بّسم الله الرّحمن الرّحيم
تاريخ مكة المكرمة
اصحاب الفيل ووصف القليس
مبتدأ حديث الفيل
كان من حديث الفيل ما ذكروا أن ملكاً من ملوك حمير يقال له: زرعة ذو نواس، وكانوا قد تهودوا واستجمعت معه حمير على ذلك إلا أهل نجران فإنهم كانوا على النصرانية على أصل حكم الإنجيل، ولهم رأس يقال له: عبد الله بن تامر، فدعاهم ذو نواس إلى اليهودية فأبوا فخيرهم فاختاروا المقتل، فخد لهم أخدوداً وصنف لهم المقتل، فمنهم من قتل صبراً ومنهم من أوقد له النار في الأخدود فألقاه في النار إلا رجلاً من سبأ يقال له: دوس بن ثعلبان، فهرب على فرس له يركض فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم واستنصره، فقال له: بعدت بلادك ونأت دارك عنا، ولكن سأكتب إلى ملك الحبشة فإنه على ديننا فينصرك فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره، فلما قدم على النجاشي بعث معه رجلاً من الحبشة يقال له: أرياط، وقال: إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها واسب ثلث نسائها وذراريها وابعثهم إليّ وخرب ثلث بلادها، فلما دخلوا أرض اليمن تناوشوا بسبأ من قتال ثم ظهر عليهم، ثم خرج ذو نواس على فرسه فاستعرض له البحر حتى لجج به فماتا جميعاً في البحر وكان آخر العهد به، فدخلها أرياط فعمل ما أمره به النجاشي.
ذكر الفيل حين ساقته الحبشة
قال ابن إسحاق: لما ظهرت الحبشة على أرض اليمن كان ملكهم إلى أرياط وأبرهة، وكان أرياط فوق أبرهة، فأقام أرياط باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك، وكان في جند من الحبشة فانحاز إلى كل واحد منهما من الحبشة طائفة ثم سار أحدهما إلى الآخر، فكان أرياط يكون بصنعاء ومحاليفها، وكان أبرهة يكون بالجند ومحاليفها، فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط لإنك "لا تضع" بأن تلقى الحبشة بعضهم ببعض فتفنيها بسبأ، ولكن أبرز إليّ وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط أن قد صدقت وانصرف، فخرج أرياط وكان رجلاً عظيماً طويلاً وسيماً وفي يده حربة له، وخرج له أبرهة وكان رجلاً قصيراً حادراً رحيماً دحداحاً، وكان ذا دين في النصرانية وخلف أبرهة عبد له يحمى ظهره يقال له: عتودة، فلما دنا أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس أبرهة يريد يأفوخه بالهمز فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة على أرياط من خلف فزرقه بالحربة فقتله، فانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وكان ما صنع أبرهة من قتله أرياط بغير علم النجاشي ملك الحبشة بأرض البسوم من بلاد الحبشة، فلما بلغه ذلك غضب غضباً شديداً وقال: عدا على أميري بغير أمري فقتله، ثم حلف النجاشي لا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته، فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه ثم ملأ جراباً من تراب أرض اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي وكتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك اختلفنا في أمرك وكلنا طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة منه وأضبط، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت به إليه مع جراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر بذلك قسمه، فلما انتهى ذلك إلى النجاشي كتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن، وبنى أبرهة عند ذلك القليس بصنعاء إلى جنب غمدان فبنى كنيسة وأحكمها وسماها القليس، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، "وليست بمبنية" حتى انصرف حاج العرب إليها ويتركوا الحج إلى بيتهم، فبنى القليس بحجارة قصر بلقيس صاحبة الصرح الذي ذكر في القرآن في قصة سليمان عليه السلام، وكان سليمان عليه السلام حين تزوجها ينزل عليها فيه إذا جاءها، فوضع الرجال " تسنعاً " يناول بعضهم بعضاً الحجارة والآلة، حتى نقل ما كان في قصر بلقيس مما احتاج إليه من حجارة ورخام وآلة البناء، وجدّ في بنائه وكان مربعاً مستوى التربيع، وجعل طوله في السماء ستين ذراعاً وكثفه من داخله عشرة أذرع في السماء، فكان يصعد إليه بدرج الرخام، وحوله سور بينه وبين القليس مائتا ذراع مطيف به من كل جانب، وجعل بناء ذلك كله بحجارة يسميها أهل اليمن الجروب منقوشة مطبقة لا تدخل بين أطباقها الإبرة، وجعل طول بنائه من الجروب عشرين ذراعاً في السماء، ثم فصل ما بين حجارة الجروب بحجارة مثلثة متداخلة بعضها ببعض، حجراً أخضر وحجراً أحمر وحجراً أبيض وحجراً أصفر وحجراً أسود، فيما بين كل ساقين خشب ساسم مدور الرأس غليظ الخشبة ناتئ على البناء، فكان مفصلاً لهذا البناء على هذه الصفة، لم فصله برخام منقوش طوله في السماء ذراعان ناتئ على البناء بذراع، ثم فصل فوق ذلك الرخام بحجارة بيضاء لها بريق وكان هذا ظاهر حائط القليس، وكان عرض حائطه ستة أذرع، وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولاً في أربعة أذرع عرضاً، وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ثمانون ذراعاً في أربعين ذراعاً معمولاً بالساج المنقوش ومسامير الذهب والفضة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعاً عن يمينه وعن يساره عقود مضروبة بالسفيسف مشجرة بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان قبة ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً منقوشة جدرها بالسفيسفاء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع في عشرة أذرع، تغشى عين من نظر إليها من بطن القبة تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت الرخامة منبر من الأبنوس مفصل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من الساج ملبسة ذهباً وفضة، وكان في القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعاً يقال لها: كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب يتبركون بها في الجاهلية، وكان أبرهة عند بناء القليس قد أخذ العمال بالعمل أخذاً شديداً وكان قد آلى أن لا تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده. قال: فتخلف رجل ممن كان يعمل فيه حتى طلعت الشمس، وكانت له أم عجوز فذهب بها معه لتستوهبه من أبرهة فأتته وهو بارز للناس فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه، فقال: لا أكذب نفسي ولا أفسد عليّ عمالي فأمر بقطع يده، فقالت له أمه: اضرب بمعولك اليوم فاليوم لك وغداً لغيرك ليس كل الدهر لك، فقال: أدبوها ثم قال لها: إن لي هذا الملك أيكون لغيري ، قالت: نعم، وكان أبرهة قد أجمع أن يبني القليس حتى يظهر على ظهره فيرى منه بحر عدن، فقال: لا أبني حجراً على حجر بعد يومي هذا وأعيا الناس من العمل، فانتشر خبر بناء أبرهة هذا البيت في العرب، فدعا رجلان من بني مالك بن كنانة فتيين منهم فأمرهما أن يذهبا إلى ذلك البيت الذي بناه أبرهة بصنعاء فيحدثا فيه فذهبا ففعلا ذلك، فدخل أبرهة البيت فرأى آثارهما فيه، فقال: من فعل هذا ، فقيل له: رجلان من العرب من أهل البيت الذي تحج إليه العرب بمكة لما أن سمعا قولك: أصرف إليها حاج العرب. جاءاها ففعلا فيها أي: أنها ليست لذلك بأهل فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه وبعث رجلاً كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم سار وخرج بالفيل معه، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا أن جهاده حق عليهم حين سمعوا أنه يريد يهدم الكعبة بيت الله الحرام، فخرج إليه رجل من أشراف اليمن من ملوك حمير يقال له: ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ومجاهدته عن بيت الله وما يريد من هدمه وإخرابه فأجابوه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأتى به أسيراً فلما أراد قتله، قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني فعسى أن يكون مقامي معك خيراً لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلاً حليماً ورعاً ذا دين في النصرانية، ومضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج إليه، حتى إذا كان في أرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبائل من خثعم ومن اتبعه من قبائل العرب فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيراً فأتى به، فقال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، فهاتان يداي على قبائل خثعم بالسمع والطاعة فأعفاه وخلى سبيله وسار معه حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال ثقيف، فقال: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون وليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات، إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه. فتجاوز عنهم وبعثوا معه أبا رغال مولى لهم يدله على مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزلهم " بالمغمس " بفتح الميم الثانية وتشديدها وقيل: بكسرها فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب، وهو قبره الذي يرجم بالمغمّس وهو الذي يقول فيه جرير بن الحطنا:
إذا مات الفرزدق فارجموه * كرجم الناس قبر أبي رغال
قال السهيلي: وروي أيضاً أن أبا رغال من ثمود، وأنه كان بالحرم حين أصاب قومه الصيحة، فلما خرج من الحرم أصابه من الهلاك ما أصاب قومه فدفن هناك، ودفن معه غصنان من ذهب، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالقبر وأمر باستخراج الغصنين منه فاستخرجا. انتهى.
ولما نزل أبرهة المغمّس بعث رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال " أهل الحرم " من قريش وغيرهم فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وخزاعة وكنانة وهذيل ومن كان في الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم بقتاله فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، فقال له: سل عن سيد أهل هذه البلدة وشريفهم ثم قل لهم: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا لقتال فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو " لم " يرد حربي فائتني به، فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له: عبد المطلب فأرسل إلى عبد المطلب فأخبره بما قال أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، وهذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع. فقال له حناطة: فانطلق إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك، فانطلق معه عبد المطلب وأردفه على بغلة له كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقاً حتى دل عليه وهو في مجلسه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ، فقال ذو نفر: وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله بكرة وعشية، ما عندي غناء من شيء مما نزل بك غلا أن أنيساً سائس الفيل صديق لي، فأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك وتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، قال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت، فقال: أفعل فكلم أنيس أبرهة فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عير مكة وهو سيدها وهو يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رؤوس الجبال فأذن له عليك فليكلمك، فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب أوسم رجل وأعظمه وأجمله فأذن له، فلما دخل عليه ورآه أبرهة أجله وكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة معه على سريره فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه قل له: ما حاجتك ، فقال له الترجمان: إن الملك يقول لك ما حاجتك ، قال: حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك وقد جئت أهدمه ولا تكلمني فيه. قال عبد المطلب: إني أنا رب إبلي وإن للبيت ربّاً سيمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. قال: أنت وذاك.
قال ابن إسحاق: وكان قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه " حناطة الحميري " " يعمر بن نفاشة بن عدي " من بني كنانة وهو يومئذ سيد بني بكر، " وخويلد بن واثلة " وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم، ورد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي كان أصابها، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال خوفاً عليهم من " معرة الجيش "، ثم أقام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وعلى جنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن المرء يمنع رحل * ه فامنع حلالك
لا يغبن صليبهم * ومحالهم عدواً محالك
جروا جميع بلادهم * والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حمادك بكيدهم * جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعتن * ا فأمر ما بـدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها ، ولما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهدم الكعبة وهيأ فيله وعبأ جيشه وقدم فيله أمام جيشه، وكان اسم الفيل محموداً وكان فيل النجاشي بعثه إلى أبرهة وكان فيلاً لم ير مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوة.
وقال مقاتل: لم يكن معهم إلا ذلك الفيل الواحد فلذلك قال تعالى: ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ). وقال الضحاك: كانت الفيلة ثمانية غير الفيل الأعظم. وقيل: اثني عشر فيلاً. وقيل: ألف فيل. وقيل: إنما وحد في القرآن لوفاق رؤوس الآي. وقيل: نسبهم إلى الفيل الأعظم. فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل فالتقم أذنه فقال: ابرك محموداً وارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه فبرك، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى صعد في الجبل، فضربوا الفيل ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبرزين فأبى فأدخلوا محاجمهم تحت مراقه ومرافقه فدفعوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس وفي رواية: فوق العدسة ودون الحمصة بتشديد الميم وبتخفيفها فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك وليس كلهم أصابت، فذلك قوله تعالى ( وأرسل عليهم طيراً أبابيل ). أي: أقاطيع كالإبل المؤبلة يتبع بعضها بعضاً، واحدها إبالة. وقيل: متفرقة. يقال: جاءت الخيل أبابيل أي متفرقة ومن هاهنا وهاهنا. قال أبو عبيد: لا واحد لها. وقيل: واحدها إبول كعجول، أو إبّيل كسكين، أو أبولة وهي الحزمة الكبيرة من الحطب، شبهت الطير بها لكثرتها واجتماعها.
وقال ابن عباس: لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة: كان لها رؤوس كرؤوس السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده. وقال ربيع: لها أنياب كأنياب السباع. وقال سعيد بن جبير: طير خضر لها مناقير صفر. وقالت عائشة رضي الله عنها: هي أشبه شيء بالخطاطيف. وقيل: أشباه الوطاويط وكانت حمرا. وقيل: سودا. وقيل: بيضاء. وقال أبو الجوزاء: أنشأها الله في ذلك الوقت. وقوله تعالى: ( ترميهم بحجارة من سجيل ). أي: من طين مطبوخ بالنار كما يطبخ الآجر مكتوب فيها أسماء القوم. وقيل: معرب من سنك وكل فسنك هو الحجر وكل هو الطين والماء. وقيل: من سجيل أي من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط. وقيل: من الجحيم وهي سجين ثم أبدلت اللام نوناً.
قال الزمخشري: وسجيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار كما أن سجيناً علم لديوان أعمالهم، كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال؛ لأن العذاب موصوف بذلك، كقوله: ( فأرسلنا عليهم الطوفان ). ( وأرسل عليهم ).
