بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مُختصر أخبار الزمان
ذكر عجائب مصر وملوكها قبل الطوفان
ذكر ملوك مصر قبل الطوفان
وكان أول من ملك مصر قبل الطوفان بقراويس وذلك أن بني آدم لما بغى بعضهم على بعض وتحاسدوا، وتغلب عليهم بنو قابيل بن آدم تحول بقراويس الجبار بن مصرايم بن مواكيل بن داويل بن عرباق بن آدم عليه السلام في نيف وسبعين راكباً من بني عرباق جبابرة، كلهم يطلبون موضعاً ينقطعون فيه عن بني آدم، فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل فأطالوا المشي عليه، فلما رأوا سعة البلد وحسنه أعجبهم، وقالوا: هذا بلد زرع وعمارة، فأقاموا فيه واستوطنوه، وبنوا الأبنية والمصانع المحكمة.
وبنى بقراويس مصر، وسماها باسم أبيه مصرايم تبركاً به، وكان بقراويس جباراً له قوة زائدة وبطش وكان مع ذلك عالماً له رئي من الجن، فملك بني أبيه، ولم يزل مطاعاً في أمره، وقد كان وقع إليه من العلوم التي علمها درابيل لآدم عليه السلام، فقهر بها الجبابرة الذين كانوا معه.
وهم الملوك الذين بنوا الأعلام، واقاموا الأساطين العظام، وبنوا المصانع الغريبة، ووضعوا الطلسمات العجيبة، واستخرجوا المعادن، وقهروا من ناوأهم من ملوك الأرض، ولم يطمع فيهم طامع، وكل علم جليل هو في أيدي المصريين، إنما كان من علوم أولئك، كانت مزبورة على الحجارة.
فيقال إن فيلمون الكاهن الذي ركب مع نوح عليه السلام في السفينة هو الذي فسرها لهم، وعلمهم كتبها، وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله عز وجل.
ثم أمرهم بقراويس حين ملك ببناء مدينة سموها أمسوسا وأقاموا لها أعلاماً طوالاً طول كل علم منها مائة ذراع، وزرعوا وعمروا الأرض، وامرهم ببناء المدائن، والقرى، واسكن أهل كل بيت ناحية من أرض مصر. وهم الذين حفروا النيل حتى أجروا ماءه اليهم، ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري، وإنما كان ينبطح ويتفرق في الأرض، فوجه إلى النوبة جماعة حتى هندسوه، وشقوا منه أنهاراً الى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها.
وشقوا منها نهراً الى مدينة أمسوس يجري في وسطها وغرسوا فيها عليه الغروس وكثر خيرهم وعمرت أرضهم، وتجبر بقراويس لما ملك قومه، وكان عظيمهم. وبعد عشرين ومائة سنة خلت من ملكه، أمر بإقامة الأساطين وزبروا عليها علومهم.
ثم أمر ببناء قبة على أساطين مثبتة بالرصاص، وطولها مائة ذراع، وجعل عليها مرآة زبرجد أخضر، قدرها سبعة أشبار ترى خضرتها على أمد بعيد.
وفي صحف المصريين أنه سأل الربيء الذي كان معه أن يعرفه فخرج الى شاطيء النيل، فحمله حتى أجلسه على خلف خط الاستواء على البحر الأسود الزفتي والنيل يخرج مثل الخيوط حتى يدخل تحت جبل القمر، ثم يخرج الى بطائح هناك.
ويقال إنه بنى بيت التماثيل هناك، وعمل هيكل الشمس، ورجع الى أمسوس وقسم البلد بين بنيه، فجعل لبقرانس الجانب الغربي، ولسوريد الجانب الشرقي، ولابنه الأصغر وهو مصرام مدينة سماها يربيان، وأسكنه فيها، وأقام أساطين كثيرة، وشق اليها نهراً وغرس فيها غروساً.
وعمل بأمسوس عجائب كثيرة، منها طائر يصفر كل يوم عند طلوع الشمس مرتين وعند غروبها مرتين، تصفيراً مختلفاً، يستدلون به على ما يكون من الحوادث، فيتأهبون لذلك، وأجرى لهم الماء على مجرى ينقسم منه على ثمانية وعشرين قسماً.
وعمل في وسط المدينة صنمين حجراً أسود، إذا قدم المدينة سارق لم يمكنه أن يزول عنها حتى يهلك بينهما فاذا دخل بينهما انطبقا عليه، ولهذين الصنمين أعمال عجيبة غير هذا.
وعمل على حدود بلدهم أصناماً من نحاس مجوفة، وملأها كبريتاً، ووكل بها روحانية النار، إذا قصدهم قاصد بسوء أرسلت تلك الأصنام من أفواهها ناراً فأحرقته.
وكان حد بلدهم إلى ناحية الغرب مسافة أيام كثيرة عامرة بالقصور والبساتين، وكذلك في البحر، ومن الصعيد إلى بلاد علوة.
وعمل فوق جبل بطرس مناراً يفور بالماء ويسقي ما حوله وما تحته من المزارع وملكهم مائة وثمانين سنة.
فلما مات لطخوا جسده بالأدوية الممسكة، وجعلوه في تابوت من ذهب وعملوا له ناووساً مصفحاً بالذهب، وجعلوه فيه وجعلوا معه كنوزاً لا تحصى كثرة ولاتحصر قيمة.
ومن الأنواع النفيسة من الجوهر والتماثيل الزبرجد، وكثيراُ من أكسير الصنعة المعمول المفروغ منه، ومن الذهب والأواني المعمولة من الذهب ما لا يحصى كثرة، ولا تعلم قيمته.
وزبروا على البيوت تاريخ الوقت الذي مات فيه ملكهم، ثم جعلوا على ذلك كله طلمسات تدفع عنه الهوام والحشرات المفسدة، وصور كل طالب من الأنس والجن.
ثم ملك بعده ابنه براوس الملك فتجبر وعتا أمره وعلا وبنى مدينة يقال لها جلجلة وجعل فيها جنة، وصفح حيطانها بصفائح الذهب والحجارة الملونة، وغرس فيها أصناف الفواكه والغروس تحفها الأنهار.
وأمر باقامة أساطين جعلها معالم، وكتب عليها جميع العلوم. وصور أصناف العقاقير بها، وزبروا عليها أسماءها ومنافعها.
وكان له شيطان يعمل له التماثيل العجيبة فهو أول من عمل بمصر هيكلاً، وصور فيه صور الكواكب السبعة، وكتب على رأسه تجاربها. وما عملت من المنافع والمضار، وألبسها الثياب، وأقام للهيكل كاهناً وسدنة.
وخرج مغرباً حتى بلغ البحر المحيط، وعمل عليه أعمالاً، وبنى أساطين جعل على رؤوسها اصناماً تسرج عيونها كالمصابيح في الليل، ورجع على بلاد السودان إلى النيل. وأمر ببناء حائط على جانب النيل وجعل على شرفها حجارة ملونة شفافة.
وجعل في مدينة منها خزائن للحكمة، وهي أول عجائب الأرض وأغربها، ففي إحدى هذه المدن صنم للشمس، الذي هو أعظم أصنامهم. وهي معلقة عليه في بيت شرفها وهو صورة إنسان جسده جسد طائر من ذهب أزرق مدبر وعيناه جوهرتان صفراوان، وهو جالس على سرير مغنطيس. وفي يده صحف من العلوم.
وفيها صنم آخر رأسه رأس إنسان وجسده جسد طائر، ومعه صورة امرأة جالسة من زئبق معقود لها ذؤابتان، وفي يدها مرآة، وعلى رأسها صورة كوكب. وهي رافعة يدها بالمرآة الى وجهها ومظهرة فيها سبعة الوان من الماء السائل. لا تختلط ولا يؤذي بعضها لون بعض ولا يغيره، وفيها شيخ جالس من الفيروزج بين يديه صبية جلوس كلهم من أصناف العقيق والجوهر.
وفي الخزانة الثانية صورة هرمس وهو مكب ينظر الى مائدة به يديه من نشادر على قوائم كبريت أحمر، وفي وسطها مثل الصحفة من جوهر أحمر فيها شيء من الصنعة.
وفيها صورة عقاب من زمرد أخضر، عيناه من ياقوت أحمر، وبين يديه حية زرقاء من فضة قد لوت ذنبها على رجليه، ورفعت رأسها كأنها تريد ان تنفخ عليه، وفي ناحية منها صفة المريخ راكب على فرس بيده سيف مسلول من حديد أخضر، وفيها عمود من جوهر أخضر عليه قبة من ذهب فيها صورة المشتري وفيها قبة من اللازورد على أربعة أعمدة من جذع أزرق، وفي سقفها صورة الشمس والقمر يتحدثان في صورتي رجل وامرأة، وقبة من كبريت احمر فيها صورة الزهرة على صورة امرأة ممسكة بضفيرتها وتحتها رجل من زبرجد أخضر في يده كتاب فيه علم من علومهم، كأنه يقرؤه عليها.
وجعل في كل خزانة من بقية الخزائن من الأموال والجواهر والكنوز والحلى ما لا يعد ولا يقدر قدره. وجعل على باب كل مدينة طلسما، يمنع دخولها في صور مختلفة، لا يشبه بعضها بعضا.
وملأ كل مدينة بالجوهر النفيس والزبرجد الخطير والذهب والفضة، والكبريت الأحمر، واكسير الصنعة، وصنوف الادوية المؤلفة، والسموم الفاتكة، وعلم كل باب منها بعلامة تعرف بها.
وانفذ إليها خازنا تحت الأرض وجعلها من تحت جلجلة، وهي مدينته التي عمل فيها الجنة. وبين كل مدينة من تلك المدن الثلاث عشرون ميلا، وبين الثلاث سبعة أميال. وكان له من مدينته الى هذه المدائن اسراب تحت الأرض يصل منها اليها، وكذلك من بعضها الى بعض.
وصفات هذه المدائن وعجائبها في كل قرية بمصر على تلك الحجارة، وفي جميع صحفهم القديمة، وأكثر ذكرها في هياكل الكواكب خاصة، وقريء في صحف لبعض الكهان القدماء ذكر بقراوش الملك بكل ما ذكرناه، وأنه عمل مع ماذكرناه عجائب كثيرة أزالها الطوفان وركب هذه الرمال لزوال طلسماتها، فأقام بقراوش ملكا مائة سنة وسبع سنين، ثم مات فعمل له ناووس، وجعل معه من العجائب ما يطول ذكره.
وولى بعده ابنه مصرام الملك بن بقراوس، فبنى للشمس هيكلا من المرمر وموهه بالذهب، وجعل في وسط الهيكل كالفرس من جوهر أزرق عليه صورة الشمس من ذهب أحمر، وأرخي عليه وعليها حلل الحرير الملون، وأمر أن يوقد عليها بطيب الريحان، وجعل في الهيكل قنديلا من الزجاج الصافي، وجعل فيه حجرا مدبرا يضيء اكثر مما يضيء السراج، وأقام له سدنة وعمل أربعة أعياد في السنة.
وقيل إن مصر سميت به، وسمى به مصريم بن حام بعد الطوفان، لأنه وجد اسمه مزبورا على الحجارة.
وكان افليمون الكاهن يخبرهم بأخبار هؤلاء الملوك، وكان مصرام هذا قد ذلل الأسد في وقته، وكان يركبه، وصحبه الجني الذي كان مع أبيه، لما رأى من حرصه على لزوم الهياكل والقيام بأمر الكواكب. وأمره أن يحتجب عن الناس، وألقى على وجهه من سحره نوراً شديداً لا يقدر احد على النظر اليه. وادعاه إلاها، واحتجب عن الناس ثلاثين سنة، واستخلف عليهم رجلاً من ولد عرباق، وكان كاهنا.
ويقال إن مصرام لما ركب في عرشه، وحملته الشياطين حتى انتهى إلى وسط البحر، فجعل له فيه القلعة البيضاء، وجعل عليها صنما للشمس، وزبر عليه اسمه وصفة ملكه. وعمل صنما من نحاس وزبر عليه " انا مصرام الجبار، كاشف الأسرار، الغا لب القهار، وضعت الطلمسات الصادقة، وأقمت الصور الناطقة، ونصبت الاعلام الهائلة، على البحار السائلة، ليعلم من بعدي انه لا يملك أحد ملكي ".
وكل ذلك في أوقات السعادة، وقد كان عمل في جنته شجرة مولدة، تؤكل منها جميع الثمار. وعمل فيها قبة من زجاج احمر على رأسها صنم يدور مع الشمس، ووكل بها الشياطين إذا اختلط الظلام أن لا يخرج احد من ملكه إلا هلك.
وهو اول من عمل الحمام، وأحب أهل مصر ان يروه فسألوا خليفته ذلك، فأمرهم أن يجتمعوا في مجلس عال كان له، فاجتمعوا وجلسوا عنده، فظهر لهم في صورة هالتهم، ملأت قلوبهم رعباً، فخروا له على وجوههم ودعوا له فأمر بإحضار الطعام والشراب فأكلوا وشربوا ورجعوا إلى مواضعهم، ثم لم يروه بعد ذلك وبلغ في كهانته الى ما لم يبلغه أحد من آبائه وأجداده.
وملك بعده عيقام الكاهن، فعدل فيهم، وعمل مدينة عجيبة قرب العريش وجعلها لهم حرماً، وعمل لهم طلاسم عجيبة وعجائب كثيرة، وقيل ان ادريس عليه السلام رفع في وقته ولم يطل عمره.
وملك بعده ابنه عرباق بن عيقام فتجبر واقبل على صيد السباع والوحش وعمل عجائب. منها أنه عمل شجرة من حديد ذات أغصان، ولطخها بدواء مدبر، فكانت تجلب كل صنف من السباع والوحش اليها، فيتمكن من صيدها كيف شاء.
وفي كتب المصريين أن هاروت وماروت كانا في وقته بمصر، فعلما أهل مصر أصنافاً من السحر، فنقلا بعد الطوفان إلى أرض بابل وتعلم عرباق من علمها. فاحتالت عليه امرأة من المغصوبات فسمته فهلك وبقي مدة لايعرف خبره، وكان رسمه إذا خلا بالنساء لا يقربه أحد.
فلما تأخر خبره عن الناس هجم عليه فتى من بني بقراوس يقال له لوحيم ومعه نفر من أهله، فوجده ملقى على فراشه جيفة، فأمر أن توقد له نار يحرق فيها فأحرقه، ثم جمع النسوة اللاتي كن في الجنة، فمن كانت من نسائه أحرقها معه، ومن كانت من المغصوبات، سرحها إلى أهلها، ففرح الناس لما نزل بهم.
وملكهم لوحيم الملك فخرج ولبس تاج أبيه، وجلس على سرير الملك، وأمر بجمع الناس فلما اجتمعوا قام فيهم خطيباً وذكر ما كان عليه عرباق الأثيم من سوء السيرة واغتصاب النساء وسفك الدماء. ورفض الهياكل والاستخفاف بالكهنة، وأنه لميراث أبيه وجده وأحق به من غيره وضمن للناس العدل والإحسان والقيام بأمرهم، ودفع كل أذى عنهم فرضي الناس منه بذلك، وقالوا له: أنت أحق بالملك، فلا زلت دائم السعادة، طويل العمر، وانصرفوا مسرورين.
فأمر بتجديد الهياكل وتعظيمها، وقرب كثيراً من الكهان، وأكرم جميعهم، وسار في الناس بالعدل.
وكانت الغربان والغرانيق قد كثرت في وقته فأهلكت الزرع، فعمل اربع منارات من نحاس في جوانب أمسوس، وجعل في كل منارة صورة غراب فيه حية قد التوت عليه فلم يقربهم شيء من تلك الطيور إلى أن كان الطوفان، فأزال تلك المنارة.
ومن ملوكهم حصليم، وكانت له أخت حكيمة، وكانت في جواريها جارية فائقة العقل والجمال، فعشقها الملك، وسأل أخته ان تهبها له، فأبت فألح عليها في طلبها، فغضبت واعزلت، وبنت هيكلا وتعبدت فيه للزهرة مدة ثم إنها رأت الزهرة تناجيها وتكلمها، وتأمرها أن تسلم الجارية الى أخيها، وتنهاها أن تمنعه من ذلك، ففعلت ذلك.
ولما صارت الجارية عند الملك حظيت عنده، وفضلها على سائر نسائه فحسدتها وولدت من الملك ولداً ذكراً لم يكن له ولد غيره، فزاد حسدهن لها، وجعلن يطلبن أذاها، ويطلبن الغوائل لها.
وكان أجل وزراء الملك لما يعلم من محبة الملك لها يأتيها في كل يوم فيقضي ماعرض لها من حوائجها، إجلالا لها، فلما قصدن ضراتها إذايتها لم يجدن أنجع من أن يرمينها بذلك الوزير، وكان ذلك حسدا وبغيا، فحققن الأمر عند الملك بما أمكنهن من الحيل، فلما وقف الملك على ذلك أمر بقتلها وقتل الوزير، ولم يشاور في ذلك أخته ولا احداً من الحكماء. فلما نفذ أمره بذلك بادر من وقف على ذلك الى أخته فاعلمها فأسرعت الى الذي امر بقتلهما تأمر باستبقائهما، حتى يرى الملك في امرهما.
ودخلت على الملك فقالت له: ما هذا الذي أمرت به في وزيرك وجاريتك، فقال: اتصل بي عنهما كذا كذا، قالت: أتحدث حدثا عظيماً من القتل على ما لم تتحققه، وعن غير مشورة لأهل الحكمة والثقات من اهل المملكة، قال: لم أملك صبري، قالت: إن الملوك ليس لها ان تعجل حتى يتبين لهم الامر، فامر باستبقائهما، وبحث عن امرهما، فوقف على الكذب فيه، فأمر بكل من سعى فيه من ضراتها فاخرجن من القصر.
وحصليم هذا هو أول من عمل مقياساً لزيادة النيل، وذلك أنه جمع اصحاب العلوم والهندسة، فعملوا بيتاً من زجاج على حافة النيل وجعل في وسطه بركة من نحاس صغيرة فيها ماء موزون وعلى حافة البركة عقابان من نحاس ذكر وأنثى. فاذا كان في أول الشهر الذي يزيد فيه الماء، وفتح البيت وحضر الكهان بين يدي الملك، وتكلم امير الكهان بكلام حتى يصفر أحد العقبان، فان صفر الذكر كان الماء تاماً زائداً وإن صفرت الأنثى كان الماء ناقصاً، ثم يعبرون الماء، وكل أصبع تزيد في تلك البركة فهو زيادة ذراع في النيل، فاذا عملوا ذلك حفروا للزرع وأصلحوا الجسور وعمل على النيل القنطرة التي ببلاد النوبة اليوم،
وكان يسمى ابنه هوصال أي خادم الزهرة للرؤيا التي رأتها اخته، وكفلت الغلام عمته وادبته احسن التأديب، وزوجته عشرين امرأة من بنات الملوك العظام. وبنت له مدينة وجعلت فيها عجائب كثيرة احتفلت فيها، وزينتها بأحسن النقش والزينة والعمارة، وعملت فيها حماماً على أساطين يرتفع الماء فيها اليه حاراً من غير وقيد.
وهلك حصليم فدفن في ناووسه، وملك بعده ابنه هوصال الملك، وتحول هوصال إلى السرب فسكنه، وبنى مدينة هي إحدة المدائن ذوات العجائب، وعمل في وسطها صنماً للشمس يدور معها، ويبيت مغرباً ويصبح مشرقاً.
ويقال إنه أول من اتخذ تحت النيل سرباً، وهو أول من عمل ذلك، وخرج منه متنكراً يشق الأرض والأمم إلى أن بلغ بابل، ورأى ماعمله الملوك من الأعاجيب، وعلم حال ملكها في الوقت وسيرته، ومجاري أموره.
ويقال إن نوحاً عليه السلام ولد في وقته، وولد لهوصال عشرون ولداً، وجعل مع كل واحد منهم قاطراً وهو رأس الكهنة.
وتقول القبط أنه من بعد مائة وسبع وعشرين سنة من ملكهم لزم الهيكل الذي كان أقطعه أبوه لا يشركه فيه غيره، وأمورالناس جارية على سداد، فأقاموا كذلك سبع سنين، ثم وقع بين الاخوة تشاجر واختلاف، فأجمع رءوس الكهنة على أن يجعلوا أحدهم ملكا، ويقيم كل واحد منهم في قسمته، واجتمعوا لذلك في دار المملكة.
وقام رأس الكهان فتكلم، وذكر هوصال وفضائله وسعادتهم في أيامه وما شملهم معه من الخير، وأخبر بما رأته الجماعة من تقليد أحدهم، فان كان هوصال حيا ورجع إليهم لم ينكر ما فعلوه، لأنهم لم يريدوا إلا حفظ ملكه، ورفع المكاره عنه، وإن لم يرجع كان الأمر على ما سلف ملك بعد ملك فاستحسن الناس ذلك القول ورضوا به رأيا، وعملوا به.
فعقدوا الملك على أكبر ولده سنا وهو فدرشان الملك فسار سيرة أبيه فحمد الناس أمره فعمل في أيامه قصراً من خشب ونقشه بأحسن النقوش وصور فيه الكواكب، وبجله بالفروش وحمله على الماء، وكان يتنزه فيه.
فبينما هو فيه ذات يوم إذ هبت ريح عظيمة، وزاد النيل زيادة كبيرة فانكسر القصر وغرق الملك، وهلك وقد كان نفى إخوته إلى المدائن الداخلة.
واقتصر على امرأة واحدة من بنات عمه، فولدت ولداً ولم يكن له ولد غيره، وكانت ساحرة فسحرته حتى هام بها وانفرد بحبها واستخلف بعض وزرائه على الملك، واقبل على لذاته ولهوه معها.
فلما كان من أمره ما كان من هلاكه كتمته امرأته، وكان أمره ونهيه يخرج إلى الوزير عنه، فأقام الناس على طاعته تسع سنين لا يعلمون بأمره.
فلما رأى إخوته طول غيبته جمعوا عليها جموعاً عظيمة وقدموا على أنفسهم أحدهم وهو نمرود الجبار. وساروا الى أمسوس وبلغ ذلك الساحرة امرأة قدرشان، فامرت الوزير على أمر الملك على عادتها بالخروج إليهم وبمحاربتهم، ففعل فهزموه وقتلوه وقتلوا كثيراً ممن كان معه. ودخلوا مدينة أمسوس وأتوا دار الملك فلم يروا له خبراً، فايقنوا بموته وكانت الحيلة وقعت من امرأته الساحرة.
فجلس على سرير الملك نمرود بن هوصال أخوه وملك الناس ووعدهم بحسن السيرة فيهم وتقييد ماكانوا ينكرونه، من أفعال أخيه واستولى على أمواله وخزائنه ففرقها على اخوته واقطعهم جميع ما كان أخوه ادخره لنفسه. وطلب امرأته الساحرة وابنها ليقتلهما فلم يقع لهما على خبر لأن أمه ذهبت به الى مدينة أهلها بالصعيد وكانوا كلهم سحرة وكهانا. فامتنعت بهم وداخلت الناس واعلمتهم أن ابنها هو الملك بعد أبيه لان أباه قلده الملك وأمرها أن تدبر الناس، واعلمتهم فصدقوها وأجابوها وقالوا ان الغلام مغلوب على ملكه وان النمرود متغلب غاصب فاجتمع من حمايتها ونصرتها بشر كثير.
وزحف ابن الساحرة الى نمرود بجموع كثيرة وقد عمل له السحرة أصنافا من التماثيل المهلكة والنيران المحرقة فخرج اليه نمرود واخوته فيمن معهم من الاجناد والاتباع فانهزم الملك واخوته وتعلقوا ببعض الجبال.
ونزل ابن الساحرة بدار الملك وجلس على سريره ولبس تاج ابيه وطافت به بطارقته وكان اسمه توسدون ملك وهو حدث وكانت أمه تدبر أمره فقتل كل من كان صحب النمرود وجد في طلبه ومحاربته حتى ظفر به وسيق اليه أسيرا واجتمع الناس لينظروا اليه فشدت رأسه برأس اسطوانة قائمة وشدت رجله باسطوانةاخرى، وكان طوله فيما تذكره القبط عشرين ذراعا واودعته بيتا ووكلت به رجالا من حرسها لتقتله يوم عيدها وكان قويا فصاح في الليل صيحة مات منها بعض الحرس وهرب الباقون، فلما بلغها ذلك أمرت بانزاله واحضرته وامرت بنار توقد فأوقدت وجعلت تأمر فيقطع منه عضو بعد عضو فيلقى في النار حتى فرغ منه.
وكبر ابنها فخرج كاهناً منجما ساحراً، فعملت له الشياطين قبة من زجاج كرية مدبرة دائرة على دوران الفلك وصوروا عليها صور الكواكب، وكانوا يعرفون بها أسرار الطبائع، وعلوم العالم بطلوعها وأفولها.
وبعد ستين سنة من ملكه ماتت أمه الساحرة، وأوصت أن يجعل جسدها تحت صنم القمر بعد أن يطلى بما يدفع عنه النتن، وكانت وهي ميتة تخبرهم بالعجائب وتجاوبهم على كل ما يسألون، فهاب الناس لابنها وفزعوا له، وكان يتصور لهم في صور كثيرة وملكهم مائة سنة، ولما حضرته الوفاة أمر أن يعمل له شكل صنم من زجاج، يكون شفيفا ويطلى جسده بالأدوية الممسكة له، ويدخل في تلك الصورة التي من الزجاج، ويلحدما بين الشفتين وينام في هيكل الأصنام ويعمل له في كل سنة عيد تقرب فيه القرابين، وتدفن تحته كنوزه، ففعل ذلك كما أمر.
وملك بعد، ابنه سرباق الملك بسيرة ابيه وجدته، واجتمع عليه، وزحف رجل من بني طربيس بن آدم من ناحية العراق فتغلب على الشام. وأراد أن يزحف إلى مصر فعرف أنه لا يصل إليها لسحر أهلها، فأراد أن يدخلها متنكراً ليعرف أهلها، ويقف على سحر بعض أهلها، فخرج ومعه نفر حتى وصلوا إلى حصن من أول حدود مصر، فسألهم الموكلون به عن أمورهم فعرفوهم أنهم تجار يقصدون بلدا يسكنونها، ومعهم أموالهم ليحترفوا كيف ظهر لهم بها، فحبسوهم وأرسلوا إلى الملك بخبرهم.
وقد كان رأى الملك في منامه كأنه كان قائما على منار لهم عال، وكأن طائراً عظيماً قد انقض عليه ليختطفه فحاد عنه حتى كاد أن يسقط عن المنار، فجاوزه الطائر ولم يضره فانتبه مذعوراً، وبعث إلى رأس الكهنة، فقص عليه رؤياه فعرفه أن ملكا يطلب ملكه، فلا يصل إليه.
فنظر في علمه فرأى ذلك الملك الذي يطلب ملكه قد دخل بلده ووافق ذلك دخول الرسل من ذلك الحصن يذكر القوم، فعلم الملك أنه فيهم فوجه بجماعة من أصحابه معه، فاستوثقوا منهم وحملوهم إليه.
وقد كان الملك أمرهم ان يطوفوا بهم على أعمال مصر كلها، ليروا ما فيها من الطلسمات والأصنام والعجائب والمعجزات فبلغوا بهم الى الاسكندرية، ثم ساروا بهم إلى أمسوس، فاوقفوهم على عجائبها ثم ساروا بهم إلى الجنة التي عملها مصرام وأمر السحرة باظهار التماثيل فجعلوا يتعجبون مما يرون حتى وصلوا إلى سرباق الملك، والكهنة حوله قد أظهروا صنوف العجائب، وجعلوا بين يديه ناراً لا يصل إليها إلا من كان من خاصته. ولا تضر الا من أضمر للملك غائلة وامر فشقوها واحدا بعد واحد فلم تضر منهم احدا.
وكان ذلك الملك آخر من دخلها منهم. فلمادنا من النار أخذته فولى هاربا فأتى به سرباق فسأله عن أمره وتوعده فأقر فأمر بقتله، وحمله الى الحصن الذي أخذ به فصلب هناك من جهة الشأم على اسطوانة عظيمة من حجر وزبر عليها هذا فلان بن فلان المتغلب على الشأم أضمر غائلة للملك وطلب مالم يصل إليه تعديا منه عليه وظلما له فعوقب بهذا.
وأمر باطلاق الباقين وقيل لهم قد وجب عليكم القتل، لصحبتكم لمن أراد الفساد في الأرض. ولكن الملك بفضله عفا عنكم وأمر أن تخرجوا من بلاده، ولا تعودوا إليها أبداً فخرجوا هاربين مسرورين بالسلامة فكانوا لا يمرون بأحد إلا حدثوه بما رأوا من العجائب. فانقطعت اطماع الملوك في الوصول الى مصر والتعرض لها. وعملت في وقت سرباق عجائب كثيرة.
منها أنه عمل سرباق في مدينته بطة من نحاس قائمة على اسطوانة، فاذا دخل الغريب من ناحية من النواحي أو باب من الأبواب صفقت بجناحيها، وصرخت فيؤخذ الداخل ويكشف عن أمره ومقصده،
وشق الى مدائن الغرب نهراً من النيل، وبنى على عبريه منازل واعلاما وغرس فيها غروسا يتنزه عليها، وملكهم مائة سنة وثلاثين سنة.
وملكهم بعده ابنه سهلون بن سرياق، وكان سهلون عالما منجما كاهنا، فأفاض العدل وقسم ماء النيل قسما موزونا، صرف الى كل ناحية قسطا، ورتب الدولة وجعلها على سبع طبقات.
الطبقة الأولى : الملك وولده وأهل بيته ومن يلي عدله، ورأس الكهان، والوزير الاكبر، وصاحب خاتم الملك، وصاحب خزائنه.
الطبقة الثانية : مراتب العمال والمتولين لجباية الأموال، والأشراف على النفقات في أمر المملكة، ومصالح البلاد والعمارات، وقسمة المياه.
الطبقة الثالثة : الكهان وأصحاب الهياكل وخدمتها، ومتولي الفراش والمشرف على ما يقرب من بوادر الفاكهة والرياحين وصغار البقر والغنم والفراريج الذكور، وما يعرف من مثل ذلك في طعام الملك وخوابي الشراب، وغير ذلك ممايشبهه.
الطبقة الرابعة : المنجمون، والأطباء، والفلاسفة، ونحوهم.
الطبقة الخامسة : أصحاب عمارة الأرض، والمتولون أمر الزراعة، والغرس.
الطبقة السادسة : أصحات الصناعات والمؤن، والمشيدون في كل سنة في كل فن، والمشرفون علىأعمالهم، ونقل ما يستحسن من أعمالهم إلى خزائن الملك.
لطبقة السابعة : أصحاب الصيد من السباع والوحش والطير والهوام، والمشرفون علىأخذ دمائها ومرارتها وشحومها، وحملها الى الأطباء لاصلاح العقاقير، وتأليف الأدوية.
وتقدم اليهم ألا يدخل أهل صناعة في دلسة ولا مهنة في غير ما هو فيه، ومن قصر في عمله عوقب، ومن أحسن في عمله جوزي. وكانت رتبة أهل الملاهي والألحان في قسمة الملك.
وتقدم في بناء المدائن ونصب الاعلام المنارات، وابتدع ما يستغرب من الصناعات، وإجراء المياه، وتوليد غرائب الاشجار.
وأقام على أعالي الجبال سحرة يقسمون الريح، ويمنعون من أراد بلدهم بأذى، وكذلك يمنعون كل طائر وسبع ووحش وهوام، وجرى في الناس على السداد والاعتدال.
وجعل لكل صنف من الناس صنفا من الكهنة يعلمونهم الدين، ودينهم يومئذ الصابئة الأولى ويرفع كل صنف منهم ما يجري من جميع ما يقولونه إلى الملك في كل يوم، وعمل البيت ذي القباب النورية، وأوقد فيها النار الدائمة تعظيما للنور.
والقبط تزعم أنه أول من عمل بيتاً لتعظيم النار، وقيل إن حمير الفارسي بنى بيتاً للنار، وهو أول من عمل ذلك للفرس اقتداء بسهلون الملك بمصر.
وكان السبب لعمل سهلون أنه رأى في منامه كأن أباه أتاه، فقال له انطلق إلى جبل كذا من جبال مصر، فان فيه كوة من صفتها كذا فانك واجد على باب الكوة أفعى لها رأسان، فانها إذا رأتك كشرت في وجهك، فليكن معك طائران صغيران ذكر وأنثى، فاذا رأيت الأفعى فاذبح لها الطائرين وألقهما اليها فانها تأخذ برأسيهما، وتنحاش بهما إلى سرب قريب من الكوة فتدخل فإذا غابت عنك فادخل الكوة تنتهي في آخرها امرأة عظيمة من نور حار يابس، فسوف يسطع لك وجهها وتحمى بحرارتها، فلا تدنو إليها فتحرق، وقف حذاءها، وسلم عليها، فانها تخاطبك، واسكن الى خطابها، وانظر ما تقوله لك فاعمل به فانك تتشرف به.
وهي حافظة كنوز جدك مصرام التي رفعها تحت مدائن العجائب المعلقة وهي تدلك عليها، وتنال مع ذلك شرفاً وطاعة من قومك ورعيتك، ثم مضى وتركه.
فانتبه سهلون، وجعل يتفكر فيما رأى وتعجب منه وعزم أن ينفذ ما أمره به، فمشى إلى الجبل وحمل الطائرين معه وامتثل ما أمره به أبوه إلى أن وقف حذاء المرأة فسلم عليها، فقالت له: أتعرفني، قال: لا، لأني ما رأيتك قبل وقتي هذا، قالت له: أنا صورة النار المعبودة في الأمم الخالية، وقد أردت أن تحيي ذكري، وتتخذ لي بيتا وتوقد لي فيه ناراً دائمة، بقدر واحدة، وتتخذ لي عيداً في كل سنة تحضره أنت وقومك، فانك تتخذ بذلك عندي أنلك بها شرفاً الى شرفك، وملكا إلى ملكك، وامنع عنك وعن قومك من يطلبك ويعمل الحيلة عليك، وأدلك على كنوز جدك مصرام. فضمن لها أن يفعل ذلك فدلته على الكنوز التي كنزها جده تحت المدائن المعلقة وكيف يصير اليها؛ وكيف يمتنع من الأرواح الموكلة بها وما ينجيه منها.
فلما فرغ مما أراده من ذلك، قال لها: فكيف لي بأن أراك في الأوقات التي أريد وأحتاج أن أسألك عما يطرأ من الأمور فأسير اليك، قالت له: اما هذا المكان فلا تقربه بعد وقتك هذا ولكن إذا احببت ان تراني فدخن في الوقت الذي علمته لك بكذا وكذا، اشياء ذكرتها له " منها عظام ما يقربه من القرابين والذبائح، وصموغ الأشجار " فاني اتخيل لك واخبرك بكل حق وباطل يكون في بلدك.
فلما سمع ذلك منها سر به سروراً عظيما، وغابت الصور، وظهرت الافعى، وخرج هاربا، فلما نجا جعل على الكوة سداً ولم يؤخر ما فعلته به.
وأخرج كنوز جده وعمل بأمسوس وغيرها من العجائب ما يطول به الذكر، فمنها القبة المركبة على سبعة أركان، في بعض صحف القبط أن هذه القبة يقال لها قبة القضاء.
وكان السبب في بنيانها أن بعض الكهنة جار في قضية قضاها، وذلك أن بعض العامة أتاه يشكو امرأته، ويذكر أنها تأباه وهو يحبها وتبغضه، وسأل أن يقومها له بالاظهار، وكانت المرأة من أهل بيت الكاهن، فأمالها عن زوجها وأمره بتخليتها فلم يفعل، وحبسه وشدد عليه، وكان من اهل الصناعات.
فاجتمع من اهل صناعته من كان قد عرف حاله، وحال المرأة معه، وأنها ظالمة له وهو لها منصف، وعلموا ظلم الكاهن له، فاستعدوا عليه عند خليفة الملك فأحضره وسأله عما ذكروه فذكر أنه لم يحكم إلا بواجب.
فأحضر بعض رؤساء الكهنة، واظهر القوم الذين شهدوا للرجل، فوقف على ظلم الكاهن. فأخرج الرجل من الحبس وحبس الكاهن مكانه، وامر بالمرأة أن تعاقب وترد عليه.
ورفع ذلك إلى الملك فأمر أن يخرج ذلك الكاهن من رسم الكهان، وأن يحبس إلى أن يرى رأيه فيه، واهتم الملك لذلك وخاف ان يجري من غير ذلك الكاهن مثل ما جرى منه، وأن يكون ما قد أبرمه من امر المملكة واهلها لا يتحكم له حسبما أحب، وبات مهموماً مفكراً.
فلما أصبح اصطبح وتطيب وتكلم ودخن بالدخنة التي أمر بها فتجلت له تلك الصورة وخاطبته فسألها أن تعمل له عملاً يقف به على حقيقة الظلم وخفيه، ويعرف المظلوم من الظالم.
فأمرته أن يبني بيتاً مركباً على سبعة أركان، ويجعل له سبعة أبواب، على كل ركن باباً، ويعمل في وسطه قبة من صفر، ويصور في أعلاها صور الكواكب السبعة.
ويعمل على الباب الاول من القبة مثال اسد رابض وحذاءه من الجانب الآخر لبوة رابضة من صفر ويقرب لهما جرو أسد، ويبخرهما بشعره.
وعلى الباب الثاني، تمثال ثور وبقرة، ويذبح لهما عجلا ويبخرهما بشعره،
وعلى الباب الثالث صورة خنزير وأنثاه، ويذبح لهما خنوصاً، ويبخرهما بشعره.
وعلى الباب الرابع صورة جمل وشاة، ويذبح لهما سخلة، ويبخرهما بشعرها.
وعلى الباب الخامس صورة ثعلب وحدأة وانثاه، ويذبح لهما فرخ عقاب، ويبخرهما بريشه، ويلطخ وجوه جميعها بدم القربان، ثم يحرق بقية القرابين ويجعل رمادها تحت عتبة ابواب القبة، ويجعل لها سدنة يوقدون فيها المصابيح ليلا ونهارا سبعة أيام.
فاذا فرغت من ذلك كله، فاجعل لكل مرتبة من تلك المراتب التي قسمتها وجعلتها على سبع طبقات باباُ من تلك الأبواب، وليكن باب الاسد لاهل المملكة وسائر الأبواب لسائر المراتب، فانه إذا تقدم إلى شيء من تلك الصور أهل الخصومات التصق الظالم بها، وشدت الصورة عليه شداً عنيفاً وآذته وآلمته حتى يخرج لخصمه من حقه، الذكر للذكر والأنثى للانثى، فتعرف بذلك الظالم من المظلوم.
ومن كان له قبل أحد حق ودعاه إلى بعض الصور فلم يجيء معه، فأتاها المظلوم فعرفها بذلك أقعد الظالم من رجليه وخرس لسانه، ولم يتحرك من مكانه حتى ينصف صاحبه.
فلم يؤخر الملك عمل القبة على ما أمرت به وشرع فيها من حينه، وأتمها على ما أحسن ما يكون هيئة وصلاحاً، واستراح من الاهتمام بامور الناس، فلم يتظلم بعضهم من بعض. وعلم أنه لا يجوز لبعضهم ظلم بعض، مع تلك الصورة، فلم تزل تلك الصورة باقية إلى أن أزالها الطوفان مع ما أزال من اعمالهم وعجائبهم.
وعملت في وقت سهلون اعمال كثيرة، وكتب سيرته وما ابتدعه من العجائب في صحف، وعمل ادوية وعقاقير كثيرة وتماثيل متحركات. وأمر ان يحمل ذلك كله مع الصحف التي كتب فيها سيرته ومع كنوزه وذخائره إلى ناووسه الذي يجعل فيه إذا مات، وهو قد عمله في الجانب الغربي ووضع فيه غرائب وحكمة، فلما مات عمل فيه ذلك.
مُختصر أخبار الزمان للمسعودي
مجلة نافذة ثقافية . البوابة
وكان أول من ملك مصر قبل الطوفان بقراويس وذلك أن بني آدم لما بغى بعضهم على بعض وتحاسدوا، وتغلب عليهم بنو قابيل بن آدم تحول بقراويس الجبار بن مصرايم بن مواكيل بن داويل بن عرباق بن آدم عليه السلام في نيف وسبعين راكباً من بني عرباق جبابرة، كلهم يطلبون موضعاً ينقطعون فيه عن بني آدم، فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل فأطالوا المشي عليه، فلما رأوا سعة البلد وحسنه أعجبهم، وقالوا: هذا بلد زرع وعمارة، فأقاموا فيه واستوطنوه، وبنوا الأبنية والمصانع المحكمة.
وبنى بقراويس مصر، وسماها باسم أبيه مصرايم تبركاً به، وكان بقراويس جباراً له قوة زائدة وبطش وكان مع ذلك عالماً له رئي من الجن، فملك بني أبيه، ولم يزل مطاعاً في أمره، وقد كان وقع إليه من العلوم التي علمها درابيل لآدم عليه السلام، فقهر بها الجبابرة الذين كانوا معه.
وهم الملوك الذين بنوا الأعلام، واقاموا الأساطين العظام، وبنوا المصانع الغريبة، ووضعوا الطلسمات العجيبة، واستخرجوا المعادن، وقهروا من ناوأهم من ملوك الأرض، ولم يطمع فيهم طامع، وكل علم جليل هو في أيدي المصريين، إنما كان من علوم أولئك، كانت مزبورة على الحجارة.
فيقال إن فيلمون الكاهن الذي ركب مع نوح عليه السلام في السفينة هو الذي فسرها لهم، وعلمهم كتبها، وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله عز وجل.
ثم أمرهم بقراويس حين ملك ببناء مدينة سموها أمسوسا وأقاموا لها أعلاماً طوالاً طول كل علم منها مائة ذراع، وزرعوا وعمروا الأرض، وامرهم ببناء المدائن، والقرى، واسكن أهل كل بيت ناحية من أرض مصر. وهم الذين حفروا النيل حتى أجروا ماءه اليهم، ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري، وإنما كان ينبطح ويتفرق في الأرض، فوجه إلى النوبة جماعة حتى هندسوه، وشقوا منه أنهاراً الى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها.
وشقوا منها نهراً الى مدينة أمسوس يجري في وسطها وغرسوا فيها عليه الغروس وكثر خيرهم وعمرت أرضهم، وتجبر بقراويس لما ملك قومه، وكان عظيمهم. وبعد عشرين ومائة سنة خلت من ملكه، أمر بإقامة الأساطين وزبروا عليها علومهم.
ثم أمر ببناء قبة على أساطين مثبتة بالرصاص، وطولها مائة ذراع، وجعل عليها مرآة زبرجد أخضر، قدرها سبعة أشبار ترى خضرتها على أمد بعيد.
وفي صحف المصريين أنه سأل الربيء الذي كان معه أن يعرفه فخرج الى شاطيء النيل، فحمله حتى أجلسه على خلف خط الاستواء على البحر الأسود الزفتي والنيل يخرج مثل الخيوط حتى يدخل تحت جبل القمر، ثم يخرج الى بطائح هناك.
ويقال إنه بنى بيت التماثيل هناك، وعمل هيكل الشمس، ورجع الى أمسوس وقسم البلد بين بنيه، فجعل لبقرانس الجانب الغربي، ولسوريد الجانب الشرقي، ولابنه الأصغر وهو مصرام مدينة سماها يربيان، وأسكنه فيها، وأقام أساطين كثيرة، وشق اليها نهراً وغرس فيها غروساً.
وعمل بأمسوس عجائب كثيرة، منها طائر يصفر كل يوم عند طلوع الشمس مرتين وعند غروبها مرتين، تصفيراً مختلفاً، يستدلون به على ما يكون من الحوادث، فيتأهبون لذلك، وأجرى لهم الماء على مجرى ينقسم منه على ثمانية وعشرين قسماً.
وعمل في وسط المدينة صنمين حجراً أسود، إذا قدم المدينة سارق لم يمكنه أن يزول عنها حتى يهلك بينهما فاذا دخل بينهما انطبقا عليه، ولهذين الصنمين أعمال عجيبة غير هذا.
وعمل على حدود بلدهم أصناماً من نحاس مجوفة، وملأها كبريتاً، ووكل بها روحانية النار، إذا قصدهم قاصد بسوء أرسلت تلك الأصنام من أفواهها ناراً فأحرقته.
وكان حد بلدهم إلى ناحية الغرب مسافة أيام كثيرة عامرة بالقصور والبساتين، وكذلك في البحر، ومن الصعيد إلى بلاد علوة.
وعمل فوق جبل بطرس مناراً يفور بالماء ويسقي ما حوله وما تحته من المزارع وملكهم مائة وثمانين سنة.
فلما مات لطخوا جسده بالأدوية الممسكة، وجعلوه في تابوت من ذهب وعملوا له ناووساً مصفحاً بالذهب، وجعلوه فيه وجعلوا معه كنوزاً لا تحصى كثرة ولاتحصر قيمة.
ومن الأنواع النفيسة من الجوهر والتماثيل الزبرجد، وكثيراُ من أكسير الصنعة المعمول المفروغ منه، ومن الذهب والأواني المعمولة من الذهب ما لا يحصى كثرة، ولا تعلم قيمته.
وزبروا على البيوت تاريخ الوقت الذي مات فيه ملكهم، ثم جعلوا على ذلك كله طلمسات تدفع عنه الهوام والحشرات المفسدة، وصور كل طالب من الأنس والجن.
ثم ملك بعده ابنه براوس الملك فتجبر وعتا أمره وعلا وبنى مدينة يقال لها جلجلة وجعل فيها جنة، وصفح حيطانها بصفائح الذهب والحجارة الملونة، وغرس فيها أصناف الفواكه والغروس تحفها الأنهار.
وأمر باقامة أساطين جعلها معالم، وكتب عليها جميع العلوم. وصور أصناف العقاقير بها، وزبروا عليها أسماءها ومنافعها.
وكان له شيطان يعمل له التماثيل العجيبة فهو أول من عمل بمصر هيكلاً، وصور فيه صور الكواكب السبعة، وكتب على رأسه تجاربها. وما عملت من المنافع والمضار، وألبسها الثياب، وأقام للهيكل كاهناً وسدنة.
وخرج مغرباً حتى بلغ البحر المحيط، وعمل عليه أعمالاً، وبنى أساطين جعل على رؤوسها اصناماً تسرج عيونها كالمصابيح في الليل، ورجع على بلاد السودان إلى النيل. وأمر ببناء حائط على جانب النيل وجعل على شرفها حجارة ملونة شفافة.
وجعل في مدينة منها خزائن للحكمة، وهي أول عجائب الأرض وأغربها، ففي إحدى هذه المدن صنم للشمس، الذي هو أعظم أصنامهم. وهي معلقة عليه في بيت شرفها وهو صورة إنسان جسده جسد طائر من ذهب أزرق مدبر وعيناه جوهرتان صفراوان، وهو جالس على سرير مغنطيس. وفي يده صحف من العلوم.
وفيها صنم آخر رأسه رأس إنسان وجسده جسد طائر، ومعه صورة امرأة جالسة من زئبق معقود لها ذؤابتان، وفي يدها مرآة، وعلى رأسها صورة كوكب. وهي رافعة يدها بالمرآة الى وجهها ومظهرة فيها سبعة الوان من الماء السائل. لا تختلط ولا يؤذي بعضها لون بعض ولا يغيره، وفيها شيخ جالس من الفيروزج بين يديه صبية جلوس كلهم من أصناف العقيق والجوهر.
وفي الخزانة الثانية صورة هرمس وهو مكب ينظر الى مائدة به يديه من نشادر على قوائم كبريت أحمر، وفي وسطها مثل الصحفة من جوهر أحمر فيها شيء من الصنعة.
وفيها صورة عقاب من زمرد أخضر، عيناه من ياقوت أحمر، وبين يديه حية زرقاء من فضة قد لوت ذنبها على رجليه، ورفعت رأسها كأنها تريد ان تنفخ عليه، وفي ناحية منها صفة المريخ راكب على فرس بيده سيف مسلول من حديد أخضر، وفيها عمود من جوهر أخضر عليه قبة من ذهب فيها صورة المشتري وفيها قبة من اللازورد على أربعة أعمدة من جذع أزرق، وفي سقفها صورة الشمس والقمر يتحدثان في صورتي رجل وامرأة، وقبة من كبريت احمر فيها صورة الزهرة على صورة امرأة ممسكة بضفيرتها وتحتها رجل من زبرجد أخضر في يده كتاب فيه علم من علومهم، كأنه يقرؤه عليها.
وجعل في كل خزانة من بقية الخزائن من الأموال والجواهر والكنوز والحلى ما لا يعد ولا يقدر قدره. وجعل على باب كل مدينة طلسما، يمنع دخولها في صور مختلفة، لا يشبه بعضها بعضا.
وملأ كل مدينة بالجوهر النفيس والزبرجد الخطير والذهب والفضة، والكبريت الأحمر، واكسير الصنعة، وصنوف الادوية المؤلفة، والسموم الفاتكة، وعلم كل باب منها بعلامة تعرف بها.
وانفذ إليها خازنا تحت الأرض وجعلها من تحت جلجلة، وهي مدينته التي عمل فيها الجنة. وبين كل مدينة من تلك المدن الثلاث عشرون ميلا، وبين الثلاث سبعة أميال. وكان له من مدينته الى هذه المدائن اسراب تحت الأرض يصل منها اليها، وكذلك من بعضها الى بعض.
وصفات هذه المدائن وعجائبها في كل قرية بمصر على تلك الحجارة، وفي جميع صحفهم القديمة، وأكثر ذكرها في هياكل الكواكب خاصة، وقريء في صحف لبعض الكهان القدماء ذكر بقراوش الملك بكل ما ذكرناه، وأنه عمل مع ماذكرناه عجائب كثيرة أزالها الطوفان وركب هذه الرمال لزوال طلسماتها، فأقام بقراوش ملكا مائة سنة وسبع سنين، ثم مات فعمل له ناووس، وجعل معه من العجائب ما يطول ذكره.
وولى بعده ابنه مصرام الملك بن بقراوس، فبنى للشمس هيكلا من المرمر وموهه بالذهب، وجعل في وسط الهيكل كالفرس من جوهر أزرق عليه صورة الشمس من ذهب أحمر، وأرخي عليه وعليها حلل الحرير الملون، وأمر أن يوقد عليها بطيب الريحان، وجعل في الهيكل قنديلا من الزجاج الصافي، وجعل فيه حجرا مدبرا يضيء اكثر مما يضيء السراج، وأقام له سدنة وعمل أربعة أعياد في السنة.
وقيل إن مصر سميت به، وسمى به مصريم بن حام بعد الطوفان، لأنه وجد اسمه مزبورا على الحجارة.
وكان افليمون الكاهن يخبرهم بأخبار هؤلاء الملوك، وكان مصرام هذا قد ذلل الأسد في وقته، وكان يركبه، وصحبه الجني الذي كان مع أبيه، لما رأى من حرصه على لزوم الهياكل والقيام بأمر الكواكب. وأمره أن يحتجب عن الناس، وألقى على وجهه من سحره نوراً شديداً لا يقدر احد على النظر اليه. وادعاه إلاها، واحتجب عن الناس ثلاثين سنة، واستخلف عليهم رجلاً من ولد عرباق، وكان كاهنا.
ويقال إن مصرام لما ركب في عرشه، وحملته الشياطين حتى انتهى إلى وسط البحر، فجعل له فيه القلعة البيضاء، وجعل عليها صنما للشمس، وزبر عليه اسمه وصفة ملكه. وعمل صنما من نحاس وزبر عليه " انا مصرام الجبار، كاشف الأسرار، الغا لب القهار، وضعت الطلمسات الصادقة، وأقمت الصور الناطقة، ونصبت الاعلام الهائلة، على البحار السائلة، ليعلم من بعدي انه لا يملك أحد ملكي ".
وكل ذلك في أوقات السعادة، وقد كان عمل في جنته شجرة مولدة، تؤكل منها جميع الثمار. وعمل فيها قبة من زجاج احمر على رأسها صنم يدور مع الشمس، ووكل بها الشياطين إذا اختلط الظلام أن لا يخرج احد من ملكه إلا هلك.
وهو اول من عمل الحمام، وأحب أهل مصر ان يروه فسألوا خليفته ذلك، فأمرهم أن يجتمعوا في مجلس عال كان له، فاجتمعوا وجلسوا عنده، فظهر لهم في صورة هالتهم، ملأت قلوبهم رعباً، فخروا له على وجوههم ودعوا له فأمر بإحضار الطعام والشراب فأكلوا وشربوا ورجعوا إلى مواضعهم، ثم لم يروه بعد ذلك وبلغ في كهانته الى ما لم يبلغه أحد من آبائه وأجداده.
وملك بعده عيقام الكاهن، فعدل فيهم، وعمل مدينة عجيبة قرب العريش وجعلها لهم حرماً، وعمل لهم طلاسم عجيبة وعجائب كثيرة، وقيل ان ادريس عليه السلام رفع في وقته ولم يطل عمره.
وملك بعده ابنه عرباق بن عيقام فتجبر واقبل على صيد السباع والوحش وعمل عجائب. منها أنه عمل شجرة من حديد ذات أغصان، ولطخها بدواء مدبر، فكانت تجلب كل صنف من السباع والوحش اليها، فيتمكن من صيدها كيف شاء.
وفي كتب المصريين أن هاروت وماروت كانا في وقته بمصر، فعلما أهل مصر أصنافاً من السحر، فنقلا بعد الطوفان إلى أرض بابل وتعلم عرباق من علمها. فاحتالت عليه امرأة من المغصوبات فسمته فهلك وبقي مدة لايعرف خبره، وكان رسمه إذا خلا بالنساء لا يقربه أحد.
فلما تأخر خبره عن الناس هجم عليه فتى من بني بقراوس يقال له لوحيم ومعه نفر من أهله، فوجده ملقى على فراشه جيفة، فأمر أن توقد له نار يحرق فيها فأحرقه، ثم جمع النسوة اللاتي كن في الجنة، فمن كانت من نسائه أحرقها معه، ومن كانت من المغصوبات، سرحها إلى أهلها، ففرح الناس لما نزل بهم.
وملكهم لوحيم الملك فخرج ولبس تاج أبيه، وجلس على سرير الملك، وأمر بجمع الناس فلما اجتمعوا قام فيهم خطيباً وذكر ما كان عليه عرباق الأثيم من سوء السيرة واغتصاب النساء وسفك الدماء. ورفض الهياكل والاستخفاف بالكهنة، وأنه لميراث أبيه وجده وأحق به من غيره وضمن للناس العدل والإحسان والقيام بأمرهم، ودفع كل أذى عنهم فرضي الناس منه بذلك، وقالوا له: أنت أحق بالملك، فلا زلت دائم السعادة، طويل العمر، وانصرفوا مسرورين.
فأمر بتجديد الهياكل وتعظيمها، وقرب كثيراً من الكهان، وأكرم جميعهم، وسار في الناس بالعدل.
وكانت الغربان والغرانيق قد كثرت في وقته فأهلكت الزرع، فعمل اربع منارات من نحاس في جوانب أمسوس، وجعل في كل منارة صورة غراب فيه حية قد التوت عليه فلم يقربهم شيء من تلك الطيور إلى أن كان الطوفان، فأزال تلك المنارة.
ومن ملوكهم حصليم، وكانت له أخت حكيمة، وكانت في جواريها جارية فائقة العقل والجمال، فعشقها الملك، وسأل أخته ان تهبها له، فأبت فألح عليها في طلبها، فغضبت واعزلت، وبنت هيكلا وتعبدت فيه للزهرة مدة ثم إنها رأت الزهرة تناجيها وتكلمها، وتأمرها أن تسلم الجارية الى أخيها، وتنهاها أن تمنعه من ذلك، ففعلت ذلك.
ولما صارت الجارية عند الملك حظيت عنده، وفضلها على سائر نسائه فحسدتها وولدت من الملك ولداً ذكراً لم يكن له ولد غيره، فزاد حسدهن لها، وجعلن يطلبن أذاها، ويطلبن الغوائل لها.
وكان أجل وزراء الملك لما يعلم من محبة الملك لها يأتيها في كل يوم فيقضي ماعرض لها من حوائجها، إجلالا لها، فلما قصدن ضراتها إذايتها لم يجدن أنجع من أن يرمينها بذلك الوزير، وكان ذلك حسدا وبغيا، فحققن الأمر عند الملك بما أمكنهن من الحيل، فلما وقف الملك على ذلك أمر بقتلها وقتل الوزير، ولم يشاور في ذلك أخته ولا احداً من الحكماء. فلما نفذ أمره بذلك بادر من وقف على ذلك الى أخته فاعلمها فأسرعت الى الذي امر بقتلهما تأمر باستبقائهما، حتى يرى الملك في امرهما.
ودخلت على الملك فقالت له: ما هذا الذي أمرت به في وزيرك وجاريتك، فقال: اتصل بي عنهما كذا كذا، قالت: أتحدث حدثا عظيماً من القتل على ما لم تتحققه، وعن غير مشورة لأهل الحكمة والثقات من اهل المملكة، قال: لم أملك صبري، قالت: إن الملوك ليس لها ان تعجل حتى يتبين لهم الامر، فامر باستبقائهما، وبحث عن امرهما، فوقف على الكذب فيه، فأمر بكل من سعى فيه من ضراتها فاخرجن من القصر.
وحصليم هذا هو أول من عمل مقياساً لزيادة النيل، وذلك أنه جمع اصحاب العلوم والهندسة، فعملوا بيتاً من زجاج على حافة النيل وجعل في وسطه بركة من نحاس صغيرة فيها ماء موزون وعلى حافة البركة عقابان من نحاس ذكر وأنثى. فاذا كان في أول الشهر الذي يزيد فيه الماء، وفتح البيت وحضر الكهان بين يدي الملك، وتكلم امير الكهان بكلام حتى يصفر أحد العقبان، فان صفر الذكر كان الماء تاماً زائداً وإن صفرت الأنثى كان الماء ناقصاً، ثم يعبرون الماء، وكل أصبع تزيد في تلك البركة فهو زيادة ذراع في النيل، فاذا عملوا ذلك حفروا للزرع وأصلحوا الجسور وعمل على النيل القنطرة التي ببلاد النوبة اليوم،
وكان يسمى ابنه هوصال أي خادم الزهرة للرؤيا التي رأتها اخته، وكفلت الغلام عمته وادبته احسن التأديب، وزوجته عشرين امرأة من بنات الملوك العظام. وبنت له مدينة وجعلت فيها عجائب كثيرة احتفلت فيها، وزينتها بأحسن النقش والزينة والعمارة، وعملت فيها حماماً على أساطين يرتفع الماء فيها اليه حاراً من غير وقيد.
وهلك حصليم فدفن في ناووسه، وملك بعده ابنه هوصال الملك، وتحول هوصال إلى السرب فسكنه، وبنى مدينة هي إحدة المدائن ذوات العجائب، وعمل في وسطها صنماً للشمس يدور معها، ويبيت مغرباً ويصبح مشرقاً.
ويقال إنه أول من اتخذ تحت النيل سرباً، وهو أول من عمل ذلك، وخرج منه متنكراً يشق الأرض والأمم إلى أن بلغ بابل، ورأى ماعمله الملوك من الأعاجيب، وعلم حال ملكها في الوقت وسيرته، ومجاري أموره.
ويقال إن نوحاً عليه السلام ولد في وقته، وولد لهوصال عشرون ولداً، وجعل مع كل واحد منهم قاطراً وهو رأس الكهنة.
وتقول القبط أنه من بعد مائة وسبع وعشرين سنة من ملكهم لزم الهيكل الذي كان أقطعه أبوه لا يشركه فيه غيره، وأمورالناس جارية على سداد، فأقاموا كذلك سبع سنين، ثم وقع بين الاخوة تشاجر واختلاف، فأجمع رءوس الكهنة على أن يجعلوا أحدهم ملكا، ويقيم كل واحد منهم في قسمته، واجتمعوا لذلك في دار المملكة.
وقام رأس الكهان فتكلم، وذكر هوصال وفضائله وسعادتهم في أيامه وما شملهم معه من الخير، وأخبر بما رأته الجماعة من تقليد أحدهم، فان كان هوصال حيا ورجع إليهم لم ينكر ما فعلوه، لأنهم لم يريدوا إلا حفظ ملكه، ورفع المكاره عنه، وإن لم يرجع كان الأمر على ما سلف ملك بعد ملك فاستحسن الناس ذلك القول ورضوا به رأيا، وعملوا به.
فعقدوا الملك على أكبر ولده سنا وهو فدرشان الملك فسار سيرة أبيه فحمد الناس أمره فعمل في أيامه قصراً من خشب ونقشه بأحسن النقوش وصور فيه الكواكب، وبجله بالفروش وحمله على الماء، وكان يتنزه فيه.
فبينما هو فيه ذات يوم إذ هبت ريح عظيمة، وزاد النيل زيادة كبيرة فانكسر القصر وغرق الملك، وهلك وقد كان نفى إخوته إلى المدائن الداخلة.
واقتصر على امرأة واحدة من بنات عمه، فولدت ولداً ولم يكن له ولد غيره، وكانت ساحرة فسحرته حتى هام بها وانفرد بحبها واستخلف بعض وزرائه على الملك، واقبل على لذاته ولهوه معها.
فلما كان من أمره ما كان من هلاكه كتمته امرأته، وكان أمره ونهيه يخرج إلى الوزير عنه، فأقام الناس على طاعته تسع سنين لا يعلمون بأمره.
فلما رأى إخوته طول غيبته جمعوا عليها جموعاً عظيمة وقدموا على أنفسهم أحدهم وهو نمرود الجبار. وساروا الى أمسوس وبلغ ذلك الساحرة امرأة قدرشان، فامرت الوزير على أمر الملك على عادتها بالخروج إليهم وبمحاربتهم، ففعل فهزموه وقتلوه وقتلوا كثيراً ممن كان معه. ودخلوا مدينة أمسوس وأتوا دار الملك فلم يروا له خبراً، فايقنوا بموته وكانت الحيلة وقعت من امرأته الساحرة.
فجلس على سرير الملك نمرود بن هوصال أخوه وملك الناس ووعدهم بحسن السيرة فيهم وتقييد ماكانوا ينكرونه، من أفعال أخيه واستولى على أمواله وخزائنه ففرقها على اخوته واقطعهم جميع ما كان أخوه ادخره لنفسه. وطلب امرأته الساحرة وابنها ليقتلهما فلم يقع لهما على خبر لأن أمه ذهبت به الى مدينة أهلها بالصعيد وكانوا كلهم سحرة وكهانا. فامتنعت بهم وداخلت الناس واعلمتهم أن ابنها هو الملك بعد أبيه لان أباه قلده الملك وأمرها أن تدبر الناس، واعلمتهم فصدقوها وأجابوها وقالوا ان الغلام مغلوب على ملكه وان النمرود متغلب غاصب فاجتمع من حمايتها ونصرتها بشر كثير.
وزحف ابن الساحرة الى نمرود بجموع كثيرة وقد عمل له السحرة أصنافا من التماثيل المهلكة والنيران المحرقة فخرج اليه نمرود واخوته فيمن معهم من الاجناد والاتباع فانهزم الملك واخوته وتعلقوا ببعض الجبال.
ونزل ابن الساحرة بدار الملك وجلس على سريره ولبس تاج ابيه وطافت به بطارقته وكان اسمه توسدون ملك وهو حدث وكانت أمه تدبر أمره فقتل كل من كان صحب النمرود وجد في طلبه ومحاربته حتى ظفر به وسيق اليه أسيرا واجتمع الناس لينظروا اليه فشدت رأسه برأس اسطوانة قائمة وشدت رجله باسطوانةاخرى، وكان طوله فيما تذكره القبط عشرين ذراعا واودعته بيتا ووكلت به رجالا من حرسها لتقتله يوم عيدها وكان قويا فصاح في الليل صيحة مات منها بعض الحرس وهرب الباقون، فلما بلغها ذلك أمرت بانزاله واحضرته وامرت بنار توقد فأوقدت وجعلت تأمر فيقطع منه عضو بعد عضو فيلقى في النار حتى فرغ منه.
وكبر ابنها فخرج كاهناً منجما ساحراً، فعملت له الشياطين قبة من زجاج كرية مدبرة دائرة على دوران الفلك وصوروا عليها صور الكواكب، وكانوا يعرفون بها أسرار الطبائع، وعلوم العالم بطلوعها وأفولها.
وبعد ستين سنة من ملكه ماتت أمه الساحرة، وأوصت أن يجعل جسدها تحت صنم القمر بعد أن يطلى بما يدفع عنه النتن، وكانت وهي ميتة تخبرهم بالعجائب وتجاوبهم على كل ما يسألون، فهاب الناس لابنها وفزعوا له، وكان يتصور لهم في صور كثيرة وملكهم مائة سنة، ولما حضرته الوفاة أمر أن يعمل له شكل صنم من زجاج، يكون شفيفا ويطلى جسده بالأدوية الممسكة له، ويدخل في تلك الصورة التي من الزجاج، ويلحدما بين الشفتين وينام في هيكل الأصنام ويعمل له في كل سنة عيد تقرب فيه القرابين، وتدفن تحته كنوزه، ففعل ذلك كما أمر.
وملك بعد، ابنه سرباق الملك بسيرة ابيه وجدته، واجتمع عليه، وزحف رجل من بني طربيس بن آدم من ناحية العراق فتغلب على الشام. وأراد أن يزحف إلى مصر فعرف أنه لا يصل إليها لسحر أهلها، فأراد أن يدخلها متنكراً ليعرف أهلها، ويقف على سحر بعض أهلها، فخرج ومعه نفر حتى وصلوا إلى حصن من أول حدود مصر، فسألهم الموكلون به عن أمورهم فعرفوهم أنهم تجار يقصدون بلدا يسكنونها، ومعهم أموالهم ليحترفوا كيف ظهر لهم بها، فحبسوهم وأرسلوا إلى الملك بخبرهم.
وقد كان رأى الملك في منامه كأنه كان قائما على منار لهم عال، وكأن طائراً عظيماً قد انقض عليه ليختطفه فحاد عنه حتى كاد أن يسقط عن المنار، فجاوزه الطائر ولم يضره فانتبه مذعوراً، وبعث إلى رأس الكهنة، فقص عليه رؤياه فعرفه أن ملكا يطلب ملكه، فلا يصل إليه.
فنظر في علمه فرأى ذلك الملك الذي يطلب ملكه قد دخل بلده ووافق ذلك دخول الرسل من ذلك الحصن يذكر القوم، فعلم الملك أنه فيهم فوجه بجماعة من أصحابه معه، فاستوثقوا منهم وحملوهم إليه.
وقد كان الملك أمرهم ان يطوفوا بهم على أعمال مصر كلها، ليروا ما فيها من الطلسمات والأصنام والعجائب والمعجزات فبلغوا بهم الى الاسكندرية، ثم ساروا بهم إلى أمسوس، فاوقفوهم على عجائبها ثم ساروا بهم إلى الجنة التي عملها مصرام وأمر السحرة باظهار التماثيل فجعلوا يتعجبون مما يرون حتى وصلوا إلى سرباق الملك، والكهنة حوله قد أظهروا صنوف العجائب، وجعلوا بين يديه ناراً لا يصل إليها إلا من كان من خاصته. ولا تضر الا من أضمر للملك غائلة وامر فشقوها واحدا بعد واحد فلم تضر منهم احدا.
وكان ذلك الملك آخر من دخلها منهم. فلمادنا من النار أخذته فولى هاربا فأتى به سرباق فسأله عن أمره وتوعده فأقر فأمر بقتله، وحمله الى الحصن الذي أخذ به فصلب هناك من جهة الشأم على اسطوانة عظيمة من حجر وزبر عليها هذا فلان بن فلان المتغلب على الشأم أضمر غائلة للملك وطلب مالم يصل إليه تعديا منه عليه وظلما له فعوقب بهذا.
وأمر باطلاق الباقين وقيل لهم قد وجب عليكم القتل، لصحبتكم لمن أراد الفساد في الأرض. ولكن الملك بفضله عفا عنكم وأمر أن تخرجوا من بلاده، ولا تعودوا إليها أبداً فخرجوا هاربين مسرورين بالسلامة فكانوا لا يمرون بأحد إلا حدثوه بما رأوا من العجائب. فانقطعت اطماع الملوك في الوصول الى مصر والتعرض لها. وعملت في وقت سرباق عجائب كثيرة.
منها أنه عمل سرباق في مدينته بطة من نحاس قائمة على اسطوانة، فاذا دخل الغريب من ناحية من النواحي أو باب من الأبواب صفقت بجناحيها، وصرخت فيؤخذ الداخل ويكشف عن أمره ومقصده،
وشق الى مدائن الغرب نهراً من النيل، وبنى على عبريه منازل واعلاما وغرس فيها غروسا يتنزه عليها، وملكهم مائة سنة وثلاثين سنة.
وملكهم بعده ابنه سهلون بن سرياق، وكان سهلون عالما منجما كاهنا، فأفاض العدل وقسم ماء النيل قسما موزونا، صرف الى كل ناحية قسطا، ورتب الدولة وجعلها على سبع طبقات.
الطبقة الأولى : الملك وولده وأهل بيته ومن يلي عدله، ورأس الكهان، والوزير الاكبر، وصاحب خاتم الملك، وصاحب خزائنه.
الطبقة الثانية : مراتب العمال والمتولين لجباية الأموال، والأشراف على النفقات في أمر المملكة، ومصالح البلاد والعمارات، وقسمة المياه.
الطبقة الثالثة : الكهان وأصحاب الهياكل وخدمتها، ومتولي الفراش والمشرف على ما يقرب من بوادر الفاكهة والرياحين وصغار البقر والغنم والفراريج الذكور، وما يعرف من مثل ذلك في طعام الملك وخوابي الشراب، وغير ذلك ممايشبهه.
الطبقة الرابعة : المنجمون، والأطباء، والفلاسفة، ونحوهم.
الطبقة الخامسة : أصحاب عمارة الأرض، والمتولون أمر الزراعة، والغرس.
الطبقة السادسة : أصحات الصناعات والمؤن، والمشيدون في كل سنة في كل فن، والمشرفون علىأعمالهم، ونقل ما يستحسن من أعمالهم إلى خزائن الملك.
لطبقة السابعة : أصحاب الصيد من السباع والوحش والطير والهوام، والمشرفون علىأخذ دمائها ومرارتها وشحومها، وحملها الى الأطباء لاصلاح العقاقير، وتأليف الأدوية.
وتقدم اليهم ألا يدخل أهل صناعة في دلسة ولا مهنة في غير ما هو فيه، ومن قصر في عمله عوقب، ومن أحسن في عمله جوزي. وكانت رتبة أهل الملاهي والألحان في قسمة الملك.
وتقدم في بناء المدائن ونصب الاعلام المنارات، وابتدع ما يستغرب من الصناعات، وإجراء المياه، وتوليد غرائب الاشجار.
وأقام على أعالي الجبال سحرة يقسمون الريح، ويمنعون من أراد بلدهم بأذى، وكذلك يمنعون كل طائر وسبع ووحش وهوام، وجرى في الناس على السداد والاعتدال.
وجعل لكل صنف من الناس صنفا من الكهنة يعلمونهم الدين، ودينهم يومئذ الصابئة الأولى ويرفع كل صنف منهم ما يجري من جميع ما يقولونه إلى الملك في كل يوم، وعمل البيت ذي القباب النورية، وأوقد فيها النار الدائمة تعظيما للنور.
والقبط تزعم أنه أول من عمل بيتاً لتعظيم النار، وقيل إن حمير الفارسي بنى بيتاً للنار، وهو أول من عمل ذلك للفرس اقتداء بسهلون الملك بمصر.
وكان السبب لعمل سهلون أنه رأى في منامه كأن أباه أتاه، فقال له انطلق إلى جبل كذا من جبال مصر، فان فيه كوة من صفتها كذا فانك واجد على باب الكوة أفعى لها رأسان، فانها إذا رأتك كشرت في وجهك، فليكن معك طائران صغيران ذكر وأنثى، فاذا رأيت الأفعى فاذبح لها الطائرين وألقهما اليها فانها تأخذ برأسيهما، وتنحاش بهما إلى سرب قريب من الكوة فتدخل فإذا غابت عنك فادخل الكوة تنتهي في آخرها امرأة عظيمة من نور حار يابس، فسوف يسطع لك وجهها وتحمى بحرارتها، فلا تدنو إليها فتحرق، وقف حذاءها، وسلم عليها، فانها تخاطبك، واسكن الى خطابها، وانظر ما تقوله لك فاعمل به فانك تتشرف به.
وهي حافظة كنوز جدك مصرام التي رفعها تحت مدائن العجائب المعلقة وهي تدلك عليها، وتنال مع ذلك شرفاً وطاعة من قومك ورعيتك، ثم مضى وتركه.
فانتبه سهلون، وجعل يتفكر فيما رأى وتعجب منه وعزم أن ينفذ ما أمره به، فمشى إلى الجبل وحمل الطائرين معه وامتثل ما أمره به أبوه إلى أن وقف حذاء المرأة فسلم عليها، فقالت له: أتعرفني، قال: لا، لأني ما رأيتك قبل وقتي هذا، قالت له: أنا صورة النار المعبودة في الأمم الخالية، وقد أردت أن تحيي ذكري، وتتخذ لي بيتا وتوقد لي فيه ناراً دائمة، بقدر واحدة، وتتخذ لي عيداً في كل سنة تحضره أنت وقومك، فانك تتخذ بذلك عندي أنلك بها شرفاً الى شرفك، وملكا إلى ملكك، وامنع عنك وعن قومك من يطلبك ويعمل الحيلة عليك، وأدلك على كنوز جدك مصرام. فضمن لها أن يفعل ذلك فدلته على الكنوز التي كنزها جده تحت المدائن المعلقة وكيف يصير اليها؛ وكيف يمتنع من الأرواح الموكلة بها وما ينجيه منها.
فلما فرغ مما أراده من ذلك، قال لها: فكيف لي بأن أراك في الأوقات التي أريد وأحتاج أن أسألك عما يطرأ من الأمور فأسير اليك، قالت له: اما هذا المكان فلا تقربه بعد وقتك هذا ولكن إذا احببت ان تراني فدخن في الوقت الذي علمته لك بكذا وكذا، اشياء ذكرتها له " منها عظام ما يقربه من القرابين والذبائح، وصموغ الأشجار " فاني اتخيل لك واخبرك بكل حق وباطل يكون في بلدك.
فلما سمع ذلك منها سر به سروراً عظيما، وغابت الصور، وظهرت الافعى، وخرج هاربا، فلما نجا جعل على الكوة سداً ولم يؤخر ما فعلته به.
وأخرج كنوز جده وعمل بأمسوس وغيرها من العجائب ما يطول به الذكر، فمنها القبة المركبة على سبعة أركان، في بعض صحف القبط أن هذه القبة يقال لها قبة القضاء.
وكان السبب في بنيانها أن بعض الكهنة جار في قضية قضاها، وذلك أن بعض العامة أتاه يشكو امرأته، ويذكر أنها تأباه وهو يحبها وتبغضه، وسأل أن يقومها له بالاظهار، وكانت المرأة من أهل بيت الكاهن، فأمالها عن زوجها وأمره بتخليتها فلم يفعل، وحبسه وشدد عليه، وكان من اهل الصناعات.
فاجتمع من اهل صناعته من كان قد عرف حاله، وحال المرأة معه، وأنها ظالمة له وهو لها منصف، وعلموا ظلم الكاهن له، فاستعدوا عليه عند خليفة الملك فأحضره وسأله عما ذكروه فذكر أنه لم يحكم إلا بواجب.
فأحضر بعض رؤساء الكهنة، واظهر القوم الذين شهدوا للرجل، فوقف على ظلم الكاهن. فأخرج الرجل من الحبس وحبس الكاهن مكانه، وامر بالمرأة أن تعاقب وترد عليه.
ورفع ذلك إلى الملك فأمر أن يخرج ذلك الكاهن من رسم الكهان، وأن يحبس إلى أن يرى رأيه فيه، واهتم الملك لذلك وخاف ان يجري من غير ذلك الكاهن مثل ما جرى منه، وأن يكون ما قد أبرمه من امر المملكة واهلها لا يتحكم له حسبما أحب، وبات مهموماً مفكراً.
فلما أصبح اصطبح وتطيب وتكلم ودخن بالدخنة التي أمر بها فتجلت له تلك الصورة وخاطبته فسألها أن تعمل له عملاً يقف به على حقيقة الظلم وخفيه، ويعرف المظلوم من الظالم.
فأمرته أن يبني بيتاً مركباً على سبعة أركان، ويجعل له سبعة أبواب، على كل ركن باباً، ويعمل في وسطه قبة من صفر، ويصور في أعلاها صور الكواكب السبعة.
ويعمل على الباب الاول من القبة مثال اسد رابض وحذاءه من الجانب الآخر لبوة رابضة من صفر ويقرب لهما جرو أسد، ويبخرهما بشعره.
وعلى الباب الثاني، تمثال ثور وبقرة، ويذبح لهما عجلا ويبخرهما بشعره،
وعلى الباب الثالث صورة خنزير وأنثاه، ويذبح لهما خنوصاً، ويبخرهما بشعره.
وعلى الباب الرابع صورة جمل وشاة، ويذبح لهما سخلة، ويبخرهما بشعرها.
وعلى الباب الخامس صورة ثعلب وحدأة وانثاه، ويذبح لهما فرخ عقاب، ويبخرهما بريشه، ويلطخ وجوه جميعها بدم القربان، ثم يحرق بقية القرابين ويجعل رمادها تحت عتبة ابواب القبة، ويجعل لها سدنة يوقدون فيها المصابيح ليلا ونهارا سبعة أيام.
فاذا فرغت من ذلك كله، فاجعل لكل مرتبة من تلك المراتب التي قسمتها وجعلتها على سبع طبقات باباُ من تلك الأبواب، وليكن باب الاسد لاهل المملكة وسائر الأبواب لسائر المراتب، فانه إذا تقدم إلى شيء من تلك الصور أهل الخصومات التصق الظالم بها، وشدت الصورة عليه شداً عنيفاً وآذته وآلمته حتى يخرج لخصمه من حقه، الذكر للذكر والأنثى للانثى، فتعرف بذلك الظالم من المظلوم.
ومن كان له قبل أحد حق ودعاه إلى بعض الصور فلم يجيء معه، فأتاها المظلوم فعرفها بذلك أقعد الظالم من رجليه وخرس لسانه، ولم يتحرك من مكانه حتى ينصف صاحبه.
فلم يؤخر الملك عمل القبة على ما أمرت به وشرع فيها من حينه، وأتمها على ما أحسن ما يكون هيئة وصلاحاً، واستراح من الاهتمام بامور الناس، فلم يتظلم بعضهم من بعض. وعلم أنه لا يجوز لبعضهم ظلم بعض، مع تلك الصورة، فلم تزل تلك الصورة باقية إلى أن أزالها الطوفان مع ما أزال من اعمالهم وعجائبهم.
وعملت في وقت سهلون اعمال كثيرة، وكتب سيرته وما ابتدعه من العجائب في صحف، وعمل ادوية وعقاقير كثيرة وتماثيل متحركات. وأمر ان يحمل ذلك كله مع الصحف التي كتب فيها سيرته ومع كنوزه وذخائره إلى ناووسه الذي يجعل فيه إذا مات، وهو قد عمله في الجانب الغربي ووضع فيه غرائب وحكمة، فلما مات عمل فيه ذلك.
مُختصر أخبار الزمان للمسعودي
مجلة نافذة ثقافية . البوابة