بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
الإعجاز البياني للقرآن الكريم
الفصل الأول
في أن نبوة النبي معجزتها القرآن
معظم المعجزات خاصة
الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن، أن نبوة نبينا عليه السلام بنيت على هذه المعجزة، وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة. إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة، وأحوال خاصة، وعلى أشخاص خاصة، ونقل بعضها نقلاً متواتراً يقع به العلم وجوداً. وبعضها مما نقل نقلاً خاصاً، إلا أنه حكي بمشهد من الجمع العظيم أنهم شاهدوه، فلو كان الأمر على خلاف ما حكي لأنكروه، أو لأنكره بعضهم، فحل محل المعنى الأول وإن لم يتواتر أصل النقل فيه. وبعضها مما نقل من جهة الآحاد، وكان وقوعه بين يدي الآحاد.
القرآن معجزة عامة
فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة، عمت الثقلين، وبقيت بقاء العصرين، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الاتيان بمثله وجه دلالته، فيغني ذلك عن نظر مجدد في عجز أول العصر عن مثله، وكذلك قد يغني عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله عن النظر في حال أهل العصر الأول.. وإنما ذكرنا هذا الفصل لما حكي عن بعضهم أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه، ويكفي عجز أهل العصر الأول في الدلالة لأنهم خصوا بالتحدي دون غيرهم، ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن الله تعالى حين ابتعثه جعل معجزته القرآن، وبنى أمر نبوته عليه، سور كثيرة، وآيات نذكر بعضها، وننبه بالمذكور على غيره، فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه.
الدليل على أن القرآن معجزة النبي
فمن ذلك قوله تعالى: (الّر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليكَ، لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظًّلًمَاتِ إِلى النُّورِ، بإِذْنِ رَبِّهمْ، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة.
وقال عز وجل: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ)، فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يوقف أمره على سماعه، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة.
وقال عز وجل: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرًّوحُ الأَمينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ)، وهذا بيّن جداً فيما قلناه من إنه جعله سبباً لكونه منذراً، ثم أوضح ذلك بأن قال: (بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ)، فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة لم يعقب كلامه الأول به، وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه، ونحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده.. وكثير من هذه السور إذا تأملته، فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على وجه معجزته.
أدلة أخرى من سورة غافر
فمن ذلك سورة المؤمن، قوله عز وجل: (حّم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَهِ الْعَزِيزِ الْعَليم) ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ)، إلى أن قال: (مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللّهِ إَلا الَّذينَ كَفَرُوا) فدلّ على أن الجدال في تنزيله كفرٌ وإلحاد. ثم أخبر بما وقع من تكذيب الأمم برسلهم بقوله عز وجل: (كَذْبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بعْدِهم) إلى آخر الآية، فتوعدهم بأنه آخذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الأنبياء، ورد براهينهم، فقال: (فَأَخَذْتُهُم فَكيْفَ كَانَ عِقَابِ) ثم توعدهم بالنار فقال: (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلى الَّذينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ). ثم عظّم شأن المؤمنين بهذه الحجة بما أخبر من استغفار الملائكة لهم، وما وعدهم عليه من المغفرة فقال: (الَّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ، يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذِينَ آمنوُا. رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ للَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبعُوا سَبيلَكَ، وَقِهِمْ عَذَابَ الْجحيمِ).
فلولا أنه برهان قاهر لم يذم الكفار على العدول عنه، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه. ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين، ثم ذكر على وعيد الكافرين، فذكر آيات، ثم قال: (هُوَ الَّذي يُرِيكُمْ آياتِهِ) فأمر بالنظر في آياته وبراهينه، إلى أن قال: (رَفِيعُ الَّدرَجاتِ، ذُو الْعَرْشِ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبادِه، ليُنْذِرَ يَومَ التَّلاقِ).
