بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
الإعجاز البياني للقرآن الكريم
الفصل الثالث
في جملة وجوه إعجاز القرآن
ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز:
الإخبار عن الغيوب
أحدهما يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل إليه.
● فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ففعل ذلك.
فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه. ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه. فكان سعد بن أبي وقاص رحمه الله وغيره من أمراء الجيوش من جهته يذكر لأصحابه، ويحرضهم به ويوثق لهم، وكانوا يلقون الظفر في موجهاتهم، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي الله عنه إلى بلخ وبلاد الهند، وفتح في أيامه مرو والشاهجان، ومرو الروذ، ومنعهم من العبور بجيحون.
● حقّق الله الوعد وفُتحت البلدان
وكذلك فتح في أيامه فارس إلى اصطخر وكران ومكران وسجستان، وجميع ما كان من مملكة كسرى، وكل ما كان بملكه ملوك الفرس بين البحرين، من الفرات إلى جيحون: وأزال ملك ملوك الفرس، فلم يعد إلى اليوم، ولا يعود أبداً إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود أرمينية وإلى باب الأبواب.
وفتح ناحية الشام والأردن وفلسطين وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر.
وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق دونها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة.
● وعد الله المؤمنين بالغلبة والكفار بالنار
وقال الله عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُون وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ. وَبِئْسَ الْمِهَادُ). فصدق فيه، وقال في أهل بدر: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّها لَكُم)، ووفى لهم بما وعد.
وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن من الأخبار عن الغيوب يكثر جداً، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.
والوجه الثاني النبي الأمي أتى بأمور لا يمكن أن يعرفها لوحده
فإنه كان معلوماً من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أمياً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ. وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعثه.
● ذكر النبي الأمي أموراً تاريخية
فذكر في الكتاب الذي جاء به معجزة له قصة آدم عليه السلام وابتداء خلقه وما صار إليه أمره من الخروج من الجنة. ثم جملاً من أمر ولده وأحواله وتوبته.
ثم ذكر قصة نوح عليه السلام وما كان بينه وبين قومه وما انتهى إليه أمره، وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن. والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء صلوات الله عليهم.
● لا سبيل إلى معرفة ما ذكره إلا بالعلم والنبوة
ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفاً أنه لم يكن ملابساً لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا متردداً إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي، ولذلك قال عز وجل: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ، وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطلونَ). وقال (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ).
● من تعلم لم يخف على الناس فعله
وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يختلف عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم وإن كان نادراً، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعليم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره.
والوجه الثالث أن القرآن بديع النظم عجيب التأليف
فالقرآن بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة.
ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها. فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه:
● نظم القرآن خارج عن نظام كلام العرب
منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم. وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد.
وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالاً فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة، على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه. وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له.
● القرآن ليس شعراً ولا سجعاً
وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ومنهم من يدعي أن فيه شعراً كثيراً، والكلام عليهما يذكر بعد هذا الموضع.
فهذا إذا تأمله المتأمل، تبين بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة، وأنه معجز، وهذا خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جميعه.
● ليس في كلام العرب مثيل لما في القرآن
ومنها: أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدود، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف.
● القرآن على طوله متناسباً في الفصاحة
وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسباً في الفصاحة، على ما وصفه الله تعالى به، فقال عز وجل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابَاً مُتَشَابِهاً، مَّثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ قُلُوبُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُم، ثُمَّ تَلِينُ، جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِْكْرِ اللّهِ)، (وَلَوْ كَانَ مَنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً).
فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلال، وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره فتأمله تعرف الفضل.
● نظم القرآن لا يتفاوت ولا يتباين
وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام وإعذار وإنذار ووعد ووعيد وتبشير وتخويف وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها.
● كلام البلغاء يتفاوت
ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.
فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين، ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ، ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل أو سير الليل أو وصف الحرب أو وصف الروض أو وصف الخمر أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر، ويتداوله الكلام.
ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وبزهير إذا رغب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.
● الشاعر البليغ يتفاوت في شعره
ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم.
فإذا كان الاختلال بيناً في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، استغنينا عن ذكر من هو دونهم، وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها.
● الشعراء يتفاوتون في نظمهم
ثم نجد في الشعراء من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً، ومنهم من ينظم القصيد ولكن يقصر فيه مهما تكلفه أو عمله.
ومن الناس من يجود في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصاناً عجيباً، ومنهم من يوجد بضد ذلك.
● نظم القرآن يتساوى بلاغة
وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد، في حس النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه. ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفال، إلى الرتبة الدنيا.
وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.
وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه بشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار، وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب.
● كلام الفصحاء يتفاوت
ومعنى رابع: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.
ألا ترى أن كثيراً من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه، حتى أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح، وأطبقوا على أنه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى، وتنقل يستحسن.
وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء، والتحول من باب إلى باب.
● القرآن على اختلاف ما يتصرف فيه فهو يبلغ الغاية
ونحن نفصل بعد هذا ونفسر هذه الجملة، ونبين على أن القرآ ن على اختلاف ما يتصرف فيه من الوجوه الكثير، والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب تتبين به الفصاحة، وتطهر به البلاغة، ويخرج به الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف.
● نظم القرآن يخرج عن كلام الإنس والجن
ومعنى خامس: وهو أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام الإنس والجن، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عز وجل: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
● اعتراض على ما قيل من عجز الجن
فإن قيل: هذه دعوى منكم، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن مثله، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله، وإن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة، وأسباب غامضة دقيقة، لا نقدر نحن عليها، ولا سبيل لنا للطفها إليها. وإذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.
● جواب على الاعتراض
قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عز وجل.
وقد يمكن أن يقال: إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن، وما يروون لهم من الشعر، ويحكون عنهم من الكلام.
● فصاحة الجن لا تتعدى فصاحة الإنس
وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم عنهم، والقدر الذي نقلوه قد تأملناه، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها. ولا يمتنع أن يسمع الناس كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات، على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة، مروية في دواوينهم.
● تأبط شراً يصف اجتماعه بالغول
قال تأبط شراًّ:
وأدهـــم قـــد جُـــبْــت جِـلبابـه ● كما اجتابت الكاعُب الخيعلا
إلـى أن حـدا الـصـبــحُ أثـناءَه ● ومـــزَّق جِـــلبـابـه الألـيلا
علـــى شَـــيْم نـــار تَــنَوَّرَتُـهـا ● فبـتُّ لهــا مُـدبِــراً مُـقـبِـلا
فأصـبـحـت والـغـولُ لي جـارةٌ ● فيا جـــارتــا أنتِ ما أهولا
وطـالـبـتهـا بُـضعَهـا فـالـتـوت ● بوجـــه تــهـوّلَ واستغـولا
فمـن سـال أين ثــوت جـارتي ● فإن لـــهـــا بـاللـوى منزِلا
وكنتُ إذا ما هممتُ اعتزمـتُ ● وأحْــرِ إذا قـلـت أن أفـعلا
وقال آخر:
عَشَوْا ناري فقلتَ منُون أنتم ● فقالوا الجنُّ قلت عِمُوا ظلاما
فقمتُ إلى الطـعامِ فقال منهم ● زعيم يحسـدُ الإنـسَ الـطعاما
ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمرو الجني، وأشعاراً لهما كرهنا ذكرها لطولها.
● الغول في الأرض القفر
وقال عبيد بن أيوب:
فلـلــه درُّ الـــغـولِ أي رفـيقةٍ ● لصاحب قفرٍ خائف يتـقـفّـرُ
أرنَّت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت ● حواليَّ نيرانـاً تبوخُ وتزهر
وقال ذو الرمة بعد قوله:
قد أعسِفُ النازحَ المجهولَ معْسِفُه ● في ظل أخضرَ يدعو هامَهُ البُومُ
للـجـن بـالـلـيلِ فـي حـافـاتـها زَجَلٌ ● كمـا تَـنَـاوحُ يومَ الريح عَـيشُـوم
دوّية ودُجـــى لـــيلٍ كـــــــأنــهـمـا ● يَمٌ تـــراطـــنُ فـي حـافـاته الرُّوم
وقال أيضاً:
وكم عرَّست بعد النوى من معرَّس ● لها من كلام الجن أصواتُ سامِرِ
وقال:
ورملٍ عزيفُ الجـن فـي عَـقَـبـاتِـهِ ● هزيزٌ كَتَضراب المغنِّينَ بالطبلِ
● كلام الجن ومخاطباتهم في مستوى فصاحة العرب
وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم، ويحكون عنهم، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب، صح ما وصف عندهم عنه، كعجز الإنس.
ويبين ذلك من القرآن أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن، فقال: (وإِذْ صَرَفْنَا إلَيُكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ ٌقَالُواْ أَنْصِتُواْ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّواْ إِلَى قَوْمِهِمِ مُنْذِرِينَ). إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه، فإذا ثبت أنه وصف كلامهم، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة.
● قيل عجز الإنس عن القرآن يثبت عجز غيرهم
وهذان الجوابان أسدُّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه: بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره، ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه.
فقال لنا قائل: فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها.
وإنما ضعفنا هذا الجواب لأن الذي حكى وذكر، عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه، كما علمنا عجز الإنس عنه، ولو كان وصف عجز الملائكة عنه، لوجب أن نعرف ذلك أيضاً بطريقه.
● ما دل على إعجاز الجملة على إعجاز التفاصيل
فإن قيل: أنتم قد انتهيتم إلى الإعجاز في التفاصيل، وهذا الفص إنما يدل على الإعجاز في الجملة.
قيل: هذا كما أنه يدل على الجملة فإنه يدل على التفاصيل أيضاً، فصح أن يلحق هذا القبيل، كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل.
● ما في كلام العرب من فنون الخطاب موجود في القرآن
ومعنى سادس وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب: من البسط والاقتصار والجمع والتفريق والاستعارة والتصريح والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم، موجود في القرآن، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع والبلاغة.. وقد ضمنا بيان ذلك بعد، لأن الوجه ههنا ذكر المقدمات دون البسط والتفصيل.
● ما في القرآن من الشريعة والأحكام يتعذر مثله على البشر
ومعنى سابع وهو أن ورود تلك المعاني التي يتضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر.
● تخير الألفاظ للمعاني المبتكرة أصعب
ويمنع ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب، من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مستحدثة. فلو برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر والأمر المتقرر المتصور.
ثم إن انضاف إلى ذلك التصرف البديع، في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بأن التفاضل في البراعة والفصاحة ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدها على الآخر، فالبراعة أظهر، والفصاحة أتم.
● متى يبين فضل الكلام
ومعنى ثامن: وهو أن الكلام يبين فضله، ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذه الأسماع، وتتشوف إليه النفوس، ويرى وجه رونقه بادياً غامراً سائر ما يقرن به، كالدرة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد.
وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غرة جميعه، وواسطة عده، والمنادى على نفسه بتميزه، وتخصصه برونقه وجماله، واعتراضه في جنسه ومائه.
● تحير أهل الفصاحة
وهذا الفصل أيضاً مما يحتاج إلى تفصيل وشرح ونص، ليتحقق ما ادعيناه منه، ولولا هذه الوجوه التي بيناها لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضاً في معارضته، ويتوقفون لها.
● عدل أهل الصنعة لما عرفوا عجزهم
فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه. وقصور فصاحتهم دونه.
ولا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعاً فيهم ولا متقدماً في الفصاحة منهم هذه الحال، حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره.. إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا، ولم يشتغلوا بذلك، تحققاً بظهور العجز، وتبيناً له.
● كذبوا حين قالوا لو نشاء لقلنا مثله
وأما قوله تعالى حكاية عنهم: (قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لو نشاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم وهو يدل على عجزهم، ولذلك أورده الله مورد تقريعهم، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أ نفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز، والضمان إلى الوفاء.
● لم يستعملوا التحدي لعجزهم
فلما لم يستعملوا ذلك مع استمرار التحدي، وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه، علم عجزهم، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط، ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيات، وفي وصف الأزمة والأنساع والأمور التي لا يؤبه لها ولا يحتاج إليها، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس، ويتبجحون به أشد التبجح.
فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة والعبارات الفصيحة، مع تضمن المعارضة تكذيبه والذبّ عن أديانهم القديمة، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم وتضليله إياهم، والتخلص من منازعته، ثم من محاربته ومقارعته، ثم لا يفعلون شيئاً من ذلك وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل، ويعللونها بالأباطيل،
● حروف كلام العرب
ومعنى تاسع: وهو أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة.
وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.
● أقسام الحروف
والذي ينقسم إليه هذه الحروف: على ما قسمه أهل العربية، وبنوا عليها وجوهها: أقسام نحن ذاكروها: فمن ذلك أنهم قسموها إلى: حروف مهموسة، وأخرى مجهورة.
● الحروف المهموسة
فالممهموسة منها عشرة، وهي: الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والتاء، والضاد، والسين: وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة.
وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان.
● الحروف المجهورة
والمجهور معناه أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد، ويجري الصوت.. والمهموس كل حرف ضعف الاعتماد في موضعه، حتى جرى معه النفس، وذلك مما يحتاج إلى معرفته، لتبتني عليه أصول العربية.
● حروف الحلق
وكذلك مما يقسمون إليه الحروف: يقولون أنها على ضربين: أحدهما: حروف الحلق، وهي ستة أحرف: العين والحاء والهمزة والهاء والخاء والغين.. والنصف من هذه الحروف مذكور في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المبينة في أوائل السور، وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.
● الحروف شديدة وغيرشديدة
وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه وهي: الهمزة والقاف والكاف والجيم والظاء والذال والطاء والباء.
وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضاً هي مذكورة في جملة تلك الحروف التي بني عليها تلك السور.
● الحروف مطبقة ومنفتحة
ومن ذلك: الحروف المطبقة، وهي أربعة أحرف. وما سواها منفتحة. فالمطبقة: الطاء والظاء والضاد والصاد.
وقد علمنا أن نصف هذه في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.
● تقسيم الحروف جاء متأخراً لكن بإلهام من الله
وإذا كان القوم الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام، لأغراض لهم في ترتيب العربية، وتنزيلها، بعد الزمان الطويل، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر، على حد التنصيف الذي وصفنا. دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه، بعد العهد الطويل، لا يجوز أن يقع إلا من الله عز وجل، لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب، وإن كان إنما نبهوا على ما بني عليه اللسان في أصله، ولم يكن لهم في التقسيم شيء، وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان: فذلك أيضاً من البديع، الذي يدل على أن أصل وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان.
● أصل اللغة توقيفي واجتماع همم العلماء بأمر من الله
فإن كان أصل اللغة توقيفاً فالأمر في ذلك أبين، وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضاً، لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى، وكل ذلك يوجب اثبات الحكمة في ذاكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه.
● تعاد فاتحة كل سورة لفائدة
وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم إذا كانت حروفاً، كنحو ألم، الآن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعاً، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة.
فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم، بما يتعارفون من الحروف، التي تتردد بين هذين الطرفين؛ ويشبه أن يكون التنصيف وقع في هذه الحروف دون الألف، لأن الألف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعاً واحداً.
● كلام القرآن سهل لكنه عسير المتناول
ومعنى عاشر: وهو أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر وعن الصنعة المتكلفة، وجعله قريباً إلى الإفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس.
وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به.
فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة فيطلب فيه التمنع، أو يوضع فيه الإعجاز، ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة وأطبق بأبواب التعسف والتكلف، لكان القائل أن يقول فيه ويعتذر ويعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابهاً متماثلاً، وبين مع ذلك اعجازهم فيه.
● كلام فصحاء العرب لا يخلو من هنات
وقد علمت أن كلام فصحائهم، وشعر بلغائهم، لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر أو وحشي مستكره، ومعان مستبعدة، ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين.
● كبير شعراء الجاهلية في شعره مأخذ
فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة، ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويتناول من كثب، ويتصور في النفس كتصور الأشكال، ليبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.
● الأحكام معللة بعلل توافق مقتضى العقل
واعلم أن من قال من أصحابنا: إن الأحكام معللة بعلل موافقة مقتضى العقل جعل هذا وجهاً من وجوه الإعجاز، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه كنحو ما يعللون به الصلاة ومعظم الفروض وأصولها، ولهم في كثير من تلك العلل طريق قريبة، ووجوه تستحسن. وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك، ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم، وفي ذلك كلام يأتي في كتابنا في " الأصول ".
وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد، فإنا جمعنا بين أمور، وذكر المزية المتعلقة بها، وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الإعجاز فيه.
● هل القرآن معجز لأنه حكاية لكلام الله القديم
فإن قيل: فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية الكلام القديم سبحانه، أو لأنه عبارة عنه، أو لأنه قديم في نفسه، قيل: لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فيكف يصح التركيب على الفاسد، ولا نقول أيضاً إن وجه الإعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن الكلام القديم، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل معجزات في النظم والتأليف، وقد بينا أن إازه في غير ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها، وقد ثبت خلاف ذلك.
الإخبار عن الغيوب
أحدهما يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل إليه.
● فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ففعل ذلك.
فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه. ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه. فكان سعد بن أبي وقاص رحمه الله وغيره من أمراء الجيوش من جهته يذكر لأصحابه، ويحرضهم به ويوثق لهم، وكانوا يلقون الظفر في موجهاتهم، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي الله عنه إلى بلخ وبلاد الهند، وفتح في أيامه مرو والشاهجان، ومرو الروذ، ومنعهم من العبور بجيحون.
● حقّق الله الوعد وفُتحت البلدان
وكذلك فتح في أيامه فارس إلى اصطخر وكران ومكران وسجستان، وجميع ما كان من مملكة كسرى، وكل ما كان بملكه ملوك الفرس بين البحرين، من الفرات إلى جيحون: وأزال ملك ملوك الفرس، فلم يعد إلى اليوم، ولا يعود أبداً إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود أرمينية وإلى باب الأبواب.
وفتح ناحية الشام والأردن وفلسطين وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر.
وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق دونها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة.
● وعد الله المؤمنين بالغلبة والكفار بالنار
وقال الله عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُون وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ. وَبِئْسَ الْمِهَادُ). فصدق فيه، وقال في أهل بدر: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّها لَكُم)، ووفى لهم بما وعد.
وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن من الأخبار عن الغيوب يكثر جداً، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.
والوجه الثاني النبي الأمي أتى بأمور لا يمكن أن يعرفها لوحده
فإنه كان معلوماً من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أمياً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ. وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعثه.
● ذكر النبي الأمي أموراً تاريخية
فذكر في الكتاب الذي جاء به معجزة له قصة آدم عليه السلام وابتداء خلقه وما صار إليه أمره من الخروج من الجنة. ثم جملاً من أمر ولده وأحواله وتوبته.
ثم ذكر قصة نوح عليه السلام وما كان بينه وبين قومه وما انتهى إليه أمره، وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن. والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء صلوات الله عليهم.
● لا سبيل إلى معرفة ما ذكره إلا بالعلم والنبوة
ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفاً أنه لم يكن ملابساً لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا متردداً إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي، ولذلك قال عز وجل: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ، وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطلونَ). وقال (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ).
● من تعلم لم يخف على الناس فعله
وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يختلف عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم وإن كان نادراً، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعليم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره.
والوجه الثالث أن القرآن بديع النظم عجيب التأليف
فالقرآن بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة.
ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها. فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه:
● نظم القرآن خارج عن نظام كلام العرب
منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم. وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد.
وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالاً فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة، على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه. وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له.
● القرآن ليس شعراً ولا سجعاً
وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ومنهم من يدعي أن فيه شعراً كثيراً، والكلام عليهما يذكر بعد هذا الموضع.
فهذا إذا تأمله المتأمل، تبين بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة، وأنه معجز، وهذا خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جميعه.
● ليس في كلام العرب مثيل لما في القرآن
ومنها: أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدود، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف.
● القرآن على طوله متناسباً في الفصاحة
وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسباً في الفصاحة، على ما وصفه الله تعالى به، فقال عز وجل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابَاً مُتَشَابِهاً، مَّثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ قُلُوبُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُم، ثُمَّ تَلِينُ، جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِْكْرِ اللّهِ)، (وَلَوْ كَانَ مَنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً).
فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلال، وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره فتأمله تعرف الفضل.
● نظم القرآن لا يتفاوت ولا يتباين
وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام وإعذار وإنذار ووعد ووعيد وتبشير وتخويف وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها.
● كلام البلغاء يتفاوت
ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.
فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين، ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ، ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل أو سير الليل أو وصف الحرب أو وصف الروض أو وصف الخمر أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر، ويتداوله الكلام.
ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وبزهير إذا رغب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.
● الشاعر البليغ يتفاوت في شعره
ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم.
فإذا كان الاختلال بيناً في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، استغنينا عن ذكر من هو دونهم، وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها.
● الشعراء يتفاوتون في نظمهم
ثم نجد في الشعراء من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً، ومنهم من ينظم القصيد ولكن يقصر فيه مهما تكلفه أو عمله.
ومن الناس من يجود في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصاناً عجيباً، ومنهم من يوجد بضد ذلك.
● نظم القرآن يتساوى بلاغة
وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد، في حس النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه. ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفال، إلى الرتبة الدنيا.
وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.
وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه بشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار، وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب.
● كلام الفصحاء يتفاوت
ومعنى رابع: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.
ألا ترى أن كثيراً من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه، حتى أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح، وأطبقوا على أنه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى، وتنقل يستحسن.
وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء، والتحول من باب إلى باب.
● القرآن على اختلاف ما يتصرف فيه فهو يبلغ الغاية
ونحن نفصل بعد هذا ونفسر هذه الجملة، ونبين على أن القرآ ن على اختلاف ما يتصرف فيه من الوجوه الكثير، والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب تتبين به الفصاحة، وتطهر به البلاغة، ويخرج به الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف.
● نظم القرآن يخرج عن كلام الإنس والجن
ومعنى خامس: وهو أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام الإنس والجن، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عز وجل: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
● اعتراض على ما قيل من عجز الجن
فإن قيل: هذه دعوى منكم، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن مثله، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله، وإن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة، وأسباب غامضة دقيقة، لا نقدر نحن عليها، ولا سبيل لنا للطفها إليها. وإذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.
● جواب على الاعتراض
قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عز وجل.
وقد يمكن أن يقال: إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن، وما يروون لهم من الشعر، ويحكون عنهم من الكلام.
● فصاحة الجن لا تتعدى فصاحة الإنس
وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم عنهم، والقدر الذي نقلوه قد تأملناه، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها. ولا يمتنع أن يسمع الناس كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات، على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة، مروية في دواوينهم.
● تأبط شراً يصف اجتماعه بالغول
قال تأبط شراًّ:
وأدهـــم قـــد جُـــبْــت جِـلبابـه ● كما اجتابت الكاعُب الخيعلا
إلـى أن حـدا الـصـبــحُ أثـناءَه ● ومـــزَّق جِـــلبـابـه الألـيلا
علـــى شَـــيْم نـــار تَــنَوَّرَتُـهـا ● فبـتُّ لهــا مُـدبِــراً مُـقـبِـلا
فأصـبـحـت والـغـولُ لي جـارةٌ ● فيا جـــارتــا أنتِ ما أهولا
وطـالـبـتهـا بُـضعَهـا فـالـتـوت ● بوجـــه تــهـوّلَ واستغـولا
فمـن سـال أين ثــوت جـارتي ● فإن لـــهـــا بـاللـوى منزِلا
وكنتُ إذا ما هممتُ اعتزمـتُ ● وأحْــرِ إذا قـلـت أن أفـعلا
وقال آخر:
عَشَوْا ناري فقلتَ منُون أنتم ● فقالوا الجنُّ قلت عِمُوا ظلاما
فقمتُ إلى الطـعامِ فقال منهم ● زعيم يحسـدُ الإنـسَ الـطعاما
ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمرو الجني، وأشعاراً لهما كرهنا ذكرها لطولها.
● الغول في الأرض القفر
وقال عبيد بن أيوب:
فلـلــه درُّ الـــغـولِ أي رفـيقةٍ ● لصاحب قفرٍ خائف يتـقـفّـرُ
أرنَّت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت ● حواليَّ نيرانـاً تبوخُ وتزهر
وقال ذو الرمة بعد قوله:
قد أعسِفُ النازحَ المجهولَ معْسِفُه ● في ظل أخضرَ يدعو هامَهُ البُومُ
للـجـن بـالـلـيلِ فـي حـافـاتـها زَجَلٌ ● كمـا تَـنَـاوحُ يومَ الريح عَـيشُـوم
دوّية ودُجـــى لـــيلٍ كـــــــأنــهـمـا ● يَمٌ تـــراطـــنُ فـي حـافـاته الرُّوم
وقال أيضاً:
وكم عرَّست بعد النوى من معرَّس ● لها من كلام الجن أصواتُ سامِرِ
وقال:
ورملٍ عزيفُ الجـن فـي عَـقَـبـاتِـهِ ● هزيزٌ كَتَضراب المغنِّينَ بالطبلِ
● كلام الجن ومخاطباتهم في مستوى فصاحة العرب
وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم، ويحكون عنهم، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب، صح ما وصف عندهم عنه، كعجز الإنس.
ويبين ذلك من القرآن أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن، فقال: (وإِذْ صَرَفْنَا إلَيُكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ ٌقَالُواْ أَنْصِتُواْ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّواْ إِلَى قَوْمِهِمِ مُنْذِرِينَ). إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه، فإذا ثبت أنه وصف كلامهم، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة.
● قيل عجز الإنس عن القرآن يثبت عجز غيرهم
وهذان الجوابان أسدُّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه: بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره، ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه.
فقال لنا قائل: فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها.
وإنما ضعفنا هذا الجواب لأن الذي حكى وذكر، عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه، كما علمنا عجز الإنس عنه، ولو كان وصف عجز الملائكة عنه، لوجب أن نعرف ذلك أيضاً بطريقه.
● ما دل على إعجاز الجملة على إعجاز التفاصيل
فإن قيل: أنتم قد انتهيتم إلى الإعجاز في التفاصيل، وهذا الفص إنما يدل على الإعجاز في الجملة.
قيل: هذا كما أنه يدل على الجملة فإنه يدل على التفاصيل أيضاً، فصح أن يلحق هذا القبيل، كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل.
● ما في كلام العرب من فنون الخطاب موجود في القرآن
ومعنى سادس وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب: من البسط والاقتصار والجمع والتفريق والاستعارة والتصريح والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم، موجود في القرآن، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع والبلاغة.. وقد ضمنا بيان ذلك بعد، لأن الوجه ههنا ذكر المقدمات دون البسط والتفصيل.
● ما في القرآن من الشريعة والأحكام يتعذر مثله على البشر
ومعنى سابع وهو أن ورود تلك المعاني التي يتضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر.
● تخير الألفاظ للمعاني المبتكرة أصعب
ويمنع ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب، من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مستحدثة. فلو برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر والأمر المتقرر المتصور.
ثم إن انضاف إلى ذلك التصرف البديع، في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بأن التفاضل في البراعة والفصاحة ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدها على الآخر، فالبراعة أظهر، والفصاحة أتم.
● متى يبين فضل الكلام
ومعنى ثامن: وهو أن الكلام يبين فضله، ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذه الأسماع، وتتشوف إليه النفوس، ويرى وجه رونقه بادياً غامراً سائر ما يقرن به، كالدرة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد.
وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غرة جميعه، وواسطة عده، والمنادى على نفسه بتميزه، وتخصصه برونقه وجماله، واعتراضه في جنسه ومائه.
● تحير أهل الفصاحة
وهذا الفصل أيضاً مما يحتاج إلى تفصيل وشرح ونص، ليتحقق ما ادعيناه منه، ولولا هذه الوجوه التي بيناها لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضاً في معارضته، ويتوقفون لها.
● عدل أهل الصنعة لما عرفوا عجزهم
فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه. وقصور فصاحتهم دونه.
ولا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعاً فيهم ولا متقدماً في الفصاحة منهم هذه الحال، حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره.. إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا، ولم يشتغلوا بذلك، تحققاً بظهور العجز، وتبيناً له.
● كذبوا حين قالوا لو نشاء لقلنا مثله
وأما قوله تعالى حكاية عنهم: (قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لو نشاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم وهو يدل على عجزهم، ولذلك أورده الله مورد تقريعهم، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أ نفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز، والضمان إلى الوفاء.
● لم يستعملوا التحدي لعجزهم
فلما لم يستعملوا ذلك مع استمرار التحدي، وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه، علم عجزهم، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط، ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيات، وفي وصف الأزمة والأنساع والأمور التي لا يؤبه لها ولا يحتاج إليها، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس، ويتبجحون به أشد التبجح.
فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة والعبارات الفصيحة، مع تضمن المعارضة تكذيبه والذبّ عن أديانهم القديمة، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم وتضليله إياهم، والتخلص من منازعته، ثم من محاربته ومقارعته، ثم لا يفعلون شيئاً من ذلك وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل، ويعللونها بالأباطيل،
● حروف كلام العرب
ومعنى تاسع: وهو أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة.
وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.
● أقسام الحروف
والذي ينقسم إليه هذه الحروف: على ما قسمه أهل العربية، وبنوا عليها وجوهها: أقسام نحن ذاكروها: فمن ذلك أنهم قسموها إلى: حروف مهموسة، وأخرى مجهورة.
● الحروف المهموسة
فالممهموسة منها عشرة، وهي: الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والتاء، والضاد، والسين: وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة.
وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان.
● الحروف المجهورة
والمجهور معناه أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد، ويجري الصوت.. والمهموس كل حرف ضعف الاعتماد في موضعه، حتى جرى معه النفس، وذلك مما يحتاج إلى معرفته، لتبتني عليه أصول العربية.
● حروف الحلق
وكذلك مما يقسمون إليه الحروف: يقولون أنها على ضربين: أحدهما: حروف الحلق، وهي ستة أحرف: العين والحاء والهمزة والهاء والخاء والغين.. والنصف من هذه الحروف مذكور في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المبينة في أوائل السور، وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.
● الحروف شديدة وغيرشديدة
وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه وهي: الهمزة والقاف والكاف والجيم والظاء والذال والطاء والباء.
وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضاً هي مذكورة في جملة تلك الحروف التي بني عليها تلك السور.
● الحروف مطبقة ومنفتحة
ومن ذلك: الحروف المطبقة، وهي أربعة أحرف. وما سواها منفتحة. فالمطبقة: الطاء والظاء والضاد والصاد.
وقد علمنا أن نصف هذه في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.
● تقسيم الحروف جاء متأخراً لكن بإلهام من الله
وإذا كان القوم الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام، لأغراض لهم في ترتيب العربية، وتنزيلها، بعد الزمان الطويل، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر، على حد التنصيف الذي وصفنا. دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه، بعد العهد الطويل، لا يجوز أن يقع إلا من الله عز وجل، لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب، وإن كان إنما نبهوا على ما بني عليه اللسان في أصله، ولم يكن لهم في التقسيم شيء، وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان: فذلك أيضاً من البديع، الذي يدل على أن أصل وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان.
● أصل اللغة توقيفي واجتماع همم العلماء بأمر من الله
فإن كان أصل اللغة توقيفاً فالأمر في ذلك أبين، وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضاً، لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى، وكل ذلك يوجب اثبات الحكمة في ذاكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه.
● تعاد فاتحة كل سورة لفائدة
وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم إذا كانت حروفاً، كنحو ألم، الآن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعاً، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة.
فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم، بما يتعارفون من الحروف، التي تتردد بين هذين الطرفين؛ ويشبه أن يكون التنصيف وقع في هذه الحروف دون الألف، لأن الألف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعاً واحداً.
● كلام القرآن سهل لكنه عسير المتناول
ومعنى عاشر: وهو أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر وعن الصنعة المتكلفة، وجعله قريباً إلى الإفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس.
وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به.
فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة فيطلب فيه التمنع، أو يوضع فيه الإعجاز، ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة وأطبق بأبواب التعسف والتكلف، لكان القائل أن يقول فيه ويعتذر ويعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابهاً متماثلاً، وبين مع ذلك اعجازهم فيه.
● كلام فصحاء العرب لا يخلو من هنات
وقد علمت أن كلام فصحائهم، وشعر بلغائهم، لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر أو وحشي مستكره، ومعان مستبعدة، ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين.
● كبير شعراء الجاهلية في شعره مأخذ
فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة، ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويتناول من كثب، ويتصور في النفس كتصور الأشكال، ليبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.
● الأحكام معللة بعلل توافق مقتضى العقل
واعلم أن من قال من أصحابنا: إن الأحكام معللة بعلل موافقة مقتضى العقل جعل هذا وجهاً من وجوه الإعجاز، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه كنحو ما يعللون به الصلاة ومعظم الفروض وأصولها، ولهم في كثير من تلك العلل طريق قريبة، ووجوه تستحسن. وأصحابنا من أهل خراسان يولعون بذلك، ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم، وفي ذلك كلام يأتي في كتابنا في " الأصول ".
وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد، فإنا جمعنا بين أمور، وذكر المزية المتعلقة بها، وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الإعجاز فيه.
● هل القرآن معجز لأنه حكاية لكلام الله القديم
فإن قيل: فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية الكلام القديم سبحانه، أو لأنه عبارة عنه، أو لأنه قديم في نفسه، قيل: لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فيكف يصح التركيب على الفاسد، ولا نقول أيضاً إن وجه الإعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن الكلام القديم، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل معجزات في النظم والتأليف، وقد بينا أن إازه في غير ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها، وقد ثبت خلاف ذلك.