بّسم الله الرّحمن الرّحيم
تاريخ مكة المكرمة
نصب الأصنام ومسيرة تبع إلى مكة
أول من نصب الأصنام وما كان من كسرها
قد تقدم أنه زنى رجل من جرهم بامرأة في الكعبة وقبّلها فيها فمسخا حجرين، واسم الرجل إساف بن بغه، وقيل: إساف بن عمرو، واسم المرأة نائلة بنت ذئب، وقيل: بنت سهيل، فأخرجا من الكعبة وعليهما ثيابهما فنصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة، فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم حتى صار يمسحهما من وقف على الصفا والمروة ثم صارا وثنين يعبدان، فلما كان عمرو بن لحي أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما حتى كان قصيّ فصارت إليه الحجابة وأمر مكة فحولهما من الصفا والمروة، فجعل أحدهما بلصق الكعبة وجعل الآخر في موضع زمزم، وكان ينحر عندهما وكان يطرح بينهما ما يهدى للكعبة، ولم تكن تدنو منهما امرأة طامث وكان الطائف إذا طاف بالبيت بدأ بإساف فاستلمه، وإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، حتى كان يوم الفتح فكسرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما كسر من الأصنام.
وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وإن بها ثلاثمائة وستين صنماً قد سدها لهم إبليس بالطعام وفي رواية: حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً وكان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب فطاف على راحلته وجعل يطعنها ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " فما منها صنم أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقع حتى وقعت كلها وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه. فقال الزبير بن العوام رضي الله عنه لأبي سفيان: يا أبا سفيان بن حرب قد كسر هبل أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم عليك، فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان.
وقال ابن إسحاق: لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم الفتح أمر بالأصنام التي حول الكعبة فجمعت ثم حرقت بالنار وكسرت، ولم يكن في قريش رجل بمكة إلا وفي بيته صنم. ويقال: إن إبليس رن ثلاث رنات: رنة حين لعن فتغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورنة حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بمكة، ورنة حين افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخلصة ونهيك مجاود الريح ومطعم الطير ومناة
وقال ابن إسحاق: نصب عمرو بن لحي الخلصة بأسفل مكة، وكانوا يلبسونها القلائد ويهدون لها الشعير والحنطة ويصبون عليها اللبن ويذبحون لها ويعلقون عليها بيض النعام، ونصب على الصفا صنماً يقال له: نهيك مجاود الريح، ونصب على المروة صنماً يقال له: مطعم الطير. وأما مناة وكانت صخرة لهذيل وخزاعة فأول من نصبها عمرو بن لحي على ساحل البحر مما يلي قديد، وكانت الأوس والخزرج وغسان من الأزد ومن دان دينها من أهل يثرب وأهل الشام كانوا يحجونها ويعظمونها، فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى لم يحلقوا رؤوسهم إلا عند مناة، وكان يهلون لها ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة مكان الصنمين اللذين عليهما، وهما نهيك مجاود الريح ومطعم الطير، وكان هذا الحي من الأنصار يهلون بمناة، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لم يظل أحد منهم سقف بيته حتى يفرغ من حجه أو عمرته، فكان الرجل إذا أحرم لم يدخل بيته، وإن كانت له فيه حاجة تسور من ظهر بيته لئلا يحف رتاج الباب رأسه، فلما جاء الله بالإسلام وهدم أمر الجاهلية أنزل في ذلك: ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ).