قال ابن مسعود: وصاحت الطير ورمتهم، وبعث الله ريحاً فضربت الحجارة فزادتها شدة فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره. فقوله: ( فجعلهم كعصف مأكول ). أي: كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه.
ويروى: أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة. ويروى: أنها لم تصيبهم كلهم لكنها أصابت من شاء الله منهم. وقيل: هلك القوم جميعاً فلما رأت الحبشة ذلك خرجوا هاربين يبتدرون التي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، وقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من عذابه:
أين الـمفر والإله الطالب * والأشرم المغلوب غير الغالب
ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال، وقد خرج القوم وماج بعضهم في بعض، فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منها، وبعث الله على أبرهة داءً في جسده فجعل تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعتها مدة من قيح ودم فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير ممن بقي من أصحابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك، وأقام بمكة ضعف الجيش وبعض من ضمه العسكر فكانوا بمكة يعتملون ويرعون لأهل مكة. انتهت قصة أصحاب الفيل.
قال مقاتل بن سليمان: إن السبب الذي جر حديث أصحاب هو أن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى أرض النجاشي فساروا حتى دنوا من ساحل البحر في سند حقف من أحقافه ببيعة للنصارى تسميها قريش " الهيكل "، ويسميها النجاشي وأهل أرضه " الماسرجسان "، فنزل القوم في عندها فجمعوا حطباً وأججوا ناراً وشووا لحماً، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف فعجت الرياح فاضطرم الهيكل ناراً، وانطلق الصريخ إلى النجاشي فأخبره فأسف عند ذلك غضباً للبيعة فبعث أبرهة لهدم الكعبة.
وقال فيه: وكان بمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي، كان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة وكان رجلاً نبيهاً نبيلاً عاقلاً، وكان لعبد المطلب خليلاً فقال عبد المطلب يا أبا مسعود: هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك فماذا عندك? فقال أبو مسعود لعبد المطلب: اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها حرماً لله وقلدها نعلاً ثم أثبتها في الحرم لعل بعض هؤلاء السودان يعقر منها فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم، ففعل مثل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها فجعل عبد المطلب يدعو، فقال أبو مسعود: إن لهذا البيت رباً يمننعه فقد نزل تبع ملك اليمن بصحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض وعظمه ونحر له جزوراً فانظر نحو اليمين هل ترى شيئاً ، فنظر عبد المطلب فقال: أرى طيراً بيضاً نشأت من شاطئ البحر وحلقت على رؤوسنا فقال: هل تعرفها ، قال: والله ما أعرفها ما هي بنجدية ولا غربية ولا شامية وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة. قال: ما قدرها ، قال: أشباه اليعاسيب، في مناقيرها حصى كأنها حصى الخذف قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضاً، أمام كل دفعة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق فجاءت حتى إذا حازت عسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم ثم أمالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه ثم رجعت من حيث جاءت وقيل: كان على كل حجر مكتوباً " من أطاع الله نجا ومن عصاه غوى " فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا فلم يؤنسا أحداً، ثم مشيا فلم يسمعا حساً فقالا: بات القوم سامدين فأصبحوا نياماً، فلما دنوا من عسكر القوم إذا هم خامدون، وكان الحجر يقع على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابه ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فأخذ عبد المطلب فأساً وحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيد وحفر لصاحبه فملأه، ثم قال لأبي مسعود: هات خاتمك فاختر إن شئت أخذت حفرتي وإن شئت حفرتك وإن شئت فهما لك. فقال أبو مسعود: اختر لي على نفسك. فقال عبد المطلب: إني لم أك أن أجعل المتاع في حفرتي فهي لك. وجلس كل واحد منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا بذلك ذرعاً، وساد عبد المطلب بذلك قريشاً فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في غنة من ذلك المال إلى أن ماتا.
وقال الواقدي بإسناده: وجه النجاشي أرياط بأربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها فأكرم الملوك واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له: أبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه فقتل أرياط وغلب على اليمن، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج قال: أين يذهب الناس ، فقالوا: يحجون بيت الله بمكة. قال: مم هو ، قالوا: من حجارة. قال: فما كسوته? قالوا: الوصائل. قال: والمسيح لأبنين لكم خيراً منه. فبنى لهم بيتاً عمله بالرخام الأبيض والأسود والأحمر والأصفر وحلاه بالذهب والفضة وحفه بالجواهر، وجعل له أبواباً عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب ورصّعها بالجواهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة وجعل لها حجّاباً، وكان يوقد بالمندل ويلطخ جدره بالمسك حتى يطيب الجواهر، وأمر الناس بحجه فحجه كثير من قبائل العرب سنين ومكث فيه رجال يتعبدون ويتنسكون، فأمهل نفيل الخثعمي حتى كان ليلة من الليالي ولم ير أحداً يتحرك جاء بعذرة فلطخ بها قبلته وألقى فيه الجيف، فأخبر أبرهة بذلك فغضب غضباً شديداً وقال: إنما فعل هذا العرب غضباً لبيتهم لأنقضه حجراً حجراً. وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محموداً، وكان فيلاً لم ير مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوة فبعث به إليه فغزا البيت كما ذكرنا إلى أن قال: أقبلت الطير من البحر مع كل طائر حجران في رجليه وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم لا تصيب شيئاً إلا هشمته وإلا نفط ذلك الموضع، وكان ذلك أول ما رؤي الجدري والحصبة بأرض العرب ذلك العام، وأول ما رؤي بها من أمر الشجر من الحرمل والحنظل والعشر في ذلك العام فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلاً آتياً فذهب بهم إلى البحر فألقاهم فيه، وولى أبرهة ومن بقي معه هراباً، فجعل أبرهة يسقط عضواً عضواً حتى مات، وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأما الآخر فشجعت فحصبت وهلكت.
قال الأزرقي: وقال بعض المكيين: أول ما كانت بمكة حمام اليمام الحرمية ذلك الزمان، يقال: إنها من نسل الطير التي رمت أصحاب الفيل حين خرجت من البحر من جدة.
وقال الكلبي: لما أهلكهم الله بالحجارة لم يفلت منهم إلا أبرهة أبو يكسوم فسار وطائر يطير فوقه ولم يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم، فلما استتم كلامه رماه الطائر فسقط ميتاً فأرى الله النجاشي كيف كان هلاك أصحابه.
وقال الواقدي: كان أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به وقال القرطبي في التفسير: وكان أصحاب الفيل ستين ألفاً لم يرجع منهم إلا أميرهم رجع ومعه شرذمة لطيفة، فلما أخبروا بما رأوا أهلكوا.
وقال السهيلي: فلما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق وأقفر ما حول هذه الكنيسة فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ شيئاً منها أصابته الجن فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من المال، لا يستطيع أحد أن يأخذ منها شيئاً إلى زمن أبي العباس السفاح، فذكر له من أمرها وما يتهيب من جنها وحيّاتها فلم يرعه ذلك وبعث إليها أبا العباس بن الربيع عامله على اليمن معه أهل الحزم والجلادة فخربها وحصلوا منها مالاً كثيراً، بيع ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها، فعفى بعد ذلك رسمها وانقطع خبرها واندرست آثارها، وكان الذي يصيبهم من الجن ينسبونه إلى كعيب وامرأته أصيب الذي كسرهما بجذام فافتتن بذلك رعاع الناس وطغاتهم.
واختلفوا في تاريخ عام الفيل: قال مقاتل: كان أمر الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة. وقيل: بثلاثين.
وقال عبيد بن عمير والكلبي: كان قبل مولده بثلاث وعشرين سنة. وقال الآخرون: بل كانت قصة الفيل في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا أكثر العلماء وهو الأصح يدل عليه ما روى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لقباث بن أشيم الكناني الليثي: يا قباث أنت أكبر سناً أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل أخضر، وروى خرء الطير أخضر محيلاً أي: قد أتى عليه حول .
ويدل عليه أيضاً ما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس. وقيل: بعد خمسين يوماً من الفيل. وقيل: بعد قدوم أصحاب الفيل بشهرين وكان لعشرين من نيسان. وقيل: بعد قدومهم بخمس وخمسين ليلة.
قال السهيلي: وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلاً فهلكت كلها إلا محموداً وهو فيل النجاشي من أجل أنه أبى من التوجه إلى الحرم. قال: وقال ابن عباس: كان أصغر الحجارة كرأس الإنسان وكبارها كالإبل، وكانت قصة الفيل في أول المحرم من سنة اثنين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين. وقوله: " فضربوا رأسه بالطبرزين " بفتح الباء هذا هو الأصل كما ذكره البكري في المعجم والطبر هو الفأس، وقد تسكن الباء؛ لأن العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعباً ولا تقرها على حال قاله ابن جنى. وروى يونس عن ابن إسحاق: أن الفيل ربض فجعلوا يقسمون بالله أنهم رادوه إلى اليمن فيحرك لهم أذنيه كأنه يأخذ عليهم بذلك عهداً، فإذا أقسموا له قام يهرول فيردونه إلى مكة فيربض، فيحلفون له فيحرك لهم أذنيه كالمؤكد عليهم القسم ففعلوا ذلك مراراً، وفي رواية: أنهم استشعروا العذاب في ليلة ذلك اليوم؛ لأنهم نظروا إلى النجوم كالحة إليهم تكاد تكلمهم من اقترابها منهم ففزعوا لذلك.
قال المرجاني في "بهجة النفوس": وأقبلت الطير من ناحية البحر يوم الاثنين.
قال القرطبي في تفسيره: قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قبله. قال: وقال أبو صالح: ورأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة سوداء مخططة بحمرة.
فإن قيل: كيف منع أصحاب الفيل من الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكاً، ولم يمنع الحجاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكاً حين أحرقها ونصب المنجنيق عليها ، فالجواب: إن فعل الحجاج كان بعد استقرار الدين فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، وأجاب الزمخشري عنه: بأن الحجاج ما قصد التسليط على البيت وإنما تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه، ولما قصد التسليط عليه أبرهة فعل به ما فعل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنذر بهدمها، فصار الهدم آيه بعد ما كان المنع آية،
ولما رد الله سبحانه الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم من النقمة، أعظمت العرب قريشاً، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم فجعلوا يقولون في ذلك الأشعار، ويذكرون فيها ما صنع الله تعالى بالحبشة وما دفع عن قريش من كيدهم، ويذكرون الأشرم والفيل ومساقه إلى الحرم وما أراد من هدم البيت واستحلال حرمته.
وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان نبوته بعد هجرته جماعة شاهدوا الفيل منهم: " حكيم بن حزام "، و" حويطب ابن عبد العزى "، و" نوفل بن معاوية "؛ لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام.
قال كمال الدين الدميري في كتابه " حياة الحيوان ": إذا دخل إنسان على من يخاف شره فليقرأ ( كهيعص )، ( حم عسق ) وعدد حروف الكلمتين عشر يعقد لكل حرف إصبعاً من أصابعه يبدأ بإبهام اليد اليمنى ويختم بإبهام اليد اليسرى، فإذا فرغ عقد جميع الأصابع، قرأ في نفسه سورة الفيل فإذا وصل إلى قوله: ( ترميهم ) كرر لفظ ترميهم عشر مرات يفتح في كل مرة إصبعاً من الأصابع المعقودة، فإذا فعل ذلك أمن شره وهو عجيب مجرب. وكنية الفيل أبو الحجاج وأبو الحرمان وأبو دغفل وأبو كلثوم وأبو مزاحم، والفيلة أم شبل، وفي " ربيع الأبرار " كنية فيل الحبشة أبو العباس، وهو لا يتلاقح إلا في بلاده ومعادنه وإن صار أهلياً، وهو إذا اغتلم أشبه الجمل في ترك الماء والعلف حتى تتورم رأسه ولم يكن لسواسه غير الهرب منه، والذكر ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين، وزمان نزوه الربيع، والأنثى تحمل سنتين فإذا حملت لا يقربها الذكر ولا يلمسها ولا ينزو عليها إلا بعد ثلاث سنين، وقيل: تحمل سبع سنين، ولا ينزو إلا على فيلة واحدة وله عليها غيرة شديدة، وإذا تم حملها وأرادت الوضع دخلت النهر حتى تضع ولدها؛ لأنها تلد وهي قائمة ولا فواصل لقوائمها فتلد، والذكر عند ذلك يحرسها وولدها من الحيات، ويزعم أهل الهند أن لسان الفيل مقلوب لولا ذلك لتكلم، وفيه من الفهم ما يقبل به التأديب ويفعل ما تأمره من السجود للملوك وغير ذلك من الخير والشر في حالتي السلم والحرب، وفيه من الأخلاق أنه يقاتل بعضه بعضاً والمقهور منهما يخضع للقاهر، وأهل الهند يعظمونه؛ لما اشتمل عليه من الخصال المحمودة من علو سمكه وعظم صورته وبديع منظره وطول خرطومه وسعة أذنه، وطول عمره وثقل حمله وخفة وطئه فإنه ربما مر بالإنسان ولا يشعر به لحسن خطوه واستقامته، ولطول عمره حكى أرسطو أن فيلاً ظهر أن عمره أربعمائة سنة واعتبر ذلك بالموسم. وبينه وبين السنور عداوة طبيعية حتى أن الفيل يهرب منه، كما أن السبع يهرب من الديك الأبيض، وكالعقرب وأنها متى رأت الوزغة ماتت.
وذكر القزويني أن فرج الفيلة تحت بطنها، فإذا كان وقت الضراب ارتفع وبرز للفحل حتى يتمكن من إيتانه فسبحان من لا يعجزه شيء عن شيء.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء
كان من حديث الفيل ما ذكروا أن ملكاً من ملوك حمير يقال له: زرعة ذو نواس، وكانوا قد تهودوا واستجمعت معه حمير على ذلك إلا أهل نجران فإنهم كانوا على النصرانية على أصل حكم الإنجيل، ولهم رأس يقال له: عبد الله بن تامر، فدعاهم ذو نواس إلى اليهودية فأبوا فخيرهم فاختاروا المقتل، فخد لهم أخدوداً وصنف لهم المقتل، فمنهم من قتل صبراً ومنهم من أوقد له النار في الأخدود فألقاه في النار إلا رجلاً من سبأ يقال له: دوس بن ثعلبان، فهرب على فرس له يركض فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم واستنصره، فقال له: بعدت بلادك ونأت دارك عنا، ولكن سأكتب إلى ملك الحبشة فإنه على ديننا فينصرك فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره، فلما قدم على النجاشي بعث معه رجلاً من الحبشة يقال له: أرياط، وقال: إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها واسب ثلث نسائها وذراريها وابعثهم إليّ وخرب ثلث بلادها، فلما دخلوا أرض اليمن تناوشوا بسبأ من قتال ثم ظهر عليهم، ثم خرج ذو نواس على فرسه فاستعرض له البحر حتى لجج به فماتا جميعاً في البحر وكان آخر العهد به، فدخلها أرياط فعمل ما أمره به النجاشي.
ذكر الفيل حين ساقته الحبشة
قال ابن إسحاق: لما ظهرت الحبشة على أرض اليمن كان ملكهم إلى أرياط وأبرهة، وكان أرياط فوق أبرهة، فأقام أرياط باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك، وكان في جند من الحبشة فانحاز إلى كل واحد منهما من الحبشة طائفة ثم سار أحدهما إلى الآخر، فكان أرياط يكون بصنعاء ومحاليفها، وكان أبرهة يكون بالجند ومحاليفها، فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط لإنك "لا تضع" بأن تلقى الحبشة بعضهم ببعض فتفنيها بسبأ، ولكن أبرز إليّ وأبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط أن قد صدقت وانصرف، فخرج أرياط وكان رجلاً عظيماً طويلاً وسيماً وفي يده حربة له، وخرج له أبرهة وكان رجلاً قصيراً حادراً رحيماً دحداحاً، وكان ذا دين في النصرانية وخلف أبرهة عبد له يحمى ظهره يقال له: عتودة، فلما دنا أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس أبرهة يريد يأفوخه بالهمز فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة على أرياط من خلف فزرقه بالحربة فقتله، فانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وكان ما صنع أبرهة من قتله أرياط بغير علم النجاشي ملك الحبشة بأرض البسوم من بلاد الحبشة، فلما بلغه ذلك غضب غضباً شديداً وقال: عدا على أميري بغير أمري فقتله، ثم حلف النجاشي لا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته، فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه ثم ملأ جراباً من تراب أرض اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي وكتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك اختلفنا في أمرك وكلنا طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة منه وأضبط، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت به إليه مع جراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر بذلك قسمه، فلما انتهى ذلك إلى النجاشي كتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن، وبنى أبرهة عند ذلك القليس بصنعاء إلى جنب غمدان فبنى كنيسة وأحكمها وسماها القليس، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، "وليست بمبنية" حتى انصرف حاج العرب إليها ويتركوا الحج إلى بيتهم، فبنى القليس بحجارة قصر بلقيس صاحبة الصرح الذي ذكر في القرآن في قصة سليمان عليه السلام، وكان سليمان عليه السلام حين تزوجها ينزل عليها فيه إذا جاءها، فوضع الرجال " تسنعاً " يناول بعضهم بعضاً الحجارة والآلة، حتى نقل ما كان في قصر بلقيس مما احتاج إليه من حجارة ورخام وآلة البناء، وجدّ في بنائه وكان مربعاً مستوى التربيع، وجعل طوله في السماء ستين ذراعاً وكثفه من داخله عشرة أذرع في السماء، فكان يصعد إليه بدرج الرخام، وحوله سور بينه وبين القليس مائتا ذراع مطيف به من كل جانب، وجعل بناء ذلك كله بحجارة يسميها أهل اليمن الجروب منقوشة مطبقة لا تدخل بين أطباقها الإبرة، وجعل طول بنائه من الجروب عشرين ذراعاً في السماء، ثم فصل ما بين حجارة الجروب بحجارة مثلثة متداخلة بعضها ببعض، حجراً أخضر وحجراً أحمر وحجراً أبيض وحجراً أصفر وحجراً أسود، فيما بين كل ساقين خشب ساسم مدور الرأس غليظ الخشبة ناتئ على البناء، فكان مفصلاً لهذا البناء على هذه الصفة، لم فصله برخام منقوش طوله في السماء ذراعان ناتئ على البناء بذراع، ثم فصل فوق ذلك الرخام بحجارة بيضاء لها بريق وكان هذا ظاهر حائط القليس، وكان عرض حائطه ستة أذرع، وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولاً في أربعة أذرع عرضاً، وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ثمانون ذراعاً في أربعين ذراعاً معمولاً بالساج المنقوش ومسامير الذهب والفضة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعاً عن يمينه وعن يساره عقود مضروبة بالسفيسف مشجرة بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان قبة ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً منقوشة جدرها بالسفيسفاء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع في عشرة أذرع، تغشى عين من نظر إليها من بطن القبة تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت الرخامة منبر من الأبنوس مفصل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من الساج ملبسة ذهباً وفضة، وكان في القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعاً يقال لها: كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب يتبركون بها في الجاهلية، وكان أبرهة عند بناء القليس قد أخذ العمال بالعمل أخذاً شديداً وكان قد آلى أن لا تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده. قال: فتخلف رجل ممن كان يعمل فيه حتى طلعت الشمس، وكانت له أم عجوز فذهب بها معه لتستوهبه من أبرهة فأتته وهو بارز للناس فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه، فقال: لا أكذب نفسي ولا أفسد عليّ عمالي فأمر بقطع يده، فقالت له أمه: اضرب بمعولك اليوم فاليوم لك وغداً لغيرك ليس كل الدهر لك، فقال: أدبوها ثم قال لها: إن لي هذا الملك أيكون لغيري ، قالت: نعم، وكان أبرهة قد أجمع أن يبني القليس حتى يظهر على ظهره فيرى منه بحر عدن، فقال: لا أبني حجراً على حجر بعد يومي هذا وأعيا الناس من العمل، فانتشر خبر بناء أبرهة هذا البيت في العرب، فدعا رجلان من بني مالك بن كنانة فتيين منهم فأمرهما أن يذهبا إلى ذلك البيت الذي بناه أبرهة بصنعاء فيحدثا فيه فذهبا ففعلا ذلك، فدخل أبرهة البيت فرأى آثارهما فيه، فقال: من فعل هذا ، فقيل له: رجلان من العرب من أهل البيت الذي تحج إليه العرب بمكة لما أن سمعا قولك: أصرف إليها حاج العرب. جاءاها ففعلا فيها أي: أنها ليست لذلك بأهل فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه وبعث رجلاً كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم سار وخرج بالفيل معه، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا أن جهاده حق عليهم حين سمعوا أنه يريد يهدم الكعبة بيت الله الحرام، فخرج إليه رجل من أشراف اليمن من ملوك حمير يقال له: ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ومجاهدته عن بيت الله وما يريد من هدمه وإخرابه فأجابوه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأتى به أسيراً فلما أراد قتله، قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني فعسى أن يكون مقامي معك خيراً لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلاً حليماً ورعاً ذا دين في النصرانية، ومضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج إليه، حتى إذا كان في أرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبائل من خثعم ومن اتبعه من قبائل العرب فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيراً فأتى به، فقال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، فهاتان يداي على قبائل خثعم بالسمع والطاعة فأعفاه وخلى سبيله وسار معه حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال ثقيف، فقال: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون وليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات، إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه. فتجاوز عنهم وبعثوا معه أبا رغال مولى لهم يدله على مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزلهم " بالمغمس " بفتح الميم الثانية وتشديدها وقيل: بكسرها فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب، وهو قبره الذي يرجم بالمغمّس وهو الذي يقول فيه جرير بن الحطنا:
إذا مات الفرزدق فارجموه * كرجم الناس قبر أبي رغال
قال السهيلي: وروي أيضاً أن أبا رغال من ثمود، وأنه كان بالحرم حين أصاب قومه الصيحة، فلما خرج من الحرم أصابه من الهلاك ما أصاب قومه فدفن هناك، ودفن معه غصنان من ذهب، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالقبر وأمر باستخراج الغصنين منه فاستخرجا. انتهى.
ولما نزل أبرهة المغمّس بعث رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال " أهل الحرم " من قريش وغيرهم فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وخزاعة وكنانة وهذيل ومن كان في الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم بقتاله فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، فقال له: سل عن سيد أهل هذه البلدة وشريفهم ثم قل لهم: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا لقتال فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو " لم " يرد حربي فائتني به، فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له: عبد المطلب فأرسل إلى عبد المطلب فأخبره بما قال أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، وهذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع. فقال له حناطة: فانطلق إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك، فانطلق معه عبد المطلب وأردفه على بغلة له كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقاً حتى دل عليه وهو في مجلسه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ، فقال ذو نفر: وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله بكرة وعشية، ما عندي غناء من شيء مما نزل بك غلا أن أنيساً سائس الفيل صديق لي، فأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك وتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، قال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت، فقال: أفعل فكلم أنيس أبرهة فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عير مكة وهو سيدها وهو يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رؤوس الجبال فأذن له عليك فليكلمك، فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب أوسم رجل وأعظمه وأجمله فأذن له، فلما دخل عليه ورآه أبرهة أجله وكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة معه على سريره فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه قل له: ما حاجتك ، فقال له الترجمان: إن الملك يقول لك ما حاجتك ، قال: حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك وقد جئت أهدمه ولا تكلمني فيه. قال عبد المطلب: إني أنا رب إبلي وإن للبيت ربّاً سيمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. قال: أنت وذاك.
قال ابن إسحاق: وكان قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه " حناطة الحميري " " يعمر بن نفاشة بن عدي " من بني كنانة وهو يومئذ سيد بني بكر، " وخويلد بن واثلة " وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم، ورد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي كان أصابها، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال خوفاً عليهم من " معرة الجيش "، ثم أقام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وعلى جنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن المرء يمنع رحل * ه فامنع حلالك
لا يغبن صليبهم * ومحالهم عدواً محالك
جروا جميع بلادهم * والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حمادك بكيدهم * جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعتن * ا فأمر ما بـدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها ، ولما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهدم الكعبة وهيأ فيله وعبأ جيشه وقدم فيله أمام جيشه، وكان اسم الفيل محموداً وكان فيل النجاشي بعثه إلى أبرهة وكان فيلاً لم ير مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوة.
وقال مقاتل: لم يكن معهم إلا ذلك الفيل الواحد فلذلك قال تعالى: ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ). وقال الضحاك: كانت الفيلة ثمانية غير الفيل الأعظم. وقيل: اثني عشر فيلاً. وقيل: ألف فيل. وقيل: إنما وحد في القرآن لوفاق رؤوس الآي. وقيل: نسبهم إلى الفيل الأعظم. فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل فالتقم أذنه فقال: ابرك محموداً وارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل أذنه فبرك، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى صعد في الجبل، فضربوا الفيل ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبرزين فأبى فأدخلوا محاجمهم تحت مراقه ومرافقه فدفعوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس وفي رواية: فوق العدسة ودون الحمصة بتشديد الميم وبتخفيفها فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك وليس كلهم أصابت، فذلك قوله تعالى ( وأرسل عليهم طيراً أبابيل ). أي: أقاطيع كالإبل المؤبلة يتبع بعضها بعضاً، واحدها إبالة. وقيل: متفرقة. يقال: جاءت الخيل أبابيل أي متفرقة ومن هاهنا وهاهنا. قال أبو عبيد: لا واحد لها. وقيل: واحدها إبول كعجول، أو إبّيل كسكين، أو أبولة وهي الحزمة الكبيرة من الحطب، شبهت الطير بها لكثرتها واجتماعها.
وقال ابن عباس: لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة: كان لها رؤوس كرؤوس السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده. وقال ربيع: لها أنياب كأنياب السباع. وقال سعيد بن جبير: طير خضر لها مناقير صفر. وقالت عائشة رضي الله عنها: هي أشبه شيء بالخطاطيف. وقيل: أشباه الوطاويط وكانت حمرا. وقيل: سودا. وقيل: بيضاء. وقال أبو الجوزاء: أنشأها الله في ذلك الوقت. وقوله تعالى: ( ترميهم بحجارة من سجيل ). أي: من طين مطبوخ بالنار كما يطبخ الآجر مكتوب فيها أسماء القوم. وقيل: معرب من سنك وكل فسنك هو الحجر وكل هو الطين والماء. وقيل: من سجيل أي من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط. وقيل: من الجحيم وهي سجين ثم أبدلت اللام نوناً.
قال الزمخشري: وسجيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار كما أن سجيناً علم لديوان أعمالهم، كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال؛ لأن العذاب موصوف بذلك، كقوله: ( فأرسلنا عليهم الطوفان ). ( وأرسل عليهم ).
قال ابن مسعود: وصاحت الطير ورمتهم، وبعث الله ريحاً فضربت الحجارة فزادتها شدة فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره. فقوله: ( فجعلهم كعصف مأكول ). أي: كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه.
ويروى: أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة. ويروى: أنها لم تصيبهم كلهم لكنها أصابت من شاء الله منهم. وقيل: هلك القوم جميعاً فلما رأت الحبشة ذلك خرجوا هاربين يبتدرون التي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، وقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من عذابه:
أين الـمفر والإله الطالب * والأشرم المغلوب غير الغالب
ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال، وقد خرج القوم وماج بعضهم في بعض، فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منها، وبعث الله على أبرهة داءً في جسده فجعل تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعتها مدة من قيح ودم فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير ممن بقي من أصحابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك، وأقام بمكة ضعف الجيش وبعض من ضمه العسكر فكانوا بمكة يعتملون ويرعون لأهل مكة. انتهت قصة أصحاب الفيل.
قال مقاتل بن سليمان: إن السبب الذي جر حديث أصحاب هو أن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى أرض النجاشي فساروا حتى دنوا من ساحل البحر في سند حقف من أحقافه ببيعة للنصارى تسميها قريش " الهيكل "، ويسميها النجاشي وأهل أرضه " الماسرجسان "، فنزل القوم في عندها فجمعوا حطباً وأججوا ناراً وشووا لحماً، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف فعجت الرياح فاضطرم الهيكل ناراً، وانطلق الصريخ إلى النجاشي فأخبره فأسف عند ذلك غضباً للبيعة فبعث أبرهة لهدم الكعبة.
وقال فيه: وكان بمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي، كان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة وكان رجلاً نبيهاً نبيلاً عاقلاً، وكان لعبد المطلب خليلاً فقال عبد المطلب يا أبا مسعود: هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك فماذا عندك? فقال أبو مسعود لعبد المطلب: اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها حرماً لله وقلدها نعلاً ثم أثبتها في الحرم لعل بعض هؤلاء السودان يعقر منها فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم، ففعل مثل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها فجعل عبد المطلب يدعو، فقال أبو مسعود: إن لهذا البيت رباً يمننعه فقد نزل تبع ملك اليمن بصحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض وعظمه ونحر له جزوراً فانظر نحو اليمين هل ترى شيئاً ، فنظر عبد المطلب فقال: أرى طيراً بيضاً نشأت من شاطئ البحر وحلقت على رؤوسنا فقال: هل تعرفها ، قال: والله ما أعرفها ما هي بنجدية ولا غربية ولا شامية وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة. قال: ما قدرها ، قال: أشباه اليعاسيب، في مناقيرها حصى كأنها حصى الخذف قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضاً، أمام كل دفعة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق فجاءت حتى إذا حازت عسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم ثم أمالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه ثم رجعت من حيث جاءت وقيل: كان على كل حجر مكتوباً " من أطاع الله نجا ومن عصاه غوى " فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا فلم يؤنسا أحداً، ثم مشيا فلم يسمعا حساً فقالا: بات القوم سامدين فأصبحوا نياماً، فلما دنوا من عسكر القوم إذا هم خامدون، وكان الحجر يقع على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابه ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فأخذ عبد المطلب فأساً وحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيد وحفر لصاحبه فملأه، ثم قال لأبي مسعود: هات خاتمك فاختر إن شئت أخذت حفرتي وإن شئت حفرتك وإن شئت فهما لك. فقال أبو مسعود: اختر لي على نفسك. فقال عبد المطلب: إني لم أك أن أجعل المتاع في حفرتي فهي لك. وجلس كل واحد منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا بذلك ذرعاً، وساد عبد المطلب بذلك قريشاً فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في غنة من ذلك المال إلى أن ماتا.
وقال الواقدي بإسناده: وجه النجاشي أرياط بأربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها فأكرم الملوك واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له: أبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه فقتل أرياط وغلب على اليمن، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج قال: أين يذهب الناس ، فقالوا: يحجون بيت الله بمكة. قال: مم هو ، قالوا: من حجارة. قال: فما كسوته? قالوا: الوصائل. قال: والمسيح لأبنين لكم خيراً منه. فبنى لهم بيتاً عمله بالرخام الأبيض والأسود والأحمر والأصفر وحلاه بالذهب والفضة وحفه بالجواهر، وجعل له أبواباً عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب ورصّعها بالجواهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة وجعل لها حجّاباً، وكان يوقد بالمندل ويلطخ جدره بالمسك حتى يطيب الجواهر، وأمر الناس بحجه فحجه كثير من قبائل العرب سنين ومكث فيه رجال يتعبدون ويتنسكون، فأمهل نفيل الخثعمي حتى كان ليلة من الليالي ولم ير أحداً يتحرك جاء بعذرة فلطخ بها قبلته وألقى فيه الجيف، فأخبر أبرهة بذلك فغضب غضباً شديداً وقال: إنما فعل هذا العرب غضباً لبيتهم لأنقضه حجراً حجراً. وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محموداً، وكان فيلاً لم ير مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوة فبعث به إليه فغزا البيت كما ذكرنا إلى أن قال: أقبلت الطير من البحر مع كل طائر حجران في رجليه وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم لا تصيب شيئاً إلا هشمته وإلا نفط ذلك الموضع، وكان ذلك أول ما رؤي الجدري والحصبة بأرض العرب ذلك العام، وأول ما رؤي بها من أمر الشجر من الحرمل والحنظل والعشر في ذلك العام فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلاً آتياً فذهب بهم إلى البحر فألقاهم فيه، وولى أبرهة ومن بقي معه هراباً، فجعل أبرهة يسقط عضواً عضواً حتى مات، وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأما الآخر فشجعت فحصبت وهلكت.
قال الأزرقي: وقال بعض المكيين: أول ما كانت بمكة حمام اليمام الحرمية ذلك الزمان، يقال: إنها من نسل الطير التي رمت أصحاب الفيل حين خرجت من البحر من جدة.
وقال الكلبي: لما أهلكهم الله بالحجارة لم يفلت منهم إلا أبرهة أبو يكسوم فسار وطائر يطير فوقه ولم يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم، فلما استتم كلامه رماه الطائر فسقط ميتاً فأرى الله النجاشي كيف كان هلاك أصحابه.
وقال الواقدي: كان أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به وقال القرطبي في التفسير: وكان أصحاب الفيل ستين ألفاً لم يرجع منهم إلا أميرهم رجع ومعه شرذمة لطيفة، فلما أخبروا بما رأوا أهلكوا.
وقال السهيلي: فلما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق وأقفر ما حول هذه الكنيسة فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ شيئاً منها أصابته الجن فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من المال، لا يستطيع أحد أن يأخذ منها شيئاً إلى زمن أبي العباس السفاح، فذكر له من أمرها وما يتهيب من جنها وحيّاتها فلم يرعه ذلك وبعث إليها أبا العباس بن الربيع عامله على اليمن معه أهل الحزم والجلادة فخربها وحصلوا منها مالاً كثيراً، بيع ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها، فعفى بعد ذلك رسمها وانقطع خبرها واندرست آثارها، وكان الذي يصيبهم من الجن ينسبونه إلى كعيب وامرأته أصيب الذي كسرهما بجذام فافتتن بذلك رعاع الناس وطغاتهم.
واختلفوا في تاريخ عام الفيل: قال مقاتل: كان أمر الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة. وقيل: بثلاثين.
وقال عبيد بن عمير والكلبي: كان قبل مولده بثلاث وعشرين سنة. وقال الآخرون: بل كانت قصة الفيل في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا أكثر العلماء وهو الأصح يدل عليه ما روى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لقباث بن أشيم الكناني الليثي: يا قباث أنت أكبر سناً أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل أخضر، وروى خرء الطير أخضر محيلاً أي: قد أتى عليه حول .
ويدل عليه أيضاً ما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس. وقيل: بعد خمسين يوماً من الفيل. وقيل: بعد قدوم أصحاب الفيل بشهرين وكان لعشرين من نيسان. وقيل: بعد قدومهم بخمس وخمسين ليلة.
قال السهيلي: وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلاً فهلكت كلها إلا محموداً وهو فيل النجاشي من أجل أنه أبى من التوجه إلى الحرم. قال: وقال ابن عباس: كان أصغر الحجارة كرأس الإنسان وكبارها كالإبل، وكانت قصة الفيل في أول المحرم من سنة اثنين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين. وقوله: " فضربوا رأسه بالطبرزين " بفتح الباء هذا هو الأصل كما ذكره البكري في المعجم والطبر هو الفأس، وقد تسكن الباء؛ لأن العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعباً ولا تقرها على حال قاله ابن جنى. وروى يونس عن ابن إسحاق: أن الفيل ربض فجعلوا يقسمون بالله أنهم رادوه إلى اليمن فيحرك لهم أذنيه كأنه يأخذ عليهم بذلك عهداً، فإذا أقسموا له قام يهرول فيردونه إلى مكة فيربض، فيحلفون له فيحرك لهم أذنيه كالمؤكد عليهم القسم ففعلوا ذلك مراراً، وفي رواية: أنهم استشعروا العذاب في ليلة ذلك اليوم؛ لأنهم نظروا إلى النجوم كالحة إليهم تكاد تكلمهم من اقترابها منهم ففزعوا لذلك.
قال المرجاني في "بهجة النفوس": وأقبلت الطير من ناحية البحر يوم الاثنين.
قال القرطبي في تفسيره: قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قبله. قال: وقال أبو صالح: ورأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة سوداء مخططة بحمرة.
فإن قيل: كيف منع أصحاب الفيل من الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكاً، ولم يمنع الحجاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكاً حين أحرقها ونصب المنجنيق عليها ، فالجواب: إن فعل الحجاج كان بعد استقرار الدين فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، وأجاب الزمخشري عنه: بأن الحجاج ما قصد التسليط على البيت وإنما تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه، ولما قصد التسليط عليه أبرهة فعل به ما فعل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنذر بهدمها، فصار الهدم آيه بعد ما كان المنع آية،
ولما رد الله سبحانه الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم من النقمة، أعظمت العرب قريشاً، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم فجعلوا يقولون في ذلك الأشعار، ويذكرون فيها ما صنع الله تعالى بالحبشة وما دفع عن قريش من كيدهم، ويذكرون الأشرم والفيل ومساقه إلى الحرم وما أراد من هدم البيت واستحلال حرمته.
وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان نبوته بعد هجرته جماعة شاهدوا الفيل منهم: " حكيم بن حزام "، و" حويطب ابن عبد العزى "، و" نوفل بن معاوية "؛ لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام.
قال كمال الدين الدميري في كتابه " حياة الحيوان ": إذا دخل إنسان على من يخاف شره فليقرأ ( كهيعص )، ( حم عسق ) وعدد حروف الكلمتين عشر يعقد لكل حرف إصبعاً من أصابعه يبدأ بإبهام اليد اليمنى ويختم بإبهام اليد اليسرى، فإذا فرغ عقد جميع الأصابع، قرأ في نفسه سورة الفيل فإذا وصل إلى قوله: ( ترميهم ) كرر لفظ ترميهم عشر مرات يفتح في كل مرة إصبعاً من الأصابع المعقودة، فإذا فعل ذلك أمن شره وهو عجيب مجرب. وكنية الفيل أبو الحجاج وأبو الحرمان وأبو دغفل وأبو كلثوم وأبو مزاحم، والفيلة أم شبل، وفي " ربيع الأبرار " كنية فيل الحبشة أبو العباس، وهو لا يتلاقح إلا في بلاده ومعادنه وإن صار أهلياً، وهو إذا اغتلم أشبه الجمل في ترك الماء والعلف حتى تتورم رأسه ولم يكن لسواسه غير الهرب منه، والذكر ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين، وزمان نزوه الربيع، والأنثى تحمل سنتين فإذا حملت لا يقربها الذكر ولا يلمسها ولا ينزو عليها إلا بعد ثلاث سنين، وقيل: تحمل سبع سنين، ولا ينزو إلا على فيلة واحدة وله عليها غيرة شديدة، وإذا تم حملها وأرادت الوضع دخلت النهر حتى تضع ولدها؛ لأنها تلد وهي قائمة ولا فواصل لقوائمها فتلد، والذكر عند ذلك يحرسها وولدها من الحيات، ويزعم أهل الهند أن لسان الفيل مقلوب لولا ذلك لتكلم، وفيه من الفهم ما يقبل به التأديب ويفعل ما تأمره من السجود للملوك وغير ذلك من الخير والشر في حالتي السلم والحرب، وفيه من الأخلاق أنه يقاتل بعضه بعضاً والمقهور منهما يخضع للقاهر، وأهل الهند يعظمونه؛ لما اشتمل عليه من الخصال المحمودة من علو سمكه وعظم صورته وبديع منظره وطول خرطومه وسعة أذنه، وطول عمره وثقل حمله وخفة وطئه فإنه ربما مر بالإنسان ولا يشعر به لحسن خطوه واستقامته، ولطول عمره حكى أرسطو أن فيلاً ظهر أن عمره أربعمائة سنة واعتبر ذلك بالموسم. وبينه وبين السنور عداوة طبيعية حتى أن الفيل يهرب منه، كما أن السبع يهرب من الديك الأبيض، وكالعقرب وأنها متى رأت الوزغة ماتت.
وذكر القزويني أن فرج الفيلة تحت بطنها، فإذا كان وقت الضراب ارتفع وبرز للفحل حتى يتمكن من إيتانه فسبحان من لا يعجزه شيء عن شيء.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء