلم تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت كماله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لملائكته وعباده وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسله وتنزيهه عن كل كمال ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل ونظير من نزه الله في أفعاله وأن يقوم به فعل البتة وظن أنه ينصر بذلك حدوث العالم وكونه مخلوقا بعد أن لم يكن وقد أنكر أصل الفعل والخلق جملة ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب فإذا رأى العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه إلا بإبطال الأسباب ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به وأنت لا تجد كتابا من الكتب أعظم إثباتا للأسباب من القرآن ويا لله العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة لحكمه إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم وإغراق الماء على كليمه وقومه وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لآثارها فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق والماء لا يغرق والخبر لا يشبع والسيف لا يقطع ولا تأثير لشيء من ذلك البتة ولا هو سبب لهذا الأثر وليس فيه قوة وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا قالت هذا هو التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به كما تراه عيانا في كتبهم ينفرون به الناس عن الإيمان ولا ريب أن الصديق الجاهل قد يضر مالا يضره العدو العاقل قال تعالى عن ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "علما" قال قتادة وابن زيد وابن جريج والضحاك: "علما تسبب به إلى ما يريد" وكذلك قال إسحاق: "علما يوصله إلى حيث يريد" وقال المبرد: "وكل ما وصل شيئا بشيء فهو سبب" وقال كثير من المفسرين: "آتيناه من كل ما بالخلق إليه حاجة علما ومعونة له وقد سمى الله سبحانه الطريق سببا في قوله فأتبع سببا" قال مجاهد: "طريقا" وقيل السبب الثاني هو الأول أي أتبع سببا من تلك الأسباب التي أوتيها مما يوصله إلى مقصوده وسمى سبحانه أبواب السماء أسبابا إذ منها يدخل إلى السماء قال تعالى عن فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أبوابها التي أدخل منها إليها وقال زهير:
    ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
    وسمى الحبل سببا لإيصاله إلى المقصود قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} قال بعض أهل اللغة السبب من الحبال القوي الطويل قال ولا يدعى الحبل سببا حتى يصعد به وينزل ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها سبب يقال ما بيني وبين فلان سبب أي أصرة رحم أو عاطفة مودة وقد سمى تعالى وصل الناس بينهم أسبابا وهي التي يتسببون بها إلى قضاء حوائجهم بعضهم من بعض قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} يعني الواصلات التي كانت بينهم في الدنيا وقال ابن عباس وأصحابه: "يعني أسباب المودة الواصلات التي كانت بينهم في الدنيا" وقال ابن زيد: "هي الأعمال التي كانوا يؤملون أن يصلوا بها إلى ثواب الله" وقيل هي الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها وبالجملة فسمى الله سبحانه ذلك أسبابا لأنها كانت يتوصل بها إلى مسبباتها وهذا كله عند نفاة الأسباب ومجاز لا حقيقة له وبالله التوفيق.
    ● فصل ●
    الأصل الخامس: أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمه هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها، النوع الأول: التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منه كقوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} وقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً} والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح وسمي حكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما وأوصلا إلى غايتيهما وكذلك لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلا إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة فيكون مرشدا إلى العلم النافع والعمل الصالح فتحصل الغاية المطلوبة فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هداهم ولا إيصالهم إلى سعادتهم ودلالتهم على أسبابها وموانعها ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة ولا تكلم لأجلها ولا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها ولا نصب الثواب والعقاب لأجلها لم يكن حكيما ولا كلامه حكمة فضلا عن أن تكون بالغة، النوع الثاني: إخباره أنه فعل كذا لكذا وأنه أمر بكذا لكذا كقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وقوله: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} أي ليتمكنوا بهذا الحفظ والرصد من تبليغ رسالاته فيعلم الله ذلك واقعا وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} وقوله: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقوله: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وهذا في القرآن فإن قيل اللام في هذا كله لام العاقبة كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} وقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} وقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وقوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} وقوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} فإن ما بعد اللام في هذا ليس هو الغاية المطلوبة ولكن لما كان الفعل منتهيا إليه وكان عاقبة الفعل دخلت عليه لام التعليل وهي في الحقيقة لام العاقبة، فالجواب من وجهين، أحدهما: أن لام العاقبة إنما تكون في حق من هو جاهل أو هو عاجز عن دفعها فالأول: كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} والثاني: كقول الشاعر:
    لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى ذهاب
    وأما من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فيستحيل في حقه دخول هذه اللام وإنما اللام الواردة في أفعاله وأحكامه لام الحكمة والغاية المطلوبة، الجواب الثاني: إفراد كل موضع من تلك المواضع بالجواب أما قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} فهو تعليل لقضاء الله سبحانه بالتقاطه وتقديره له فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره فهو سبحانه قدر ذلك وقضى به ليكون لهم عدوا وحزنا وذكر فعلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم فإن من اختار أخذ ما يكون هلاكه على يديه إذا أصيب به كان أعظم لحزنه وغمه وحسرته من أن لا يكون فيه صنع ولا اختيار فإنه سبحانه أراد أن يظهر لفرعون وقومه ولغيرهم من خلقه كمال قدرته وعلمه وحكمته الباهرة وأن هذا الذي يذبح فرعون إلا بناء في طلبه هو الذي يتولى تربيته في حجره وبيته باختياره وإرادته ويكون في قبضته وتحت تصرفه فذكر فعلهم به في هذا أبلغ وأعجب من أن يذكر القضاء والقدر وقد أعلمنا سبحانه أن أفعال عباده كلها واقعة بقضائه وقدره وأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} فلا ريب أن هذا تعليل لفعله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض كما امتحن السادات والأشراف بالعبيد والضعفاء والموالي فإذا نظر الشريف والسيد إلى العبد والضعيف والمسكين قد أسلم أنف وحمى أن يسلم معه أو بعده ويقول هذا يسبقني إلى الخير والفلاح وأتخلف أنا فلو كان ذلك خيرا وسعادة ما سبقنا هؤلاء إليه فهذا القول منهم هو بعض الحكم والغاية المطلوبة بهذا الامتحان فإن هذا القول دال على إباء واستكبار وترك الانقياد للحق بعد المعرفة التامة به وهذا وإن كان علة فهو مطلوب لغيره والعلل الغائية تارة تطلب لنفسها وتارة تطلب لغيرها فتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه وقول هؤلاء ما قالوه وما يترتب عليه هذا القول موجب لآثار مطلوبة للفاعل من إظهار عدله وحكمته وعزه وقهره وسلطانه وعطائه من يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يستحق المنع ولا يليق به غيره ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الذين يعرفون قدر النعمة ويشكرون المنعم عليهم فيما من عليهم من بين من لا يعرفها ولا يشكر ربه عليها وكانت فتنة بعضهم ببعض لحصول هذا التمييز الذي ترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء.
    ● فصل ●
    وأما قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ} فهي على بابها وهي لام الحكمة والتعليل أخبر الله سبحانه أنه جعل ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول محنة واختبارا لعباده فافتتن به فريقان وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وعلم المؤمنين أن القرآن والرسول حق وأن إلقاء الشيطان باطل فآمنوا بذلك وأخبتت له قلوبهم فهذه غاية مطلوبة مقصودة بهذا القضاء والقدر والله سبحانه جعل القلوب على ثلاثة أقسام مريضة وقاسية ومخبتة وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون كذلك فالأول حال القلوب القاسية الحجرية التي لا تقبل ما يبث فيها ولا ينطبع فيها الحق ولا ترتسم فيها العلوم النافعة ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة وأما النوع الثاني فلا يخلوا إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو يكون ثابتا مع ضعف وانحلال والثاني هو القلب المريض والأول هو الصحيح المخبت وهو جمع الصلابة والصفاء واللين فيبصر الحق بصفائه ويشتد فيه بصلابته ويرحم الخلق بلينه كما في أثر مروي: "القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إلى الله أصلبها وأرقها وأصفاها" كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم واشتدوا على الكفار بصلابتها وتراحموا فيما بينهم بلينها وذلك أن القلب عضو من أعضاء البدن وهو أشرف أعضائه وملكها المطاع وكل عضو كاليد مثلا إما أن تكون جامدة ويابسة لا تلتوي ولا تبطش أو تبطش بضعف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون مريضة ضعيفة عاجزة ولضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فذلك مثل القلب العليم الرحيم فبالعلم خرج عن المرض الذي ينشأ من الشهوة والشبهة وبالرحمة خرج عن القسوة ولهذا وصف سبحانه من عدا أصحاب القلوب المريضة والقاسية بالعلم والإيمان والإخبات فتأمل ظهور حكمته سبحانه في أصحاب هذه القلوب وهم كل الأمة فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون آمنا به كل من عند ربنا وكلا الوصفين موضع شبهة فكان حظهم منه الإيمان وحظ أرباب القلوب المنحرفة عن الصحة الافتتان ولهذا جعل سبحانه أحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات فالأحكام ههنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك والنسخ ههنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الرب سبحانه وللنسخ معنى آخر هو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده ولا دل اللفظ عليه وإن أوهمه كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} قالوا نسختها قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضا ولهذا عمهم بالمحاسبة ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ففهم المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخرها فهذا رفع لفهم غير المراد من إلقاء الملك وذاك رفع لما ألقاه غير الملك في أسماعهم أو في التمني وللنسخ معنى ثالث عند الصحابة والتابعين وهو ترك الظاهر إما بتخصيص عام أو بتقييد مطلق وهذا كثير في كلامهم جدا وله معنى رابع وهو الذي يعرفه المتأخرون وعليه اصطلحوا وهو رفع الحكم بجملته بعد ثبوته بدليل رافع له فهذه أربعة معان للنسخ والإحكام له ثلاثة معان، أحدها: الإحكام الذي في مقابلة المتشابه كقوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} والثاني: الإحكام في مقابلة نسخ ما يلقي الشيطان كقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} وهذا الإحكام يعم جميع آياته وهو إثباتها وتقريرها وبيانها ومنه قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}، الثالث: إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة كما يقوله السلف كثيرا هذه الآية محكمة غير منسوخة وذلك لأن الإحكام تارة يكون في التنزيل فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان في أمنيته ما يلقيه المبلغ أو في سمع المبلغ فالحكم هنا هو المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من اشتباهه بغير المنزل وفصل منه ما ليس منه بإبطاله وتارة يكون في إبقاء المنزل واستمراره فلا ينسخ بعد ثبوته وتارة يكون في معنى المنزل وتأويله وهو تمييز المعنى المقصود من غيره حتى لا يشتبه به والمقصود أن قوله: {ليجعل ما يلقى لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هي لام التعليل على بابها وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه وهذا من أعظم حكمة هذا الإلقاء.
    ● فصل ●
    وأما اللام في قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فلام التعليل على بابها فإنها مذكورة في بيان حكمته في جمع أوليائه وأعدائه على غير ميعاد ونصرة أوليائه مع قلتهم ورقتهم وضعف عددهم وعدتهم على أصحاب الشوكة والعدد والحد والحديد الذي لا يتوهم بشر أنهم ينصرون عليهم فكانت تلك آية من أعظم آيات الرب سبحانه صدق بها رسوله وكتابه ليهلك بعدها من اختار لنفسه الكفر والعناد عن بينة فلا يكون له على الله حجة ويحيي من حي بالإيمان بالله ورسوله عن بينة فلا يبقى عنده شك ولا ريب وهذا من أعظم الحكم ونظير هذا قوله: {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
    ● فصل ●
    وأما اللام في قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} فهي على بابها للتعليل فإنها إن كانت تعليلا لفعل العدو وهو إيحاء بعضهم إلى بعض فظاهر وعلى هذا فيكون عطفا على قوله: {غُرُوراً} فإنه مفعول لأجله أي ليغروهم بهذا الوحي ولتصغى إليه أفئدة من يلقى إليه فيرضاه ويعمل بموجبه فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من الإيحاء المذكور وهو أربعة أمور غرور من يوحون إليه وإصغاء أفئدتهم إليهم ومحبتهم لذلك وانفعالهم عنده بالاقتراف وإن كان ذلك تعليلا لجعله سبحانه لكل نبي عدوا فيكون هذا الحكم من جملة الغايات والحكم المطلوبة بهذا الجعل وهي غاية وحكمة مقصودة لغيرها لأنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للرب سبحانه وفواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من حصولها وعلى التقديرين فاللام لام التعليل والحكمة.
    ● فصل ●
    النوع الثالث الإتيان بكي الصريحة في التعليل كقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فعلل سبحانه تسمية الفيء بين هذه الأصناف كي لا يتداوله الأغنياء دون الفقراء والأقوياء دون الضعفاء وقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فأخبر سبحانه أنه قدر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن يبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع وهو الأحسن ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه يسير عليه وحكمته البالغة التي منها أن لا يحزن عباده على ما فاتهم إذا علموا أن المصيبة فيه بقدره وكتابته ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا بالحاصل لعلهم أن المصيبة مقدرة في كل ما على الأرض فكيف يفرح بشيء قد قدرت المصيبة فيه قبل خلقه ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب أو خوف فواته أو حصول مكروه أو خوف حصوله نبه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله وعلى فوته حيث لم يحصل ونبه بعدم الفرح به إذا وجد على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع وهذه هي أنواع المصائب فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه وخف حملها وأنزلها منزلة الحر والبرد.
    ● فصل ●
    النوع الرابع ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} ونصب ذلك على المفعول له أحسن من غيره كما صرح به في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وفي قوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فإتمام النعمة هو الرحمة وقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي لأجل الذكر كما قال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقوله فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا أي للإعذار والإنذار وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} فهذا كله مفعول لأجله وقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} إلى قوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} والمتاع واقع موقع التمتيع كما يقع السلام موقع التسليم والعطاء موضع الإعطاء وأما قوله: {رِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} فيحتمل أن يكون من ذلك أي إخافة لكم وإطماعا وهو أحسن ويحتمل أن يكون معمول فعل محذوف أي فيرونهما خوفا وطمعا فيكونان حالا وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى قوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي لأجل التبصرة والذكرى والفرق بينهما أن التبصرة توجب العلم والمعرفة والذكرى توجب الإنابة والانقياد وبهما تتم الهداية.

    شفاء العليل [ 19 ] Fasel10

    كتاب : شفاء العليل في مسائل
    القضاء والقدر والحكمة والتعليل
    تأليف : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
    منتدى ميراث الرسول - البوابة
    شفاء العليل [ 19 ] E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 11:10 pm