فجعل القرآن والوحي به كالروح، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد، ولأنه لا فائدة للجسد بدون الروح،جعل هذا الروح سبباً للانذار، وعلماً عليه، وطريقاً إليه، ولولا أن ذلك برهان بنفسه لم يصح أن يقع به الانذار والأخبار عما يقع عند مخالفته. ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردهم دلالته من الوعيد حجة، ولا معلوماً صدقه. فكان لا يلزم قبوله فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول ضرب لهم المثل بمن خالف الآيات، وجحد الدلالات والمعجزات، فقال: (أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبةُ الَّذينَ كَانُواْ مِنْ قَبْلهِم) إلى آخر الآية.
ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السوأى، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، وكانوا لا يقبلونها منهم، فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر قصة موسى ويوسف عليهما السلام، ومجيئهما بالبينات، ومخالفتهم حكمها، إلى أن قال: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْر سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ وَعِندَ الَّذينَ آمنُواْ، كَذَلِكَ يَطْبَعَ اللّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار).
فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة، وإنما يقع عن جهل، وإن الله يطبع على قلوبهم، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان، لجحودهم وعنادهم واستكبارهم. ثم ذكر كثيراَ من الاحتجاج على التوحيد، ثم قال: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذينَ يُجَادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) ثم بين هذه الجملة، وإن من آياته الكتاب، فقال: (الَّذِينَ كَذَّبَوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، إلى أن قال: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأَتِيَ بِآيةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَهِ).
الآيات على ضربين
فدل على أن الآيات على ضربين: أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة في دار التكليف، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر، ويقع عندها العلم الضروري، وإنها إذا جاءت ارتفع التكليف، ووجب الاهلاك، إلى أن قال: (فَلَم يَكُ يَنْفَعُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأسَنَا)، فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات، ولكنه إذا أقامها زال التكليف، وحقت العقوبة على الجاحدين.
أدلة من سورة فصلت
وكذلك ذكر في حم السجدة، على هذا المنهاج الذي شرحنا، فقال عز وجل: (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرحَّمْنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فَصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً).
فلولا أنه جعله برهاناً لم يكن بشيراً ولا نذيراً، ولم يختلف بأن يكون عربياً مفصلاً أو بخلاف ذلك، ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم بقوله تعالى: (فَأعْرَضَ أَكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) ولولا أنه حجة لم يضرهم الإعراض عنه.
وليس لقائل أن يقول: قد يكون حجة ويحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى، كما أن الرسول حجة ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه، وصحة نبوته، وذلك أنه إنما احتج عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره. ويبين ذلك أنه قال: عقيب هذا: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحُى إِلَيَّ)، فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي. ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له، فقال: (إِنَّ الَّذينَ آمنَوُا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونِ)، ومعناه الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل، وعرفوا هذه الحجة، ثم تصرف في هذا الاحتجاج على الوحدانية والقدرة إلى أن قال: (فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عادِ وثَمُودَ)، فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله، من قوم عاد وثمود في الدنيا.
ثم توعدهم بأمر الآخرة فقال: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)، إلى انتهاء ما ذكره فيه.. ثم رجع إلى ذكر القرآن فقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
ثم أثنى بعد ذلك على ما تلقاه بالقبول، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوْا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ الملائِكَةُ ألاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وَأَبشِروا). ثم قال: (وَإمَّا يَنْزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاستعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ)، وهذا ينبه على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف إعجاز القرآن، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال، لأن الضروريات لا يقع فيها نزغ الشيطان، ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه.
ثم قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنَا)، إلى أن قال: (إَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لّمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَّ يَأَتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ).
وهذا وإن كان متأولاً على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين، وأخبار المرسلين، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الأخبار عن العيوب، وعن الحوادث التي أبنّا أنها تقع في الثاني، فلا يخرج عن أن يكون متأولاً على ما يقتضيه نظام الخطاب، من أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته، أو تعارضه في طريقه، وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته، وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه.
ثم قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاه قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَعْجمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ)، فأخبر أنه لو كان أعجمياً لكانوا يحتجون في رده: إما بأن ذلك خارج عن خطابهم، وكانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه، وبأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه، لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم، أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه وجبت الحجة عليهم به، على ما نبنيه في وجه هذا الفصل، إلى أن قال: (قُلْ أَرَأَيْتُم إن كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أضَلُّ مِمَّنْ هُوَ في شِقَاقِ بَعِيدٍ).
ما ورد في سورتي غافر وفصلت
له مثيل في سور أخرى
والذي ذكرنا من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكرهنا سرد القول فيها، فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك.
ثم مما يدل على هذا قوله عز وجل: (وَقَالُواْ لَوْلاّ أُنْزِلَ عَليْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبينٌ، أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلى عَلَيهِم).
فأخبر أن الكتاب آية من آياته، وعلم من أعلامه، وإن ذلك يكفي في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره، وآيات سواء من الأنبياء صلوات الله عليهم، ويدل عليه قوله عز وجل: (تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ على عَبْدِهِ ليكونَ لِلعَالَمينَ نَذيراً) وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ، ويُمحُوْ اللَّهُ الْبَاطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلمَاتِهِ).
فدل على أنه جعل قلبه مستودعاً لوحيه، ومستنزلاً لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره، وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق وإبطال الباطل مع صرفه عنه.. ولذلك أشباه كثيرة، تدل على نحو الدلالة التي وصفناها.
فبان بهذا وبنظائره ما قلناه من أن بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى.
الفرق بين القرآن والكتب المنزلة
وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد، ووصف مضاف إليها، لأن نظمها ليس معجزاً، وإن كان ما يتضمنه من الأخبار عن الغيوب معجزاً.
وليس كذلك القرآن، لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى، لأن موسى عليه السلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.
وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله وإن اختلف الحال في ذلك من بعض الوجوه، لأن موسى عليه السلام سمعه من الله عز وجل، وأسمعه نفسه متكلماً، وليس كذلك الواحد منا، وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل، والذي نرومه الآن ما بينا من اتفاقهما في المعنى الذي وصفنا، وهو أنه عليه السلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال، وكذلك نحن نعلم ما نقرأه من هذا على جهة الاستدلال.
الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن، أن نبوة نبينا عليه السلام بنيت على هذه المعجزة، وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة. إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة، وأحوال خاصة، وعلى أشخاص خاصة، ونقل بعضها نقلاً متواتراً يقع به العلم وجوداً. وبعضها مما نقل نقلاً خاصاً، إلا أنه حكي بمشهد من الجمع العظيم أنهم شاهدوه، فلو كان الأمر على خلاف ما حكي لأنكروه، أو لأنكره بعضهم، فحل محل المعنى الأول وإن لم يتواتر أصل النقل فيه. وبعضها مما نقل من جهة الآحاد، وكان وقوعه بين يدي الآحاد.
القرآن معجزة عامة
فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة، عمت الثقلين، وبقيت بقاء العصرين، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الاتيان بمثله وجه دلالته، فيغني ذلك عن نظر مجدد في عجز أول العصر عن مثله، وكذلك قد يغني عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله عن النظر في حال أهل العصر الأول.. وإنما ذكرنا هذا الفصل لما حكي عن بعضهم أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه، ويكفي عجز أهل العصر الأول في الدلالة لأنهم خصوا بالتحدي دون غيرهم، ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن الله تعالى حين ابتعثه جعل معجزته القرآن، وبنى أمر نبوته عليه، سور كثيرة، وآيات نذكر بعضها، وننبه بالمذكور على غيره، فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه.
الدليل على أن القرآن معجزة النبي
فمن ذلك قوله تعالى: (الّر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليكَ، لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظًّلًمَاتِ إِلى النُّورِ، بإِذْنِ رَبِّهمْ، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة.
وقال عز وجل: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ)، فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يوقف أمره على سماعه، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة.
وقال عز وجل: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرًّوحُ الأَمينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ)، وهذا بيّن جداً فيما قلناه من إنه جعله سبباً لكونه منذراً، ثم أوضح ذلك بأن قال: (بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ)، فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة لم يعقب كلامه الأول به، وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه، ونحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده.. وكثير من هذه السور إذا تأملته، فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على وجه معجزته.
أدلة أخرى من سورة غافر
فمن ذلك سورة المؤمن، قوله عز وجل: (حّم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَهِ الْعَزِيزِ الْعَليم) ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ)، إلى أن قال: (مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللّهِ إَلا الَّذينَ كَفَرُوا) فدلّ على أن الجدال في تنزيله كفرٌ وإلحاد. ثم أخبر بما وقع من تكذيب الأمم برسلهم بقوله عز وجل: (كَذْبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بعْدِهم) إلى آخر الآية، فتوعدهم بأنه آخذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الأنبياء، ورد براهينهم، فقال: (فَأَخَذْتُهُم فَكيْفَ كَانَ عِقَابِ) ثم توعدهم بالنار فقال: (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلى الَّذينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ). ثم عظّم شأن المؤمنين بهذه الحجة بما أخبر من استغفار الملائكة لهم، وما وعدهم عليه من المغفرة فقال: (الَّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ، يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذِينَ آمنوُا. رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ للَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبعُوا سَبيلَكَ، وَقِهِمْ عَذَابَ الْجحيمِ).
فلولا أنه برهان قاهر لم يذم الكفار على العدول عنه، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه. ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين، ثم ذكر على وعيد الكافرين، فذكر آيات، ثم قال: (هُوَ الَّذي يُرِيكُمْ آياتِهِ) فأمر بالنظر في آياته وبراهينه، إلى أن قال: (رَفِيعُ الَّدرَجاتِ، ذُو الْعَرْشِ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبادِه، ليُنْذِرَ يَومَ التَّلاقِ).
فجعل القرآن والوحي به كالروح، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد، ولأنه لا فائدة للجسد بدون الروح،جعل هذا الروح سبباً للانذار، وعلماً عليه، وطريقاً إليه، ولولا أن ذلك برهان بنفسه لم يصح أن يقع به الانذار والأخبار عما يقع عند مخالفته. ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردهم دلالته من الوعيد حجة، ولا معلوماً صدقه. فكان لا يلزم قبوله فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول ضرب لهم المثل بمن خالف الآيات، وجحد الدلالات والمعجزات، فقال: (أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبةُ الَّذينَ كَانُواْ مِنْ قَبْلهِم) إلى آخر الآية.
ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السوأى، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، وكانوا لا يقبلونها منهم، فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر قصة موسى ويوسف عليهما السلام، ومجيئهما بالبينات، ومخالفتهم حكمها، إلى أن قال: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْر سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ وَعِندَ الَّذينَ آمنُواْ، كَذَلِكَ يَطْبَعَ اللّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار).
فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة، وإنما يقع عن جهل، وإن الله يطبع على قلوبهم، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان، لجحودهم وعنادهم واستكبارهم. ثم ذكر كثيراَ من الاحتجاج على التوحيد، ثم قال: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذينَ يُجَادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) ثم بين هذه الجملة، وإن من آياته الكتاب، فقال: (الَّذِينَ كَذَّبَوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، إلى أن قال: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأَتِيَ بِآيةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَهِ).
الآيات على ضربين
فدل على أن الآيات على ضربين: أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة في دار التكليف، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر، ويقع عندها العلم الضروري، وإنها إذا جاءت ارتفع التكليف، ووجب الاهلاك، إلى أن قال: (فَلَم يَكُ يَنْفَعُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأسَنَا)، فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات، ولكنه إذا أقامها زال التكليف، وحقت العقوبة على الجاحدين.
أدلة من سورة فصلت
وكذلك ذكر في حم السجدة، على هذا المنهاج الذي شرحنا، فقال عز وجل: (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرحَّمْنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فَصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً).
فلولا أنه جعله برهاناً لم يكن بشيراً ولا نذيراً، ولم يختلف بأن يكون عربياً مفصلاً أو بخلاف ذلك، ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم بقوله تعالى: (فَأعْرَضَ أَكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) ولولا أنه حجة لم يضرهم الإعراض عنه.
وليس لقائل أن يقول: قد يكون حجة ويحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى، كما أن الرسول حجة ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه، وصحة نبوته، وذلك أنه إنما احتج عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره. ويبين ذلك أنه قال: عقيب هذا: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحُى إِلَيَّ)، فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي. ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له، فقال: (إِنَّ الَّذينَ آمنَوُا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونِ)، ومعناه الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل، وعرفوا هذه الحجة، ثم تصرف في هذا الاحتجاج على الوحدانية والقدرة إلى أن قال: (فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عادِ وثَمُودَ)، فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله، من قوم عاد وثمود في الدنيا.
ثم توعدهم بأمر الآخرة فقال: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)، إلى انتهاء ما ذكره فيه.. ثم رجع إلى ذكر القرآن فقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
ثم أثنى بعد ذلك على ما تلقاه بالقبول، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوْا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ الملائِكَةُ ألاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وَأَبشِروا). ثم قال: (وَإمَّا يَنْزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاستعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ)، وهذا ينبه على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف إعجاز القرآن، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال، لأن الضروريات لا يقع فيها نزغ الشيطان، ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه.
ثم قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنَا)، إلى أن قال: (إَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لّمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَّ يَأَتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ).
وهذا وإن كان متأولاً على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين، وأخبار المرسلين، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الأخبار عن العيوب، وعن الحوادث التي أبنّا أنها تقع في الثاني، فلا يخرج عن أن يكون متأولاً على ما يقتضيه نظام الخطاب، من أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته، أو تعارضه في طريقه، وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته، وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه.
ثم قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاه قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَعْجمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ)، فأخبر أنه لو كان أعجمياً لكانوا يحتجون في رده: إما بأن ذلك خارج عن خطابهم، وكانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه، وبأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه، لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم، أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه وجبت الحجة عليهم به، على ما نبنيه في وجه هذا الفصل، إلى أن قال: (قُلْ أَرَأَيْتُم إن كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أضَلُّ مِمَّنْ هُوَ في شِقَاقِ بَعِيدٍ).
ما ورد في سورتي غافر وفصلت
له مثيل في سور أخرى
والذي ذكرنا من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكرهنا سرد القول فيها، فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك.
ثم مما يدل على هذا قوله عز وجل: (وَقَالُواْ لَوْلاّ أُنْزِلَ عَليْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبينٌ، أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلى عَلَيهِم).
فأخبر أن الكتاب آية من آياته، وعلم من أعلامه، وإن ذلك يكفي في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره، وآيات سواء من الأنبياء صلوات الله عليهم، ويدل عليه قوله عز وجل: (تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ على عَبْدِهِ ليكونَ لِلعَالَمينَ نَذيراً) وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ، ويُمحُوْ اللَّهُ الْبَاطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلمَاتِهِ).
فدل على أنه جعل قلبه مستودعاً لوحيه، ومستنزلاً لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره، وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق وإبطال الباطل مع صرفه عنه.. ولذلك أشباه كثيرة، تدل على نحو الدلالة التي وصفناها.
فبان بهذا وبنظائره ما قلناه من أن بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى.
الفرق بين القرآن والكتب المنزلة
وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد، ووصف مضاف إليها، لأن نظمها ليس معجزاً، وإن كان ما يتضمنه من الأخبار عن الغيوب معجزاً.
وليس كذلك القرآن، لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى، لأن موسى عليه السلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.
وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله وإن اختلف الحال في ذلك من بعض الوجوه، لأن موسى عليه السلام سمعه من الله عز وجل، وأسمعه نفسه متكلماً، وليس كذلك الواحد منا، وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل، والذي نرومه الآن ما بينا من اتفاقهما في المعنى الذي وصفنا، وهو أنه عليه السلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال، وكذلك نحن نعلم ما نقرأه من هذا على جهة الاستدلال.