وأما اللات والعزى
فكان بدء أمرهما فيما روى ابن عباس: أن رجلاً ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن للحاج إذا مروا ويلت سويقهم وكان ذا غنم فسميت الصخرة اللات فمات، فلما فقده الناس قال لهم عمرو: إن ربكم كان اللات فدخل في جوف الصخرة ، وكانت العزى ثلاث شجرات سمرات بنخلة، وكان أول من دعى إلى عبادتها عمرو بن ربيعة والحارث بن كعب، وقال لهم عمرو: إن ربكم يصيف باللات لبرد الطائف ويشتو بالعزى لحر تهامة، وكان في كل واحدة شيطان يعبد ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح خالد بن الوليد إلى العزى يقطعها فقطعها ثم جاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت فيهن " فقال: لا شيء ، قال: " ما قطعتهن فارجع فاقطع " ، فرجع فقطع فوجد تحت أصلها امرأة ناشرة شعرها قائمة عليهم كأنها تنوح عليهن فرجع فقال: إني رأيت كذا وكذا قال: " صدقت ". ويروى أن خالد بن الوليد خرج إلى العزى يهدمها في ثلاثين فارساً من أصحابه حتى انتهى إليها فهدمها ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أهدمت " قال: نعم يا رسول الله. قال: " هل رأيت شيئاً " قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: " فإنك لم تهدمها فارجع فاهدمها " فخرج خالد وهو متغيظ فلما انتهى إليها جرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة ناشرة شعرها فجعل السادن يصيح بها فأقبل خالد بالسيف إليها فضربها فجزلها باثنتين ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: " تلك العزى قد أيست أن تعبد ببلادكم ". فقال خالد: يا رسول الله، الحمد لله الذي أكرمنا بك وأنقذنا بك من الهلكة، لقد كنت أرى أبي يأتي إلى العزى بخير ماله من الإبل والغنم فيذبحها للعزى ويقيم عندها ثلاثاً ثم ينصرف إلينا مسروراً، ونظرت إلى ما مات أبي وإلى ذلك الرأي الذي يعاش في فضله، وكيف خدع حتى صار يذبح لما لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الأمر إلى الله فمن يسره للهدى تيسر له ومن يسره للضلالة كان فيها ". وكان هدمها لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، وكان سادنها أفلح بن النضر السلمي من بني سليم، فلما حضرته الوفاة دخل عليه أبو لهب يعوده وهو حزين، فقال: ما لي أراك حزيناً ، قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدي. فقال له أبو لهب: لا تحزن فأنا أقوم عليها بعدك. فجعل أبو لهب يقول لكل من لقيه: إن تظهر العزى كنت قد اتخذت عندها يداً، وإن يظهر محمد " صلى الله عليه وسلم " على العزى وما أراه يظهر فابن أخي. فأنزل الله عز وجل ( تبت يدا أبي لهب وتب ).
وأما ذات أنواط:
فكانت شجرة عظيمة خضراء بحنين، يقال لها: ذات أنواط لكفار قريش ومن سواهم من العرب، كانوا يعظمونها ويذبحون بها ويعكفون عندها يوماً، وكان من حج منهم وضع زاده عندها ويدخل بغير زاد تعظيماً للحرم، فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين قال له رهط من أصحابه فيهم الحارث بن مالك: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " هكذا قال قوم موسى ، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ".
مسيرة تبع إلى مكة
قال ابن إسحاق: سار تبع الأول إلى الكعبة فأراد هدمها وتخريبها، وخزاعة يومئذ تلي البيت وأمر مكة، فقامت خزاعة دونه فقاتلت عنه أشد القتال حتى رجع ثم تبع آخر كذلك، والتتابعة الذين أرادوا هدم الكعبة وتخريبها ثلاثة، وقد كان قبل ذلك منهم من يسير في البلاد فإذا دخل مكة عظم الحرم والبيت، فأما تبع الثالث الذي أراد هدم البيت إنما كان في أول زمان قريش، وسبب مسيره إليه أن قوماً من هذيل من بني لحيان جاؤوه فقالوا له: إن بمكة بيتاً يعظمه العرب جميعاً وتفدى إليه وتنحر عنده وتحجه وتعتمره، وإن قريشاً تليه وقد حازت شرفه وذكره وأنت أولى أن يكون ذلك البيت وشرفه لك، فلو سرت إليه وخربته وبنيت بيتاً عندك ثم صرفت حاج العرب إليه كنت أحق به منهم، قال: فأجمع السير إليه، فلما كان تبع بالدف من جمدان بين "أمج وعسفان"، دفت بهم دوابهم وأظلمت عليهم الأرض، فدعى أحباراً كانوا معه من أهل الكتاب فسألهم، فقالوا: هل هممت لهذا البيت بشيء? قال: أردت أن أهدمه. قالوا: فانو له خيراً أن تكسوه وتنحر عنده، ففعل فانجلت عنهم الظلمة، وإنما سمي الدف من أجل ذلك.
وفي رواية قال له الأحبار: هل هممت لهذا البيت بسوء? فأخبرهم بما قال له الهذليون وبما أراد أن يفعل فقالت الأحبار: والله ما أرادوا إلا هلاكك وهلاك قومك، إن هذا بيت الله الحرام ولم يرده أحد قط بسوء إلا هلك. قال: فما الحيلة? قالوا: تنوي له خيراً أن تعظمه وتكسوه وتنحر عنده وتحسن إلى أهله ففعل، فانجلت عنهم الظلمة وسكنت الريح وانطلقت بهم ركابهم ودوابهم، فأمر تبع بالهذليين فضربت رقابهم وصلبهم وإنما كانوا فعلوا ذلك حسداً لقريش على ولايتهم البيت.
قال السهيلي: روى نقلة الأخبار أن تبعاً لما عمد إلى البيت يريد إخرابه رمي بداء تمخض من رأسه قيحاً وصديداً يثج ثجاً، وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح وقيل: بل أرسلت عليه ريح كتفت منه يديه ورجليه وجلده فأصابتهم ظلمة شديدة حتى رقت خيلهم، فقال له: الجيران تب إلى الله مما نويت ففعل فبرئ من دائه وصح من وجعه. قال السهيلي: وأخلق بهذا الخبر أن يكون صحيحاً، فإن الله تعالى يقول: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم". أي: ومن يهم فيه بظلم وإن لم يفعل عذّب تشديداً في حقه وتعظيماً لحرمته كما فعله الله بأصحاب الفيل أهلكهم قبل الوصول إلى بيته. انتهى. ثم سار تبع حتى قدم مكة فكان سلاحه بقعيقعان فلذلك سمي قعيقعان، وكانت خيله بأجياد فلذلك سمي أجياد الجياد خيل تبع، وكانت مطابخه في الشعب الذي يقال له: شعب عبد الله بن عامر بن كريز فلذلك سمي شعب المطابخ، فأقاما بمكة أياماً ينحر في كل يوم مائة بدنة ولا يرزأ هو ولا أحد من عسكره منها شيئاً، يردها الناس ويأخذون منها حاجتهم ثم يقع عليها الطير فيأكل ثم يتناوبها السباع إذا أمست لا يصد عنها إنسان ولا طائر ولا سبع يفعل ذلك كل يوم مدة مقامه ثم كسا البيت كسوة كاملة كساه العصب، وجعل له باباً يغلق بصبة فارسية، وهو أول من كسا البيت كسوة كاملة، أرى في المنام أن يكسوها فكساها الأنطاع ثم أرى أن يكسوها فكساها الوصائل ثياب حبرة من عصب اليمن، وهو أول من جعل لها باباً يغلق ولم يكن يغلق قبل ذلك.
قال القتبي: كانت قصة تبع قبل الإسلام بسبعمائة عام.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء
قد تقدم أنه زنى رجل من جرهم بامرأة في الكعبة وقبّلها فيها فمسخا حجرين، واسم الرجل إساف بن بغه، وقيل: إساف بن عمرو، واسم المرأة نائلة بنت ذئب، وقيل: بنت سهيل، فأخرجا من الكعبة وعليهما ثيابهما فنصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة، فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم حتى صار يمسحهما من وقف على الصفا والمروة ثم صارا وثنين يعبدان، فلما كان عمرو بن لحي أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما حتى كان قصيّ فصارت إليه الحجابة وأمر مكة فحولهما من الصفا والمروة، فجعل أحدهما بلصق الكعبة وجعل الآخر في موضع زمزم، وكان ينحر عندهما وكان يطرح بينهما ما يهدى للكعبة، ولم تكن تدنو منهما امرأة طامث وكان الطائف إذا طاف بالبيت بدأ بإساف فاستلمه، وإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، حتى كان يوم الفتح فكسرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما كسر من الأصنام.
وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وإن بها ثلاثمائة وستين صنماً قد سدها لهم إبليس بالطعام وفي رواية: حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً وكان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب فطاف على راحلته وجعل يطعنها ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " فما منها صنم أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقع حتى وقعت كلها وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه. فقال الزبير بن العوام رضي الله عنه لأبي سفيان: يا أبا سفيان بن حرب قد كسر هبل أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم عليك، فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان.
وقال ابن إسحاق: لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم الفتح أمر بالأصنام التي حول الكعبة فجمعت ثم حرقت بالنار وكسرت، ولم يكن في قريش رجل بمكة إلا وفي بيته صنم. ويقال: إن إبليس رن ثلاث رنات: رنة حين لعن فتغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورنة حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بمكة، ورنة حين افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخلصة ونهيك مجاود الريح ومطعم الطير ومناة
وقال ابن إسحاق: نصب عمرو بن لحي الخلصة بأسفل مكة، وكانوا يلبسونها القلائد ويهدون لها الشعير والحنطة ويصبون عليها اللبن ويذبحون لها ويعلقون عليها بيض النعام، ونصب على الصفا صنماً يقال له: نهيك مجاود الريح، ونصب على المروة صنماً يقال له: مطعم الطير. وأما مناة وكانت صخرة لهذيل وخزاعة فأول من نصبها عمرو بن لحي على ساحل البحر مما يلي قديد، وكانت الأوس والخزرج وغسان من الأزد ومن دان دينها من أهل يثرب وأهل الشام كانوا يحجونها ويعظمونها، فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى لم يحلقوا رؤوسهم إلا عند مناة، وكان يهلون لها ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة مكان الصنمين اللذين عليهما، وهما نهيك مجاود الريح ومطعم الطير، وكان هذا الحي من الأنصار يهلون بمناة، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لم يظل أحد منهم سقف بيته حتى يفرغ من حجه أو عمرته، فكان الرجل إذا أحرم لم يدخل بيته، وإن كانت له فيه حاجة تسور من ظهر بيته لئلا يحف رتاج الباب رأسه، فلما جاء الله بالإسلام وهدم أمر الجاهلية أنزل في ذلك: ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ).
وأما اللات والعزى
فكان بدء أمرهما فيما روى ابن عباس: أن رجلاً ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن للحاج إذا مروا ويلت سويقهم وكان ذا غنم فسميت الصخرة اللات فمات، فلما فقده الناس قال لهم عمرو: إن ربكم كان اللات فدخل في جوف الصخرة ، وكانت العزى ثلاث شجرات سمرات بنخلة، وكان أول من دعى إلى عبادتها عمرو بن ربيعة والحارث بن كعب، وقال لهم عمرو: إن ربكم يصيف باللات لبرد الطائف ويشتو بالعزى لحر تهامة، وكان في كل واحدة شيطان يعبد ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح خالد بن الوليد إلى العزى يقطعها فقطعها ثم جاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت فيهن " فقال: لا شيء ، قال: " ما قطعتهن فارجع فاقطع " ، فرجع فقطع فوجد تحت أصلها امرأة ناشرة شعرها قائمة عليهم كأنها تنوح عليهن فرجع فقال: إني رأيت كذا وكذا قال: " صدقت ". ويروى أن خالد بن الوليد خرج إلى العزى يهدمها في ثلاثين فارساً من أصحابه حتى انتهى إليها فهدمها ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أهدمت " قال: نعم يا رسول الله. قال: " هل رأيت شيئاً " قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: " فإنك لم تهدمها فارجع فاهدمها " فخرج خالد وهو متغيظ فلما انتهى إليها جرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة ناشرة شعرها فجعل السادن يصيح بها فأقبل خالد بالسيف إليها فضربها فجزلها باثنتين ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: " تلك العزى قد أيست أن تعبد ببلادكم ". فقال خالد: يا رسول الله، الحمد لله الذي أكرمنا بك وأنقذنا بك من الهلكة، لقد كنت أرى أبي يأتي إلى العزى بخير ماله من الإبل والغنم فيذبحها للعزى ويقيم عندها ثلاثاً ثم ينصرف إلينا مسروراً، ونظرت إلى ما مات أبي وإلى ذلك الرأي الذي يعاش في فضله، وكيف خدع حتى صار يذبح لما لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الأمر إلى الله فمن يسره للهدى تيسر له ومن يسره للضلالة كان فيها ". وكان هدمها لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، وكان سادنها أفلح بن النضر السلمي من بني سليم، فلما حضرته الوفاة دخل عليه أبو لهب يعوده وهو حزين، فقال: ما لي أراك حزيناً ، قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدي. فقال له أبو لهب: لا تحزن فأنا أقوم عليها بعدك. فجعل أبو لهب يقول لكل من لقيه: إن تظهر العزى كنت قد اتخذت عندها يداً، وإن يظهر محمد " صلى الله عليه وسلم " على العزى وما أراه يظهر فابن أخي. فأنزل الله عز وجل ( تبت يدا أبي لهب وتب ).
وأما ذات أنواط:
فكانت شجرة عظيمة خضراء بحنين، يقال لها: ذات أنواط لكفار قريش ومن سواهم من العرب، كانوا يعظمونها ويذبحون بها ويعكفون عندها يوماً، وكان من حج منهم وضع زاده عندها ويدخل بغير زاد تعظيماً للحرم، فلما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين قال له رهط من أصحابه فيهم الحارث بن مالك: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " هكذا قال قوم موسى ، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ".
مسيرة تبع إلى مكة
قال ابن إسحاق: سار تبع الأول إلى الكعبة فأراد هدمها وتخريبها، وخزاعة يومئذ تلي البيت وأمر مكة، فقامت خزاعة دونه فقاتلت عنه أشد القتال حتى رجع ثم تبع آخر كذلك، والتتابعة الذين أرادوا هدم الكعبة وتخريبها ثلاثة، وقد كان قبل ذلك منهم من يسير في البلاد فإذا دخل مكة عظم الحرم والبيت، فأما تبع الثالث الذي أراد هدم البيت إنما كان في أول زمان قريش، وسبب مسيره إليه أن قوماً من هذيل من بني لحيان جاؤوه فقالوا له: إن بمكة بيتاً يعظمه العرب جميعاً وتفدى إليه وتنحر عنده وتحجه وتعتمره، وإن قريشاً تليه وقد حازت شرفه وذكره وأنت أولى أن يكون ذلك البيت وشرفه لك، فلو سرت إليه وخربته وبنيت بيتاً عندك ثم صرفت حاج العرب إليه كنت أحق به منهم، قال: فأجمع السير إليه، فلما كان تبع بالدف من جمدان بين "أمج وعسفان"، دفت بهم دوابهم وأظلمت عليهم الأرض، فدعى أحباراً كانوا معه من أهل الكتاب فسألهم، فقالوا: هل هممت لهذا البيت بشيء? قال: أردت أن أهدمه. قالوا: فانو له خيراً أن تكسوه وتنحر عنده، ففعل فانجلت عنهم الظلمة، وإنما سمي الدف من أجل ذلك.
وفي رواية قال له الأحبار: هل هممت لهذا البيت بسوء? فأخبرهم بما قال له الهذليون وبما أراد أن يفعل فقالت الأحبار: والله ما أرادوا إلا هلاكك وهلاك قومك، إن هذا بيت الله الحرام ولم يرده أحد قط بسوء إلا هلك. قال: فما الحيلة? قالوا: تنوي له خيراً أن تعظمه وتكسوه وتنحر عنده وتحسن إلى أهله ففعل، فانجلت عنهم الظلمة وسكنت الريح وانطلقت بهم ركابهم ودوابهم، فأمر تبع بالهذليين فضربت رقابهم وصلبهم وإنما كانوا فعلوا ذلك حسداً لقريش على ولايتهم البيت.
قال السهيلي: روى نقلة الأخبار أن تبعاً لما عمد إلى البيت يريد إخرابه رمي بداء تمخض من رأسه قيحاً وصديداً يثج ثجاً، وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح وقيل: بل أرسلت عليه ريح كتفت منه يديه ورجليه وجلده فأصابتهم ظلمة شديدة حتى رقت خيلهم، فقال له: الجيران تب إلى الله مما نويت ففعل فبرئ من دائه وصح من وجعه. قال السهيلي: وأخلق بهذا الخبر أن يكون صحيحاً، فإن الله تعالى يقول: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم". أي: ومن يهم فيه بظلم وإن لم يفعل عذّب تشديداً في حقه وتعظيماً لحرمته كما فعله الله بأصحاب الفيل أهلكهم قبل الوصول إلى بيته. انتهى. ثم سار تبع حتى قدم مكة فكان سلاحه بقعيقعان فلذلك سمي قعيقعان، وكانت خيله بأجياد فلذلك سمي أجياد الجياد خيل تبع، وكانت مطابخه في الشعب الذي يقال له: شعب عبد الله بن عامر بن كريز فلذلك سمي شعب المطابخ، فأقاما بمكة أياماً ينحر في كل يوم مائة بدنة ولا يرزأ هو ولا أحد من عسكره منها شيئاً، يردها الناس ويأخذون منها حاجتهم ثم يقع عليها الطير فيأكل ثم يتناوبها السباع إذا أمست لا يصد عنها إنسان ولا طائر ولا سبع يفعل ذلك كل يوم مدة مقامه ثم كسا البيت كسوة كاملة كساه العصب، وجعل له باباً يغلق بصبة فارسية، وهو أول من كسا البيت كسوة كاملة، أرى في المنام أن يكسوها فكساها الأنطاع ثم أرى أن يكسوها فكساها الوصائل ثياب حبرة من عصب اليمن، وهو أول من جعل لها باباً يغلق ولم يكن يغلق قبل ذلك.
قال القتبي: كانت قصة تبع قبل الإسلام بسبعمائة عام.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء