بّسم الله الرّحمن الرّحيم
تاريخ مكة المكرمة
الجبال المباركة بمكة المشرفة وحرمها
وأما الجبال المباركة بمكة وحرمها فمنها:
● الجبل المعروف بأبي قبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا وهو أحد أخشبي مكة، والآخر الأحمر، وإنما سمي أبا قبيس لثلاثة أوجه؛ أحدهما: أنه سمي برجل من إياد يقال له: أبو قبيس بنى فيه فلما صعد البناء فيه سمي جبل أبي قبيس كذا ذكر الأزرقي، وقيل: إن هذا الجبل من مذحج ذكره ابن الجوزي. والثاني: أن الحجر الأسود استودع فيه عام الطوفان، فلما بنى الخليل الكعبة نادى أبو قبيس: الركن منى بمكان كذا وكذا كما قدمناه. والثالث: سمي بقبيس ابن سالح رجل من جرهم كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه ميّة، فنذرت أن لا تكلمه وكان شديد الكلف بها، فحلق ليقتلن قبيساً فهرب منه في الجبل المعروف به وانقطع خبره، فإما مات فيه وإما تردى منه، وهو خبر طويل ذكره ابن هشام في عبر السيرة. وصحح النووي في " التهذيب " الوجه الأول، وقال: إن الوجه الثاني ضعيف أو غلط.
وقال الأزرقي: الأول أشهر عند أهل مكة وكان يسمى في الجاهلية الأمين؛ للمعنى الذي ذكرناه في الوجه الثاني وهذا مما يقويه ويرجحه على الوجهين الأخيرين. والله أعلم.
وعن مجاهد قال: أول جبل وضعه الله على الأرض حين مادت أبو قبيس ثم حدثت منه الجبال ذكره الأزرقي والواحدي، وقبر آدم فيه على ما قال وهب بن منبه في غار يقال له: غار الكنز وهو غير معروف الآن. وقيل: إن قبره بمسجد الخيف بعد أن صلى عليه جبريل عند باب الكعبة حكاه الفاكهي عن عروة بن الزبير، وذكره ابن الجوزي في " درياق القلوب " وقال" دفنته الملائكة به. وقيل: عند مسجد الخيف ذكره الذهبي، وفي منسك الفارسي. وقيل: عند منارة مسجده، وقيل: قبره في الهند في الموضع الذي أهبط إليه من الجنة وصححه الحافظ ابن كثير.
وقال الأزرقي: إن قبر آدم وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف في بيت المقدس. وقد تقدمت هذه الأقوال مع زيادة فوائد في أوائل هذا الباب. وفي أبي قبيس على ما قيل: قبر شيث بن آدم وأمه حواء كذا ذكر الذهبي في جزء ألفه في تاريخ مدة آدم وبنيه؛ لأنه قال: ودفن شيث مع أبويه في غار أبي قبيس.
وتقدم في باب الفضائل وغيره حديث الكتاب الموجود في الركن وفيه: أن مكة لا تزول حتى يزول أخشباها. وتقدم في أول الباب أن إبراهيم عليه السلام أذّن في الناس بالحج على أبي قبيس على أحد الأقوال. وقال ابن النقاش في " فهم المناسك ": من صعد في كل جمعة إلى أبي قبيس رأى الحرم مثل الطير يزهر، وإن صعد إلى ثور أو حراء أو ثبير كان أثبت لنظره ومشاهدته، وخصوصاً ليالي رجب وشعبان ورمضان وليالي الأعياد.
وجبال مكة تسمى جبال فاران كذا وجد في الفصل العشرين من السفر الخامس عن موسى عليه السلام أن الرب جاء من طور سيناء وأشرق من ساعين واستعلن من جبال فاران فمجئ الله من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى، وإشراقه من " ساعين " إنزاله الإنجيل على عيسى؛ لأنه كان يسكن في " ساعين " أرض الخليل في قرية ناصرة، واستعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وفاران هي جبال مكة في قول الجميع.
قال علماء التاريخ: جميع ما عرف في الأرض من الجبال مائة وثمانية وتسعون جبلاً، من أعجبها سرنديب، وهو أقرب ذرا الأرض إلى السماء. وقيل: صخرة بيت المقدس أقرب ذرا الأرض من السماء بثمانية عشر ميلاً حكاه القرطبي. وطول جبل سرنديب مائتان ونيف وستون ميلاً، فيه أثر قدم آدم وعليه شبه البرق، لا يذهب شتاء ولا صيفاً، وحوله الياقوت وفي واديه الماس، وفيه العود والفلفل ودابة المسك وهر الزباد، ووادي سرنديب متصل إلى قرب سيلان. وجبل الردم الذي فيه السد طوله سبعمائة فرسخ، وينتهي إلى البحر المظلم. وجبل قاف من زمردة خضراء محيط بالسموات والأرض، ومنه اخضرت السماء، دائر بالأرض من وراء البحر المحيط والسماء عليه مقببة، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل.
وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل فرأى تحته جبالاً صغاراً فقال له: ما أنت، قال: أنا قاف. قال: فما هذه الجبال حولك، قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزل تلك الأرض. فقال: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله تعالى. قال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أيضاً مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج، يحطم بعضها بعضاً لولا هي لاحترقت من حر جهنم. قال المرجاني: واسم جبل قاف عيلهون قال: ولأجل هذا الاسم منع استعمال تلك الحفيظة حكاه المازري، قال: ووراء قاف أرض بيضاء كافورية مثل الدنيا سبع مرات، ومن خلفها السبعة الأبحر:
أولها: يبطس، الثاني: قيس، الثالث: الأصم، الرابع: المظلم، الخامس: مايس، السادس: الساكن، السابع: الباكي وهي محيطة بعضها ببعض حكاه الكسائي.
قال وهب: خلقها الله في اليوم الثالث. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما تجلى الله لجبل طور سيناء تشظى منه شظايا، فنزلت بمكة ثلاثة؛ حراء وقديد وثور، وبالمدينة أحد وعير وورقان ". وعنه أيضاً قال: " صار لعظمة الله ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد وورقان ورضوى، ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء ". وقيل: نزلت بمكة أربعة حراء وثبير وثور وقديد. انتهى.
قال المرجاني: ولم نعلم أن بحرم مكة جبلاً يقال له: قديداً، إنما قديد بينها وبينه مقدار أربعة أيام أو خمسة. والطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وهو أحد جبال الجنة، وعن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربعة جبال من جبال، أو أربعة أنهار من أنهار الجنة، وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة ". قيل: فما الأجبل، قال: " أحد جبل يحبنا ونحبه، والطور من جبال الجنة، ولبنان من جبال الجنة وخصيب من جبال الجنة وهو بالروحاء والأنهار: النيل والفرات وسيحان وجيحان، والملاحم: بدر وأحد والخندق وخيبر ". قال: التوربشتى شارح المصابيح وفي قوله صلى الله عليه وسلم :" أربعة أنهار من أنهار الجنة ". الحديث وجهان؛ أحدهما: أن نقول: إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة؛ لما فيها من السلاسلة والعذوبة والهضم وتضمنها البركة الإلهية وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم منها، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم في عجوة المدينة: " إنها من ثمار الجنة ". والآخر أن نقول: يحتمل أنه سمى الأنهار التي هي أصول أنهار الجنة بتلك الأسامي؛ ليعلم أنها في الجنة بمثابة الأنهار الأربعة في الدنيا، أو لأنها مسميات بتلك المسميات فوقع الاشتراك فيها. انتهى. والطور هو الذي أقسم الله تعالى به بقوله: (والطور وكتاب مسطور). لفضله على الجبال إذ روى أن الله أوحى إلى الجبال أني مهبط على أحدكم أمري يريد رسالة موسى فتطاولت كلها إلا الطور فإنه استكان لأمر الله وقال: حسبي الله. فأهبط الله الأمر عليه ذكره ابن عطية. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة أي سفينة نوح ترسو على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعاً لله تعالى فاستوت السفينة عليه وبقيت عليه أعواده. وقال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق، فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعاً، وتواضع الجودي فلم يغرق ورست السفينة عليه. ويقال: إن الجودي من جبال الجنة فلهذا استوت عليه. ويقال أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلى الله عليه وسلم ذكره القرطبي. وقال: لما تواضع الجودي وخضع عز، ولما ارتفع غيره واستعلا ذل، وهذه سنة الله في خلقه يرفع من يخشع ويضع من ترفع. ولقد أحسن القائل:
وإذا تذللت الرقاب تخضعاً * منا إليك فعزها فـي ذلـهـا
ومن ذلك قصة " القصواء " ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت لا تسبق فسبقها قعود لأعرابي يوماً، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً في الدنيا إلا وضعه ". انتهى.
وبحرم مكة اثنا عشر ألف جبل ذكره الأزرقي في الجبال، وفي أبي قبيس انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره الحافظ قطب الدين الحلبي؛ لأنه قال: كان يرى نصفه على قعيقعان ونصفه الآخر على أبي قبيس. وذكر القطب أن أبا نعيم الحافظ روى بسنده إلى ابن عباس أن ذلك يعني انشقاق القمر ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفاً على الصفا ونصفاً على المروة. انتهى. والصفا محسوب من أبي قبيس على ما ذكره العلماء فلا يضاد ما ذكره القطب من أن نصف القمر على أبي قبيس. وذكر القرطبي في ذلك خبراً وقال: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كنت صادقاً فاشقق لنا القمر فرقتين؛ نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن فعلت تؤمنون بي ". قالوا: نعم. وكانت تلك ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا: فانشق القمر فرقتين ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين: " يا فلان يا فلان، اشهدوا ". وأما كون الانشقاق وقع في أبي قبيس في الموضع الذي يقوله الناس اليوم فلم أر ما يدل على ذلك، وقد اختلفت الأحاديث في موضع انشقاق القمر، ففي مسند عبد حميد والترمذي عن أنس أنه وقع بمكة. وفي صحيح مسلم حديث ابن مسعود أنه وقع بمنى. وفي تفسير ابن عطية: قال ابن مسعود: رأيته انشق فذهب فرقة وراء جبل حراء. وقد تقدم في الأماكن المستجاب فيها الدعاء أن الدعاء يستجاب في أبي قبيس، ومن عجائبه ما ذكر القزويني في كتابه " عجائب المخلوقات ": من أنه يزعم الناس أن من أكل عليه الرأس المشوي يأمن أوجاع الرأس، قال: وكثير من الناس يفعل ذلك. انتهى.
قال قوام الدين في " التبيين " شرح الأخسبكتي في باب حروف المعاني: لما ذكر عن الشافعي رضي الله عنه أن الواو للترتيب، وقال: قد أنكر عليه أصحابه في هذا؛ لأنه قول لم يقل به أحد لمخالفته لموضوع اللغة، ثم قال قوام الدين: والعجب من الغزالي حيث قرع صفات الحسن البصري وطعن على مالك وشنع على أبي حنيفة في آخر منخوله فقال: وأما أبو حنيفة فلم يكن مجتهداً، لأنه لا يعرف اللغة وعليه يدل قوله: لو رماه بأبو قبيس. ثم غفل عن سهو إمامه ولقد صدقوا في قولهم: حبك للشيء يعمى ويصم. والجواب عنه من وجوه: أحدها: إنا نقول: لا نسلم أن أبا حنيفة تكلم بهذه الكلمة أصلاً وما ذاك إلا افتراء عليه، فأي مسألة تعلقت بها وأي كتاب من كتب أصحابه حواها، وأي دليل دل عليها، والله والله إن بعض الظن إثم.
والثاني: فرضنا أنه تكلم بمثل هذه الكلمة لكن لا نسلم أنه أخطأ؛ لأنه يجوز بطريق الحكاية مثل هذا لقوله:
وجدنا في كتاب بني تميم * أحق الخيل بالركض المعار
برفع القاف والراء. وكقولهم: قرأت (سورة أنزلناها) . بضم سورة. وقولهم: بدأت بالحمد لله. بضم الدال، ولا تنكر الحكاية، وهو أن ينقل القول على ما كان إلا من لا يمس بعلم الإعراب أو من له مس من الجنون، والجنون فنون.
والثالث: فرضنا أنه أخطأ كما زعم هذا القائل، لكن لا نسلم أن الشخص لا يكون مجتهداً إذا أخطأ في شيء؛ لأن القول بإصابة كل مجتهد ليس بمذهب المسلمين، بل المجتهد يجوز له الخطأ والصواب؛ لأنه ليس بمعصوم، ثم نقول: هلا أورد الغزالي في كتابه ما أخذ أهل اللغة على إمامه في أشياء من الغلط.! الأول: قوله في " أحكام القرآن ": (ذلك أدنى أن لا تعولوا). أي: لا تكثر عيالكم، وإنما معناه لا تميلوا، والثاني: قوله في كتابه هذا: إن الواو للترتيب، وإنما هي لمطلق الجمع. والثالث: قوله في كتابه: ماء مالح، وإنما هو ماء ملح؛ لقوله تعالى: (ملح أجاج). والرابع قوله: إذا أشلى كلبه يريد به أغراه وإنما يقال: أشلاه إذا استدعاه. والخامس: الغرم الهلاك، وإنما الغرم اللزوم إلى غير ذلك.
ثم الغزالي شنع في كتابه " المنخول " في أشياء من غير حجة على دعواه ولا دليل على ما خيل له، والله إنا كنا نعتقده غاية الاعتقاد لأجل ما جمع في " إحيائه " من كلمات المشايخ بالنظر إلى الظاهر، ثم لما رأينا طعنه على الكبار بلا إقامة برهان حصل بنا منه ما حصل، ولقد صدقوا في قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. اللهم ارزقنا الصدق والوفاء ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا وهيئ لنا من أمرنا رشداً. انتهى كلام قوام الدين وهذا لفظه.
● ومنها: جبل حراء بأعلى مكة وهو ممدود، ومنهم من يذهب فيه إلى التذكير فيصرفه، ومنهم من يذهب فيه إلى التأنيث فيمنعه الصرف. وهذا الجبل من مكة على ثلاثة أميال كما ذكره صاحب المطالع وغيره، وهو مقابل لثبير والوادي بينهما، وهما على يسار السالك إلى منى، وحراء قبلي ثبير مما يلي شمال الشمس، وأما ثور فمن جهة الجنوب من على يمين الشمس، و" يسمي هذا الجبل بعضهم جبل النور "، ولعمري إنه كذلك لكثرة مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم وتعبده فيه، وما خصه الله فيه من الكرامة بالرسالة إليه ونزول الوحي فيه عليه، وذلك في غار في أعلاه مشهور يأثره الخلف عن السلف رحمهم الله ويقصدونه بالزيارة، وأما ما ذكر الأزرقي في تاريخه في ذكر الجبال: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى هذا الجبل واختبئ فيه من المشركين في غار في رأسه مشرف مما يلي القبلة. فقال بعض من عاصرناه: إن هذا ليس بمعروف، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختبئ من المشركين إلا في غار ثور بأسفل مكة. انتهى.
ويؤيد ما ذكره الأزرقي ما قاله القاضي عياض ثم الشهيلي في " الروض الأنف "، أن قريشاً حين طلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير فقال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني يا رسول الله، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فيعذبني الله، فناداه حراء إليّ يا رسول الله. فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اختبئ فيه من المشركين في واقعة ثم اختفى في ثور في واقعة أخرى وهي خبر الهجرة.
وقال السهيلي في حديث الهجرة: وأحسب في الحديث أن ثوراً ناداه أيضاً لما قال له ثبير: اهبط عني. وهذا الغار الذي في الجبل مشهور بالخير والبركة؛ لحديث بدء الوحي الثابت في الصحيحين، وأورد ابن أبي جمرة سؤالاً وهو: أنه لم اختص صلى الله عليه وسلم بغار حراء فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من المواضع ولم يبدله في طول تحنثه، وأجاب عن ذلك بأن هذا الغار له فضل زائد على غيره من قبل أن يكون فيه منزوياً مجموعاً لتحنثه وهو يبصر بيت ربه والنظر إلى البيت عبادة، فكان له اجتماع ثلاث عبادات وهي الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت، وجمع هذه الثلاث أولى من الاقتصار على بعضها دون بعض، وغيره من الأماكن ليس فيه ذلك المعنى، فجمع له صلى الله عليه وسلم في المبادي كل حسن بادي. انتهى.
وعن ابن أبي مليكة قال: جاءت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحيس وهو بحراء فجاءه جبريل فقال: " يا محمد هذه خديجة قد جاءتك تحمل حيساً معها والله يأمرك أن تقرئها السلام وتبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب "، فلما أن رقت خديجة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " يا خديجة إن جبريل جاءني والله يقرئك السلام، ويبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ". فقالت خديجة: الله السلام ومن الله السلام وعلى جبريل السلام. رواه الأزرقي.
وذكر المرجاني في " بهجة النفوس " عجيبة، قال: خرجت في بعض الأيام إلى زيارة حراء وكان يوم السبت الثاني من جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وكان يوم غيم فلما كان بعد الظهر سمعت لبعض تلك الحجار فيه أصواتاً عجيبة فرفعت حجرين منها في كل كف حجر، فكنت أجد رعدة الحجر في يدي وهو يصيح، ثم إني رفعت يدي فصاحت كل واحدة من أصابعي أيضاً وكان محل الصياح قامة من الأرض فما كان على سمتها صاح وما كان أرفع من ذلك أو أخفض لم يتكلم فعلمت أن ذلك تسبيح فدعوت الله تعالى بما تيسر فلما طلعت الشمس سكت فقست الشمس فوجدت ظل كل شيء مثله ومثل ربعه فقدرته بعد ذلك بالإسطرلان فكانت تلك هي الساعة العاشرة وكان صوت الحجر يسمع من مدى مائة خطوة، قال: فذكرت ما رأيته لوالدي - رحمه الله - فقال: وأنا جرى لي بحراء شبه ذلك وذلك أنا كنا جماعة بائتين به وكانت ليلة غيم فقمت في أثناء الليل وإذا بإبريق للفقراء وشبه النار خارج منه وقد أضاء المكان من ذلك قال: فأيقظت الجماعة وكنت أفتح كفي فيبقى على رأس كل إصبع شعلة نار مثل الشمع قال: فوضعت عمامتي على عكاز ورفعته فأشعل كالشعل فذكرنا ذلك لبعض الصالحين فقال: مرت بكم سحابة السكون. قال المرجاني: والصفتان واحدة إلا أني رأيت ذلك نهاراً فكان ضوءاً وهم رأوه ليلاً فكان نوراً قال: ثم إني صعدت الجبل أيضاً يوم السبت الثامن عشر من شوال سنة أربع وخمسين وسبعمائة وكان معي جماعة منهم به فاتفق لي مثل ذلك ورآه الجماعة.
قال المرجاني: وحدثني والدي عن بعض من أدركه من كبراء وقته أنه كان يصعد معه إلى حراء في كل عام مرة فيلتقط ذلك الشخص من بعض الحجارة قال: فسألته عن ذلك فقال: أخرج منها نفقتي به العام ذهباً إبريزاً. انتهى كلام المرجاني،
قيل: كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيه إلى القدس وقيل: إنما كان يصلي ذلك الوقت إلى الكعبة ثم انتقل إلى بيت المقدس ثم بعد ذلك تحول إلى الكعبة، قالوا: وفي حراء رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في الخلقة الأولى له ستمائة جناح قد سد الأفق.
● ومنها جبل ثور بأسفل مكة وسماه البكرى أبا ثور والمعروف فيه ثور كما ذكره الأزرقي والمحب الطبري وهو من مكة على ثلاثة أميال كما ذكره ابن الحاج وابن جبير وقال البكري: إنه على ميلين من مكة وإن ارتفاعه نحو ميل. قال المرجاني: وسمى الجبل ثوراً وإنما اسمه المحل سمي بثور بن مناة بن طائخة؛ لأنه كان ينزله. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق اختليا فيه في غار به وهو مشهور يأثره الخلف عن السلف، وهو الذي ذكره الله سبحانه في القرآن في قوله: (ثاني اثنين إذ هما في الغار) وفي حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لحقا بغار في جبل ثور بأسفل مكة فدخلاه وأمر أبو بكر رضي الله عنه ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام بما يصلبهما فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش ومعهم يتسمع ما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى ويخبرهما الخبر وكان عامر ابن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة اتبع عامر ابن فهيرة أثره بالغنم حتى يعمى عليهم حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهم الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه بعيرهما وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما وارتجلا الحديث بطوله،
وفي رواية: لما دخلا غار ثور أمر الله العنكبوت فنسجت على بابه والراءة فنبتت وحمامتين وحشيتين فغشيتا على بابه فأقاما في الغار بضعة عشر يوماً ثم خرج منه ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول على ناقته الجذعاء. قالت أسماء: فمكثنا ثلاثاً لا ندري أين وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنشد رجل من الجن من أسفل مكة أبياتاً من الشعر وأن الناس يتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة.
ويروى أن أبا بكر لما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى الغار جعل يمشي طوراً أمامه وطوراً خلفه وطوراً عن يمينه وطوراً عن شماله قال: " ما هذا يا أبا بكر "، قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أذكر الرصد فأحب أن أكون أمامك وأتخوف الطلب فأحب أن أكون خلفك وأحفظ الطريق يميناً وشمالاً، فقال: " لا بأس عليك يا أبا بكر، إن الله معنا "، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مخصر القدم يطأ بجميع قدمه الأرض وكان حافياً فحفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل رسول الله أبو بكر على كاهله حتى انتهى إلى الغار فلما وضعه ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فقال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخل فأخبره قبلك فدخل رضي الله عنه فجعل يلتمس بيده في ظلمة الليل الغار مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لم ير شيئاً دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا فيه، فلما استقر بعض الإسفار رأى أبو بكر خرقاً في الغار فألقمه قدمه حتى الصباح مخافة أن يخرج منه هامة أو ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن مجاهد عن ابن عباس قال: كان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار فعطش أبو بكر عطشاً شديداً فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب إلى صدر الغار فاشرب ": فانطلقت إلى صدر الغار فشربت ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك، ثم عدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " شربت "، فقلت: شربت يا رسول الله، فقال: " ألا أبشرك " فقلت: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنان، أن أخرق نهراً من جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر "، قال أبو بكر رضي الله عنه: ولى عند الله هذه المنزلة، قال صلى الله عليه وسلم: " نعم وأفضل والذي بعثني بالحق نبياً لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبيا ً".
وفي الصحيحين والترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهو على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدمه أبصرنا تحت قدميه فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما "
وعن طلحة البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لبثت مع صاحبي " يعني أبا بكر رضي الله عنه " في الغار بضعة عشر يوماً وما لنا طعام إلا ثمر البرير "، قال أبو داود: البرير الأراك.
وقد ثبت في صحيح البخاري أنهما مكثا في الغار ثلاثاً وهذا القول هو الراجح لإجماع أهل التاريخ عليه ويحتمل أن يكون كلا القولين صحيحاً ووجه الجمع أنهما مكثا في الغار ثلاثاً ويكون معنى الحديث: مكثت مع صاحبي مختفيين من المشركين في الطريق والغار بضعة عشر يوماً ويروى أن الله تعالى أمر شجرة ليلة الغار فثبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم " وهراوتهم " وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم بقدر أربعين ذراعاً تعجل رجل منهم لينظر في الغار فرأى الحمامتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا له: لم تنظر في الغار، فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أنه ليس فيه أحد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فعلم أن الله تعالى قد درء عنه بهما فدعا لهما وسمت عليهما وفرض أجزاءهما وانحدرا في الحرم، رواه أبو مصعب المكي.
وعن ابن عباس قال: استأجر المشركون رجلاً يقال له: كرز بن علقمة الخزاعي فقفا لهم الأثر حتى أتى بهم إلى ثور وهو بأسفل مكة فقال: انتهى إلى هاهنا أثره فما أدري أخذ يميناً أم شمالاً أم صعد الجبل فلما انتهوا إلى فم الغار قال قائل منهم: ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف: ما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتاً كان قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء فبال في صدر الغار حتى سال بوله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل العنكبوت وقال: " إنها لخيل من جنود الله تعالى "، رواه عبد الملك بن محمد النيسابوري في كتاب "شرف المصطفى".
وعن إبراهيم التيمي قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم الغار دعا شجرة كانت على باب الغار فقال لها: ائتني فأقبلت حتى وقفت على باب الغار قال: وكان الذي بال مستقبل الغار عطية بن أبي معيط. وفي كتاب " الدلائل " للسيرقسطي: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار أنبت الله تعالى على بابه وهي شجرة معروفة قال أبو حنيفة: هي من أغلاف الشجرة وتكون مثل قامة الإنسان ولها زهر أبيض يحشى منه المخاد وقيل: هي شجرة أم غيلان وفي مسند البزار أن الله تعالى أرسل حمامتين وحشيتين فوقعتا على وجه الغار وأن نسل حمام الحرم من نسل تلك الحمامتين. ذكره السهيلي. وفي حديث الهجرة وقوله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
● فوائد منها:
بيان فضل أبي بكر الصديق حيث قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وقال: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " معناه ثالثهما بالحفظ والعصمة والنصر والمعونة والتسدسد وهو داخل في قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) وقيل: هو معنى قوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)
ومنها عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وارتفاع شأنه وتعالى رتبته ومكانه عن التأثر بنوائب الدنيا والتغير بمصائبها ومتاعبها حيث اهتم أبو بكر بوصولهم إلى باب الغار متبعين لأثرهما وخاف من اطلاعهم عليهما ولم يهتم ولم يبال بأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت جأش أبي بكر وأزال روعه وطمأن نفسه على أن المفسرين ذكروا أن كثرة خوف أبي بكر رضي الله عنه إنما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا لنفسه، ويروى أنه قال لما خاف الطلب: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد وإن أصبت هلكت الأمة،
وفيه بيان عظم توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام.
قال النووي: وفيه فضيلة لأبي بكر وهي أجل مناقبه من أوجه أحدها: هذا اللفظ المعطى تكريمه وتعظيمه. وثانيها: بذل نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه. وثالثها: جعل نفسه وقاية عنه انتهى كلامه قيل: ورابعها تخصيص الله تعالى إياه في أمر نبيه صلى الله عليه وسلم باستصحابه دون غيره من سائر الناس،
ومن فوائد الحديث بيان كراهة المكث بين الكفار والفجار والفساق الذين لا يتدينون بالحق ولا يمكن حملهم عليه،
ومنها جواز التحصن بالقلاع عند الخوف من العدو،
ومنها: أن تعهد الأسباب في الحاجيات لا يقدح في التوكل والاعتماد على الله تعالى،
ومنها: أنه يجوز الأخذ بالحزم وإظهار ظن السوء المتوقع من العدو، وليس ذلك من الظن المنهي عنه لأن أبا بكر رضي الله عنه قال: لأبصرنا تحت قدميه ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أنه يجوز المسافرة بالرفيق الواحد عند الحاجة بلا كراهة وإن ورد خير الرفقاء أربعة فإنه صلى الله عليه وسلم لم يستصحب سوى أبي بكر ومنها أنه يجوز لأحد الفريقين أن يظهر لصاحبه خوفه مما يخاف منه ليخفف عن نفسه ببث الشكوى وليكون صاحبه واقفاً على الحال مستعداً لما عساه أن يعرض.
ومنها: أنه ينبغي للمشكو إليه أن يسكن جأش الشاكي ويعده الجميل من الله تعالى ويحثه على حسن الظن به،
ومنها: استعمال الأدب في المخاطبات بذكر الإنسان بكنيته ونحو ذلك مما يتضمن الإكرام لقوله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر.
ومنها: جواز التكنية بأبي فلان وإن لم يكن للمكنى ابن مسمى بذلك إذ لم يكن لأبي بكر ابن يسمى بكراً. وعن غالب بن عبد الله عن أبيه عن جده أنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: " قلت في أبي بكر شيئاً قل: حتى أسمع "، قال: قلت:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا * من الخلائق لم يعدل به بدلا
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وفي الحديث: بيان فضل جبل ثور بما خصه الله بهذه المزية الكريمة والمنقبة العظيمة من بين سائر الأطواد والأعلام حيث جعله متحصن خير الأنام وقلعة رسول الله وحبيبه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفيه: بين فضيلة هذا الغار الشريف على سائر المغائر حيث كان صدفاً لأشرف الجواهر، وكهفاً لكهف الأنبياء والمرسلين وكنفاً لكنف الخلائق من الأولين والآخرين
قال المرجاني في " بهجة النفوس ": وذكر بعض الحمالين أنه عرف رجلاً كان له جماعة بنين وأموال كثيرة وأنه أصيب في ذلك كله فلم يحزن على شيء من ذلك لقوة صبره، قال: فسألته عن ذلك فقال: إنه روى أن من دخل غار ثور الذي آوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وسأل الله تعالى أن يذهب عنه الحزن لم يحزن على شيء من مصائب الدنيا وقد فعلت ذلك فما ترى منه.
قال المرجاني: والخاصة في ذلك من قوله تعالى: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا). قال: ورأيت بهذا الجبل حيواناً يسمى الحلقوم له ألف كراع في مائتي رجل، ورأيته أيضاً بأرض الطائف ونخله بالقدس من أرض فلسطين. انتهى.
والناس يدخلون غار جبل ثور من بابه الضيق ومن بابه المتسع وبعض الناس يتجنب دخوله من بابه الضيق ويقولون: من لم يدخل منه ليس لأبيه. وقد وسع الباب الضيق في زماننا لأن بعض الناس انحبس فيه لما ولج فلم يقدر أن يخرج ولا يدخل ومكث على ذلك قريباً من ليلة فراح عليه المجاورون ووسعوا له وقطعوا عنه الحجر من الجوانب فانفتح حتى اتسع الموضع.
● ومنها: جبل ثبير وهو جبل المزدلفة الذي على يسار الذاهب كما عرفه الأزرقي وغيره وقد تقدم في أول الباب الحادي عشر ضبطه وتعريفه وهو جبل مشهور عند أهل مكة.
قال القزويني: إنه جبل مبارك يقصده الزوار وتقدم النقل عن ابن النقاش أنه يستجاب الدعاء به وتقدم أيضاً قبيل هذا أنه تعالى لما تجلى للجبل تشظى منه شظايا فوقعت بمكة ثلاثاً منها ثبير قال السهيلي: ذكروا أن ثبيراً كان رجلاً من هذيل مات في ذلك الجبل فعرف الجبل فيه.
● ومنها: الجبل الذي يلحقه مسجد الخيف وفيه غار المرسلات ياثره الخلف عن السلف كما ذكره المحب الطبري وعلى ذلك أدركنا الناس في عصرنا يقولون في أمره ويدل له الحديث الثابت في صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه: (والمرسلات عرفاً) الحديث. وقد تقدم ذكره في الفضائل أول هذا الفصل.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء
● الجبل المعروف بأبي قبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا وهو أحد أخشبي مكة، والآخر الأحمر، وإنما سمي أبا قبيس لثلاثة أوجه؛ أحدهما: أنه سمي برجل من إياد يقال له: أبو قبيس بنى فيه فلما صعد البناء فيه سمي جبل أبي قبيس كذا ذكر الأزرقي، وقيل: إن هذا الجبل من مذحج ذكره ابن الجوزي. والثاني: أن الحجر الأسود استودع فيه عام الطوفان، فلما بنى الخليل الكعبة نادى أبو قبيس: الركن منى بمكان كذا وكذا كما قدمناه. والثالث: سمي بقبيس ابن سالح رجل من جرهم كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه ميّة، فنذرت أن لا تكلمه وكان شديد الكلف بها، فحلق ليقتلن قبيساً فهرب منه في الجبل المعروف به وانقطع خبره، فإما مات فيه وإما تردى منه، وهو خبر طويل ذكره ابن هشام في عبر السيرة. وصحح النووي في " التهذيب " الوجه الأول، وقال: إن الوجه الثاني ضعيف أو غلط.
وقال الأزرقي: الأول أشهر عند أهل مكة وكان يسمى في الجاهلية الأمين؛ للمعنى الذي ذكرناه في الوجه الثاني وهذا مما يقويه ويرجحه على الوجهين الأخيرين. والله أعلم.
وعن مجاهد قال: أول جبل وضعه الله على الأرض حين مادت أبو قبيس ثم حدثت منه الجبال ذكره الأزرقي والواحدي، وقبر آدم فيه على ما قال وهب بن منبه في غار يقال له: غار الكنز وهو غير معروف الآن. وقيل: إن قبره بمسجد الخيف بعد أن صلى عليه جبريل عند باب الكعبة حكاه الفاكهي عن عروة بن الزبير، وذكره ابن الجوزي في " درياق القلوب " وقال" دفنته الملائكة به. وقيل: عند مسجد الخيف ذكره الذهبي، وفي منسك الفارسي. وقيل: عند منارة مسجده، وقيل: قبره في الهند في الموضع الذي أهبط إليه من الجنة وصححه الحافظ ابن كثير.
وقال الأزرقي: إن قبر آدم وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف في بيت المقدس. وقد تقدمت هذه الأقوال مع زيادة فوائد في أوائل هذا الباب. وفي أبي قبيس على ما قيل: قبر شيث بن آدم وأمه حواء كذا ذكر الذهبي في جزء ألفه في تاريخ مدة آدم وبنيه؛ لأنه قال: ودفن شيث مع أبويه في غار أبي قبيس.
وتقدم في باب الفضائل وغيره حديث الكتاب الموجود في الركن وفيه: أن مكة لا تزول حتى يزول أخشباها. وتقدم في أول الباب أن إبراهيم عليه السلام أذّن في الناس بالحج على أبي قبيس على أحد الأقوال. وقال ابن النقاش في " فهم المناسك ": من صعد في كل جمعة إلى أبي قبيس رأى الحرم مثل الطير يزهر، وإن صعد إلى ثور أو حراء أو ثبير كان أثبت لنظره ومشاهدته، وخصوصاً ليالي رجب وشعبان ورمضان وليالي الأعياد.
وجبال مكة تسمى جبال فاران كذا وجد في الفصل العشرين من السفر الخامس عن موسى عليه السلام أن الرب جاء من طور سيناء وأشرق من ساعين واستعلن من جبال فاران فمجئ الله من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى، وإشراقه من " ساعين " إنزاله الإنجيل على عيسى؛ لأنه كان يسكن في " ساعين " أرض الخليل في قرية ناصرة، واستعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وفاران هي جبال مكة في قول الجميع.
قال علماء التاريخ: جميع ما عرف في الأرض من الجبال مائة وثمانية وتسعون جبلاً، من أعجبها سرنديب، وهو أقرب ذرا الأرض إلى السماء. وقيل: صخرة بيت المقدس أقرب ذرا الأرض من السماء بثمانية عشر ميلاً حكاه القرطبي. وطول جبل سرنديب مائتان ونيف وستون ميلاً، فيه أثر قدم آدم وعليه شبه البرق، لا يذهب شتاء ولا صيفاً، وحوله الياقوت وفي واديه الماس، وفيه العود والفلفل ودابة المسك وهر الزباد، ووادي سرنديب متصل إلى قرب سيلان. وجبل الردم الذي فيه السد طوله سبعمائة فرسخ، وينتهي إلى البحر المظلم. وجبل قاف من زمردة خضراء محيط بالسموات والأرض، ومنه اخضرت السماء، دائر بالأرض من وراء البحر المحيط والسماء عليه مقببة، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل.
وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل فرأى تحته جبالاً صغاراً فقال له: ما أنت، قال: أنا قاف. قال: فما هذه الجبال حولك، قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزل تلك الأرض. فقال: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله تعالى. قال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أيضاً مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج، يحطم بعضها بعضاً لولا هي لاحترقت من حر جهنم. قال المرجاني: واسم جبل قاف عيلهون قال: ولأجل هذا الاسم منع استعمال تلك الحفيظة حكاه المازري، قال: ووراء قاف أرض بيضاء كافورية مثل الدنيا سبع مرات، ومن خلفها السبعة الأبحر:
أولها: يبطس، الثاني: قيس، الثالث: الأصم، الرابع: المظلم، الخامس: مايس، السادس: الساكن، السابع: الباكي وهي محيطة بعضها ببعض حكاه الكسائي.
قال وهب: خلقها الله في اليوم الثالث. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما تجلى الله لجبل طور سيناء تشظى منه شظايا، فنزلت بمكة ثلاثة؛ حراء وقديد وثور، وبالمدينة أحد وعير وورقان ". وعنه أيضاً قال: " صار لعظمة الله ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد وورقان ورضوى، ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء ". وقيل: نزلت بمكة أربعة حراء وثبير وثور وقديد. انتهى.
قال المرجاني: ولم نعلم أن بحرم مكة جبلاً يقال له: قديداً، إنما قديد بينها وبينه مقدار أربعة أيام أو خمسة. والطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وهو أحد جبال الجنة، وعن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربعة جبال من جبال، أو أربعة أنهار من أنهار الجنة، وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة ". قيل: فما الأجبل، قال: " أحد جبل يحبنا ونحبه، والطور من جبال الجنة، ولبنان من جبال الجنة وخصيب من جبال الجنة وهو بالروحاء والأنهار: النيل والفرات وسيحان وجيحان، والملاحم: بدر وأحد والخندق وخيبر ". قال: التوربشتى شارح المصابيح وفي قوله صلى الله عليه وسلم :" أربعة أنهار من أنهار الجنة ". الحديث وجهان؛ أحدهما: أن نقول: إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة؛ لما فيها من السلاسلة والعذوبة والهضم وتضمنها البركة الإلهية وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم منها، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم في عجوة المدينة: " إنها من ثمار الجنة ". والآخر أن نقول: يحتمل أنه سمى الأنهار التي هي أصول أنهار الجنة بتلك الأسامي؛ ليعلم أنها في الجنة بمثابة الأنهار الأربعة في الدنيا، أو لأنها مسميات بتلك المسميات فوقع الاشتراك فيها. انتهى. والطور هو الذي أقسم الله تعالى به بقوله: (والطور وكتاب مسطور). لفضله على الجبال إذ روى أن الله أوحى إلى الجبال أني مهبط على أحدكم أمري يريد رسالة موسى فتطاولت كلها إلا الطور فإنه استكان لأمر الله وقال: حسبي الله. فأهبط الله الأمر عليه ذكره ابن عطية. وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة أي سفينة نوح ترسو على واحد منها فتطاولت، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعاً لله تعالى فاستوت السفينة عليه وبقيت عليه أعواده. وقال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق، فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعاً، وتواضع الجودي فلم يغرق ورست السفينة عليه. ويقال: إن الجودي من جبال الجنة فلهذا استوت عليه. ويقال أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي بنوح، وطور سيناء بموسى، وحراء بمحمد صلى الله عليه وسلم ذكره القرطبي. وقال: لما تواضع الجودي وخضع عز، ولما ارتفع غيره واستعلا ذل، وهذه سنة الله في خلقه يرفع من يخشع ويضع من ترفع. ولقد أحسن القائل:
وإذا تذللت الرقاب تخضعاً * منا إليك فعزها فـي ذلـهـا
ومن ذلك قصة " القصواء " ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت لا تسبق فسبقها قعود لأعرابي يوماً، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً في الدنيا إلا وضعه ". انتهى.
وبحرم مكة اثنا عشر ألف جبل ذكره الأزرقي في الجبال، وفي أبي قبيس انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره الحافظ قطب الدين الحلبي؛ لأنه قال: كان يرى نصفه على قعيقعان ونصفه الآخر على أبي قبيس. وذكر القطب أن أبا نعيم الحافظ روى بسنده إلى ابن عباس أن ذلك يعني انشقاق القمر ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفاً على الصفا ونصفاً على المروة. انتهى. والصفا محسوب من أبي قبيس على ما ذكره العلماء فلا يضاد ما ذكره القطب من أن نصف القمر على أبي قبيس. وذكر القرطبي في ذلك خبراً وقال: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كنت صادقاً فاشقق لنا القمر فرقتين؛ نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن فعلت تؤمنون بي ". قالوا: نعم. وكانت تلك ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا: فانشق القمر فرقتين ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين: " يا فلان يا فلان، اشهدوا ". وأما كون الانشقاق وقع في أبي قبيس في الموضع الذي يقوله الناس اليوم فلم أر ما يدل على ذلك، وقد اختلفت الأحاديث في موضع انشقاق القمر، ففي مسند عبد حميد والترمذي عن أنس أنه وقع بمكة. وفي صحيح مسلم حديث ابن مسعود أنه وقع بمنى. وفي تفسير ابن عطية: قال ابن مسعود: رأيته انشق فذهب فرقة وراء جبل حراء. وقد تقدم في الأماكن المستجاب فيها الدعاء أن الدعاء يستجاب في أبي قبيس، ومن عجائبه ما ذكر القزويني في كتابه " عجائب المخلوقات ": من أنه يزعم الناس أن من أكل عليه الرأس المشوي يأمن أوجاع الرأس، قال: وكثير من الناس يفعل ذلك. انتهى.
قال قوام الدين في " التبيين " شرح الأخسبكتي في باب حروف المعاني: لما ذكر عن الشافعي رضي الله عنه أن الواو للترتيب، وقال: قد أنكر عليه أصحابه في هذا؛ لأنه قول لم يقل به أحد لمخالفته لموضوع اللغة، ثم قال قوام الدين: والعجب من الغزالي حيث قرع صفات الحسن البصري وطعن على مالك وشنع على أبي حنيفة في آخر منخوله فقال: وأما أبو حنيفة فلم يكن مجتهداً، لأنه لا يعرف اللغة وعليه يدل قوله: لو رماه بأبو قبيس. ثم غفل عن سهو إمامه ولقد صدقوا في قولهم: حبك للشيء يعمى ويصم. والجواب عنه من وجوه: أحدها: إنا نقول: لا نسلم أن أبا حنيفة تكلم بهذه الكلمة أصلاً وما ذاك إلا افتراء عليه، فأي مسألة تعلقت بها وأي كتاب من كتب أصحابه حواها، وأي دليل دل عليها، والله والله إن بعض الظن إثم.
والثاني: فرضنا أنه تكلم بمثل هذه الكلمة لكن لا نسلم أنه أخطأ؛ لأنه يجوز بطريق الحكاية مثل هذا لقوله:
وجدنا في كتاب بني تميم * أحق الخيل بالركض المعار
برفع القاف والراء. وكقولهم: قرأت (سورة أنزلناها) . بضم سورة. وقولهم: بدأت بالحمد لله. بضم الدال، ولا تنكر الحكاية، وهو أن ينقل القول على ما كان إلا من لا يمس بعلم الإعراب أو من له مس من الجنون، والجنون فنون.
والثالث: فرضنا أنه أخطأ كما زعم هذا القائل، لكن لا نسلم أن الشخص لا يكون مجتهداً إذا أخطأ في شيء؛ لأن القول بإصابة كل مجتهد ليس بمذهب المسلمين، بل المجتهد يجوز له الخطأ والصواب؛ لأنه ليس بمعصوم، ثم نقول: هلا أورد الغزالي في كتابه ما أخذ أهل اللغة على إمامه في أشياء من الغلط.! الأول: قوله في " أحكام القرآن ": (ذلك أدنى أن لا تعولوا). أي: لا تكثر عيالكم، وإنما معناه لا تميلوا، والثاني: قوله في كتابه هذا: إن الواو للترتيب، وإنما هي لمطلق الجمع. والثالث: قوله في كتابه: ماء مالح، وإنما هو ماء ملح؛ لقوله تعالى: (ملح أجاج). والرابع قوله: إذا أشلى كلبه يريد به أغراه وإنما يقال: أشلاه إذا استدعاه. والخامس: الغرم الهلاك، وإنما الغرم اللزوم إلى غير ذلك.
ثم الغزالي شنع في كتابه " المنخول " في أشياء من غير حجة على دعواه ولا دليل على ما خيل له، والله إنا كنا نعتقده غاية الاعتقاد لأجل ما جمع في " إحيائه " من كلمات المشايخ بالنظر إلى الظاهر، ثم لما رأينا طعنه على الكبار بلا إقامة برهان حصل بنا منه ما حصل، ولقد صدقوا في قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. اللهم ارزقنا الصدق والوفاء ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا وهيئ لنا من أمرنا رشداً. انتهى كلام قوام الدين وهذا لفظه.
● ومنها: جبل حراء بأعلى مكة وهو ممدود، ومنهم من يذهب فيه إلى التذكير فيصرفه، ومنهم من يذهب فيه إلى التأنيث فيمنعه الصرف. وهذا الجبل من مكة على ثلاثة أميال كما ذكره صاحب المطالع وغيره، وهو مقابل لثبير والوادي بينهما، وهما على يسار السالك إلى منى، وحراء قبلي ثبير مما يلي شمال الشمس، وأما ثور فمن جهة الجنوب من على يمين الشمس، و" يسمي هذا الجبل بعضهم جبل النور "، ولعمري إنه كذلك لكثرة مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم وتعبده فيه، وما خصه الله فيه من الكرامة بالرسالة إليه ونزول الوحي فيه عليه، وذلك في غار في أعلاه مشهور يأثره الخلف عن السلف رحمهم الله ويقصدونه بالزيارة، وأما ما ذكر الأزرقي في تاريخه في ذكر الجبال: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى هذا الجبل واختبئ فيه من المشركين في غار في رأسه مشرف مما يلي القبلة. فقال بعض من عاصرناه: إن هذا ليس بمعروف، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختبئ من المشركين إلا في غار ثور بأسفل مكة. انتهى.
ويؤيد ما ذكره الأزرقي ما قاله القاضي عياض ثم الشهيلي في " الروض الأنف "، أن قريشاً حين طلبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير فقال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني يا رسول الله، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فيعذبني الله، فناداه حراء إليّ يا رسول الله. فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اختبئ فيه من المشركين في واقعة ثم اختفى في ثور في واقعة أخرى وهي خبر الهجرة.
وقال السهيلي في حديث الهجرة: وأحسب في الحديث أن ثوراً ناداه أيضاً لما قال له ثبير: اهبط عني. وهذا الغار الذي في الجبل مشهور بالخير والبركة؛ لحديث بدء الوحي الثابت في الصحيحين، وأورد ابن أبي جمرة سؤالاً وهو: أنه لم اختص صلى الله عليه وسلم بغار حراء فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من المواضع ولم يبدله في طول تحنثه، وأجاب عن ذلك بأن هذا الغار له فضل زائد على غيره من قبل أن يكون فيه منزوياً مجموعاً لتحنثه وهو يبصر بيت ربه والنظر إلى البيت عبادة، فكان له اجتماع ثلاث عبادات وهي الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت، وجمع هذه الثلاث أولى من الاقتصار على بعضها دون بعض، وغيره من الأماكن ليس فيه ذلك المعنى، فجمع له صلى الله عليه وسلم في المبادي كل حسن بادي. انتهى.
وعن ابن أبي مليكة قال: جاءت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحيس وهو بحراء فجاءه جبريل فقال: " يا محمد هذه خديجة قد جاءتك تحمل حيساً معها والله يأمرك أن تقرئها السلام وتبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب "، فلما أن رقت خديجة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " يا خديجة إن جبريل جاءني والله يقرئك السلام، ويبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ". فقالت خديجة: الله السلام ومن الله السلام وعلى جبريل السلام. رواه الأزرقي.
وذكر المرجاني في " بهجة النفوس " عجيبة، قال: خرجت في بعض الأيام إلى زيارة حراء وكان يوم السبت الثاني من جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، وكان يوم غيم فلما كان بعد الظهر سمعت لبعض تلك الحجار فيه أصواتاً عجيبة فرفعت حجرين منها في كل كف حجر، فكنت أجد رعدة الحجر في يدي وهو يصيح، ثم إني رفعت يدي فصاحت كل واحدة من أصابعي أيضاً وكان محل الصياح قامة من الأرض فما كان على سمتها صاح وما كان أرفع من ذلك أو أخفض لم يتكلم فعلمت أن ذلك تسبيح فدعوت الله تعالى بما تيسر فلما طلعت الشمس سكت فقست الشمس فوجدت ظل كل شيء مثله ومثل ربعه فقدرته بعد ذلك بالإسطرلان فكانت تلك هي الساعة العاشرة وكان صوت الحجر يسمع من مدى مائة خطوة، قال: فذكرت ما رأيته لوالدي - رحمه الله - فقال: وأنا جرى لي بحراء شبه ذلك وذلك أنا كنا جماعة بائتين به وكانت ليلة غيم فقمت في أثناء الليل وإذا بإبريق للفقراء وشبه النار خارج منه وقد أضاء المكان من ذلك قال: فأيقظت الجماعة وكنت أفتح كفي فيبقى على رأس كل إصبع شعلة نار مثل الشمع قال: فوضعت عمامتي على عكاز ورفعته فأشعل كالشعل فذكرنا ذلك لبعض الصالحين فقال: مرت بكم سحابة السكون. قال المرجاني: والصفتان واحدة إلا أني رأيت ذلك نهاراً فكان ضوءاً وهم رأوه ليلاً فكان نوراً قال: ثم إني صعدت الجبل أيضاً يوم السبت الثامن عشر من شوال سنة أربع وخمسين وسبعمائة وكان معي جماعة منهم به فاتفق لي مثل ذلك ورآه الجماعة.
قال المرجاني: وحدثني والدي عن بعض من أدركه من كبراء وقته أنه كان يصعد معه إلى حراء في كل عام مرة فيلتقط ذلك الشخص من بعض الحجارة قال: فسألته عن ذلك فقال: أخرج منها نفقتي به العام ذهباً إبريزاً. انتهى كلام المرجاني،
قيل: كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيه إلى القدس وقيل: إنما كان يصلي ذلك الوقت إلى الكعبة ثم انتقل إلى بيت المقدس ثم بعد ذلك تحول إلى الكعبة، قالوا: وفي حراء رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في الخلقة الأولى له ستمائة جناح قد سد الأفق.
● ومنها جبل ثور بأسفل مكة وسماه البكرى أبا ثور والمعروف فيه ثور كما ذكره الأزرقي والمحب الطبري وهو من مكة على ثلاثة أميال كما ذكره ابن الحاج وابن جبير وقال البكري: إنه على ميلين من مكة وإن ارتفاعه نحو ميل. قال المرجاني: وسمى الجبل ثوراً وإنما اسمه المحل سمي بثور بن مناة بن طائخة؛ لأنه كان ينزله. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق اختليا فيه في غار به وهو مشهور يأثره الخلف عن السلف، وهو الذي ذكره الله سبحانه في القرآن في قوله: (ثاني اثنين إذ هما في الغار) وفي حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لحقا بغار في جبل ثور بأسفل مكة فدخلاه وأمر أبو بكر رضي الله عنه ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام بما يصلبهما فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش ومعهم يتسمع ما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى ويخبرهما الخبر وكان عامر ابن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة اتبع عامر ابن فهيرة أثره بالغنم حتى يعمى عليهم حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهم الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه بعيرهما وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما وارتجلا الحديث بطوله،
وفي رواية: لما دخلا غار ثور أمر الله العنكبوت فنسجت على بابه والراءة فنبتت وحمامتين وحشيتين فغشيتا على بابه فأقاما في الغار بضعة عشر يوماً ثم خرج منه ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول على ناقته الجذعاء. قالت أسماء: فمكثنا ثلاثاً لا ندري أين وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنشد رجل من الجن من أسفل مكة أبياتاً من الشعر وأن الناس يتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة.
ويروى أن أبا بكر لما خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى الغار جعل يمشي طوراً أمامه وطوراً خلفه وطوراً عن يمينه وطوراً عن شماله قال: " ما هذا يا أبا بكر "، قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أذكر الرصد فأحب أن أكون أمامك وأتخوف الطلب فأحب أن أكون خلفك وأحفظ الطريق يميناً وشمالاً، فقال: " لا بأس عليك يا أبا بكر، إن الله معنا "، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مخصر القدم يطأ بجميع قدمه الأرض وكان حافياً فحفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل رسول الله أبو بكر على كاهله حتى انتهى إلى الغار فلما وضعه ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فقال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخل فأخبره قبلك فدخل رضي الله عنه فجعل يلتمس بيده في ظلمة الليل الغار مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لم ير شيئاً دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا فيه، فلما استقر بعض الإسفار رأى أبو بكر خرقاً في الغار فألقمه قدمه حتى الصباح مخافة أن يخرج منه هامة أو ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن مجاهد عن ابن عباس قال: كان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار فعطش أبو بكر عطشاً شديداً فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب إلى صدر الغار فاشرب ": فانطلقت إلى صدر الغار فشربت ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك، ثم عدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " شربت "، فقلت: شربت يا رسول الله، فقال: " ألا أبشرك " فقلت: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنان، أن أخرق نهراً من جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر "، قال أبو بكر رضي الله عنه: ولى عند الله هذه المنزلة، قال صلى الله عليه وسلم: " نعم وأفضل والذي بعثني بالحق نبياً لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبيا ً".
وفي الصحيحين والترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهو على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدمه أبصرنا تحت قدميه فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما "
وعن طلحة البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لبثت مع صاحبي " يعني أبا بكر رضي الله عنه " في الغار بضعة عشر يوماً وما لنا طعام إلا ثمر البرير "، قال أبو داود: البرير الأراك.
وقد ثبت في صحيح البخاري أنهما مكثا في الغار ثلاثاً وهذا القول هو الراجح لإجماع أهل التاريخ عليه ويحتمل أن يكون كلا القولين صحيحاً ووجه الجمع أنهما مكثا في الغار ثلاثاً ويكون معنى الحديث: مكثت مع صاحبي مختفيين من المشركين في الطريق والغار بضعة عشر يوماً ويروى أن الله تعالى أمر شجرة ليلة الغار فثبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم " وهراوتهم " وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم بقدر أربعين ذراعاً تعجل رجل منهم لينظر في الغار فرأى الحمامتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا له: لم تنظر في الغار، فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أنه ليس فيه أحد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فعلم أن الله تعالى قد درء عنه بهما فدعا لهما وسمت عليهما وفرض أجزاءهما وانحدرا في الحرم، رواه أبو مصعب المكي.
وعن ابن عباس قال: استأجر المشركون رجلاً يقال له: كرز بن علقمة الخزاعي فقفا لهم الأثر حتى أتى بهم إلى ثور وهو بأسفل مكة فقال: انتهى إلى هاهنا أثره فما أدري أخذ يميناً أم شمالاً أم صعد الجبل فلما انتهوا إلى فم الغار قال قائل منهم: ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف: ما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتاً كان قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء فبال في صدر الغار حتى سال بوله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل العنكبوت وقال: " إنها لخيل من جنود الله تعالى "، رواه عبد الملك بن محمد النيسابوري في كتاب "شرف المصطفى".
وعن إبراهيم التيمي قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم الغار دعا شجرة كانت على باب الغار فقال لها: ائتني فأقبلت حتى وقفت على باب الغار قال: وكان الذي بال مستقبل الغار عطية بن أبي معيط. وفي كتاب " الدلائل " للسيرقسطي: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار أنبت الله تعالى على بابه وهي شجرة معروفة قال أبو حنيفة: هي من أغلاف الشجرة وتكون مثل قامة الإنسان ولها زهر أبيض يحشى منه المخاد وقيل: هي شجرة أم غيلان وفي مسند البزار أن الله تعالى أرسل حمامتين وحشيتين فوقعتا على وجه الغار وأن نسل حمام الحرم من نسل تلك الحمامتين. ذكره السهيلي. وفي حديث الهجرة وقوله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
● فوائد منها:
بيان فضل أبي بكر الصديق حيث قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وقال: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " معناه ثالثهما بالحفظ والعصمة والنصر والمعونة والتسدسد وهو داخل في قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) وقيل: هو معنى قوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)
ومنها عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وارتفاع شأنه وتعالى رتبته ومكانه عن التأثر بنوائب الدنيا والتغير بمصائبها ومتاعبها حيث اهتم أبو بكر بوصولهم إلى باب الغار متبعين لأثرهما وخاف من اطلاعهم عليهما ولم يهتم ولم يبال بأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت جأش أبي بكر وأزال روعه وطمأن نفسه على أن المفسرين ذكروا أن كثرة خوف أبي بكر رضي الله عنه إنما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا لنفسه، ويروى أنه قال لما خاف الطلب: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد وإن أصبت هلكت الأمة،
وفيه بيان عظم توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام.
قال النووي: وفيه فضيلة لأبي بكر وهي أجل مناقبه من أوجه أحدها: هذا اللفظ المعطى تكريمه وتعظيمه. وثانيها: بذل نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه. وثالثها: جعل نفسه وقاية عنه انتهى كلامه قيل: ورابعها تخصيص الله تعالى إياه في أمر نبيه صلى الله عليه وسلم باستصحابه دون غيره من سائر الناس،
ومن فوائد الحديث بيان كراهة المكث بين الكفار والفجار والفساق الذين لا يتدينون بالحق ولا يمكن حملهم عليه،
ومنها جواز التحصن بالقلاع عند الخوف من العدو،
ومنها: أن تعهد الأسباب في الحاجيات لا يقدح في التوكل والاعتماد على الله تعالى،
ومنها: أنه يجوز الأخذ بالحزم وإظهار ظن السوء المتوقع من العدو، وليس ذلك من الظن المنهي عنه لأن أبا بكر رضي الله عنه قال: لأبصرنا تحت قدميه ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أنه يجوز المسافرة بالرفيق الواحد عند الحاجة بلا كراهة وإن ورد خير الرفقاء أربعة فإنه صلى الله عليه وسلم لم يستصحب سوى أبي بكر ومنها أنه يجوز لأحد الفريقين أن يظهر لصاحبه خوفه مما يخاف منه ليخفف عن نفسه ببث الشكوى وليكون صاحبه واقفاً على الحال مستعداً لما عساه أن يعرض.
ومنها: أنه ينبغي للمشكو إليه أن يسكن جأش الشاكي ويعده الجميل من الله تعالى ويحثه على حسن الظن به،
ومنها: استعمال الأدب في المخاطبات بذكر الإنسان بكنيته ونحو ذلك مما يتضمن الإكرام لقوله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر.
ومنها: جواز التكنية بأبي فلان وإن لم يكن للمكنى ابن مسمى بذلك إذ لم يكن لأبي بكر ابن يسمى بكراً. وعن غالب بن عبد الله عن أبيه عن جده أنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: " قلت في أبي بكر شيئاً قل: حتى أسمع "، قال: قلت:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا * من الخلائق لم يعدل به بدلا
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وفي الحديث: بيان فضل جبل ثور بما خصه الله بهذه المزية الكريمة والمنقبة العظيمة من بين سائر الأطواد والأعلام حيث جعله متحصن خير الأنام وقلعة رسول الله وحبيبه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفيه: بين فضيلة هذا الغار الشريف على سائر المغائر حيث كان صدفاً لأشرف الجواهر، وكهفاً لكهف الأنبياء والمرسلين وكنفاً لكنف الخلائق من الأولين والآخرين
قال المرجاني في " بهجة النفوس ": وذكر بعض الحمالين أنه عرف رجلاً كان له جماعة بنين وأموال كثيرة وأنه أصيب في ذلك كله فلم يحزن على شيء من ذلك لقوة صبره، قال: فسألته عن ذلك فقال: إنه روى أن من دخل غار ثور الذي آوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وسأل الله تعالى أن يذهب عنه الحزن لم يحزن على شيء من مصائب الدنيا وقد فعلت ذلك فما ترى منه.
قال المرجاني: والخاصة في ذلك من قوله تعالى: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا). قال: ورأيت بهذا الجبل حيواناً يسمى الحلقوم له ألف كراع في مائتي رجل، ورأيته أيضاً بأرض الطائف ونخله بالقدس من أرض فلسطين. انتهى.
والناس يدخلون غار جبل ثور من بابه الضيق ومن بابه المتسع وبعض الناس يتجنب دخوله من بابه الضيق ويقولون: من لم يدخل منه ليس لأبيه. وقد وسع الباب الضيق في زماننا لأن بعض الناس انحبس فيه لما ولج فلم يقدر أن يخرج ولا يدخل ومكث على ذلك قريباً من ليلة فراح عليه المجاورون ووسعوا له وقطعوا عنه الحجر من الجوانب فانفتح حتى اتسع الموضع.
● ومنها: جبل ثبير وهو جبل المزدلفة الذي على يسار الذاهب كما عرفه الأزرقي وغيره وقد تقدم في أول الباب الحادي عشر ضبطه وتعريفه وهو جبل مشهور عند أهل مكة.
قال القزويني: إنه جبل مبارك يقصده الزوار وتقدم النقل عن ابن النقاش أنه يستجاب الدعاء به وتقدم أيضاً قبيل هذا أنه تعالى لما تجلى للجبل تشظى منه شظايا فوقعت بمكة ثلاثاً منها ثبير قال السهيلي: ذكروا أن ثبيراً كان رجلاً من هذيل مات في ذلك الجبل فعرف الجبل فيه.
● ومنها: الجبل الذي يلحقه مسجد الخيف وفيه غار المرسلات ياثره الخلف عن السلف كما ذكره المحب الطبري وعلى ذلك أدركنا الناس في عصرنا يقولون في أمره ويدل له الحديث الثابت في صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه: (والمرسلات عرفاً) الحديث. وقد تقدم ذكره في الفضائل أول هذا الفصل.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء