من طرف فريق العمل الأحد أغسطس 09, 2015 2:02 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
الفن الأول: حد الطب وموضوعاته من الأمور الطبيعية
التعليم الخامس: الجملة الأولى [ العظام ]
● [ الفصل الأول: العظام والمفاصل ] ●
نقول: إن من العظام ما قياسه من البدن قياس الأساس وعليه مبناه مثل فقار الصلب فإنه أساس للبدن عليه يبنى كما تبنى السفينة على الخشبة التي تنصب فيها أولاً، ومنها قياسه من البدن قياس المجن والوقاية كعظم اليافوخ، ومنها ما قياسه قياس السلاح الذي يدفع به المصادم والمؤذي مثل العظام التي تدعى السناسن وهي على فقار الظهر كالشوك، ومنها ما هو حشو بين فرج المفاصل مثل العظام السمسمانية التي بين السلاميات، ومنها ما هو متعلق للأجسام المحتاجة إلى علاقة كالعظم الشبيه باللام لعضل الحنجرة واللسان وغيرهما. وجملة العظام دعامة وقوام للبدن، وما كان من هذه العظام إنما يحتاج إليه للدعامة فقط وللوقاية ولا يحتاج إليه لتحريك الأعضاء فإنه خلق مصمتا"، وإن كانت فيه المسام والفرج التي لا بد منها وما كان يحتاج إليه منها لأجل الحركة أيضاً فقد زيد في مقدار تجويفه وجعل تجويفه في الوسط واحدا" ليكون جرمه غير محتاج إلى مواقف الغذاء المتفرقة فيصير رخواً، بل صلب جرمه وجمع. غذاؤه وهو المخ في حشوه. ففائدة زيادة التجويف أن يكون أخف، وفائدة توحيد التَجويف أن يبقى جرمه أصلب، وفائدة صلابة جرمه أن لا ينكسر عند الحركات العنيفة، وفائدة المخّ فيه ليغذوه على ما شرحناه قبل وليرطبه دائماً فلا يتفتت بتجفيف الحركة، وليكون وهو مجوف كالمصمت. والتجويف. يقل إذا كانت الحاجة إلى الوثاقة أكثر ويكثر إذا كانت الحاجة إلى الخفة أكثر. والعظام المشاشية خلقت كذلك لأمر الغذاء المذكور مع زيادة حاجة بسبب شيء يجب أن ينفذ فيها كالرائحة المستنشقة مع الهواء في عظم المصفاة ولفضول الدماغ المدفوعة فيها، والعظام كلها متجاورة متلاقية، وليس بين شيء من العظام وبين العظم الذي يليه مسافة كثيرة بل في بعضها مسافة يسيرة تملؤها لواحق غضروفية أو شبيهة بالغضروفية خلقت للمنفعة التي للغضاريف، وما لم يجب فيه مراعاة تلك المنفعة. خلق المفصل بينها بلا لاحقة كالفّك الأسفل. والمجاورات التي بين العظام على أصناف: فمنها ما يتجاور مفصل سلس، ومنها ما يتجاور تجاور مفصل عسر غير موثق، ومنها ما يتجاور تجاور مفصل موثق مركوز أو مدروز أو ملزق.
والمفصل السلس هو الذي لأحد عظميه أن يتحرّك حركاته سهلاً من غير أن يتحرك معه العظم الآخر كمفصل الرسغ مع الساعد.
والمفصل العسر الغير الموثق هو أن تكون حركة أحد العظمين وحده صعبة وقليلة المقدار مثل المفصل الذي بين الرسغ والمشط أو مفصل ما بين عظمين من عظام المشط.
وأما المفصل الموثق فهو الذي ليس لأحد عظميه أن يتحرّك وحده البتة مثل مفصل عظام القصّ. فأما المركوز فهو ما يوجد لأحد العظمين زيادة وللثاني نقرة ترتكز فيها تلك الزيادة ارتكازاَ لا يتحرك فيها مثل الأسنان في منابتها.
وأما المدروز فهو الذي يكون لكل واحد من العظمين تحازيز وأسنان كما للمنشار ويكون أسنان هذا العظم منهدمة في تحازيز ذلك العظم كما يركب الصًفارون صفائح النحاس. وهذا الوصل يسمى شأنا" ودرزاً كالمفاصل وعظام القحف.
والملزق منه ما هو ملزق طولاً مثل مفصل بين عظمي الساعد، ومنه ما هو ملزق عرضاً مثل مفصل الفقرات السفلى من فقار الصلب فإن العليا منها مفاصل غير موثقة.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثاني: تشريح القحف ] ●
أما منفعة جملة عظم القحف فهي إنها جنة للدماغ ساترة وواقية عن الآفات. وأمّا المنفعة في خلقها قبائل كثيرة وعظاما" فوق واحدة فتنقسم إلى جملتين: جملة معتبرة بالأمور التي بالقياس إلى العظم نفسه، وجملة معتبرة بالقياس إلى ما يحويه العظم.
أما الجملة الأولى فتنقسم إلى منفعتين: إحداهما أنه أن اتفق أن يعرض للقحف آفة في جزء من كسر أو عفونة، لم يجب أن يكون ذلك عاما" للقحف كله، كما يكون لو كان عظما" واحداً. والثانية أن لا يكون في عظم واحد اختلاف أجزاء في الصلابة واللين، والتخلخل والتكاثف، والرقة والغلظ، الاختلاف الذي يقتضيه المعنى المذكور عن قريب.
وأما الجملة الثانية: فهي المنفعة التي تتم بالشؤون، فبعضها بالقياس إلى الدماغ نفسه، بأن يكون لما يتحلّل من الأبخرة الممتنعة عن النفوذ في العظم نفسه، لغلظة طريق ومسلك ليفارقه فينقي الدماغ بالتحلل. ومنفعة بالقياس إلى ما يخرج من الدماغ من ليف العصب الذي ينبت في أعضاء الرأس ليكون لها طريق. ومنفعتان مشتركتان بين الدماغ وبين شيئين اَخرين، أحدهما بالقياس إلى العروق والشرايين الداخلة إلى داخل الرأس، لكي يكون لها طريق ومنفعة بالقياس إلى الحجاب الغليظ الثقيل، فتتشبث أجزاء منه بالشؤون فيستقل عن الدماغ ولا يثقل عليه. والشكل الطبيعي لهذا العظم هو الاستدارة لأمرين ومنفعتين. أحدهما بالقياس إلى داخل وهو أن الشكل المستدير أعظم مساحة مما يحيط به غيره من الأشكال المستقيمة الخطوط إذ تساوت إحاطتها. والآخر بالقياس إلى خارج وهو أن الشكل المستدير لا ينفعل من المصادمات ما ينفعل عنه ذو الزوايا. وخلق إلى طول مع استدارة لأن منابت الأعصاب الدماغية موضوعة في الطول. وكذلك يجب لئلا ينضغط، وله نتوآن إلى قدام وإلى خلف ليقيا الأعصاب المنحدرة من الجنبين. ولمثل هذا الشكل دروز ثلاثة حقيقية ودرزان كاذبان، ومن الأولى درز مشترك مع الجبهة قوسي هكذا! ويسمّى الاكليلي، ودرز منصف لطول الرأس مستقيم يقال له وحده سهمي. وإذا اعتبر من جهة اتصاله بالإكليلى قيل له سفودي، وشكله كشكل قوس يقوم في وسطه خط مستقيم كالعمود هكذا والدرز الثالث هو مشترك بين الرأس من خلف، وبين قاعدته، وهو على شكل زاوية يتّصل بنقطتها طرف السهمي، ويسمّى الدرز اللامي لأنه يشبه اللام في كتابة اليونانيين، وإذا انضم إلى الدرزين المقدمين صار شكله هكذا: وأمّا الدرزان الكاذبان فهما اَخذان في طول الرأس على موازاة السهمي من الجانبين، وليسا بغائصين في العظيم تمام الغوص، ولهذا يسميان قشريين. وإذا اتصلا بالثلاثة الأولى الحقيقية صارت شكلها هكذا.
وأمّا أشكال الرأس الغير الطبيعية فهي ثلاثة. أحدها أن ينقص النتوء المقدم فيفقد له من الدرز الاكليلي. والثاني أن ينقص النتوء المؤخر فيفقد له من الدروز الدرز اللامي. والثالث أن يفقد له النتواَن جميعاً ويصير الرأس كالكرة متساوي الطول والعرض. قال فاضل الأطباء "جالينوس": إن هذا الشكل لما تساوى فيه الأبعاد وجب فيه العدل أن يتساوى فيه قسمة الدروز، وقد كان قسمة الدروز في الأوّل للطول درز وللعرض لدرزان، فيكون ههنا للطول درز وللعرض كذلك درز واحد، وأن يكون الدرز العرضي في وسط العرض من الأذن إلى الأذن على هذه الصورة كما أن الدرز الطولي في وسط الطول. قال هذا الفاضل: ولا يمكن أن يكون للرأس شكل رابع كير طبيعي حتى يكون الطول أنقص من العرض إلا وينقص من بطون الدماغ أو جرمه شيء، وذلك مضادّ للحياة مانع عن صحة التركيب. وصوب قول مقدم الأطباء " بقراط" إذ جعل أشكال الرأس أربعة فقط فاعلم ذلك.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثالث: تشريح ما دون القحف ] ●
وللرأس بعد هذا خمسة عظام، أربعة كالجدران، وواحد كالقاعدة، وجعلت هذه الجدران أصلب من اليافوخ، لأن السقطات والصدمات عليها أكثر، ولأن الحاجة إلى تخلخل القحف واليافوخ أَمَسُّ لأمرين: أحدهما لينفذ فيه البخار المتحلّل. والثاني لئلا يثقل على الدماغ. وجعل أصلب الجدران مؤخرها لأنه غائب عن حراسة الحواس، فالجدار الأوّل هو عظم الجبهة ويحدّه من فوق الدرز الاكليلي، ومن أسفل درز آخر يمتد من طرف الاكليلي ماراً على العين عند الحاجب متصلاً اَخره بالطرف الثاني من الإكليلي، والجداران اللذان يمنة ويسرة فهما العظمان اللذان فيهما الأذنان، ويسميان الحجرتين لصلابتهما ويحد كل واحد منها من فوق الدرز القشري، ومن أسفل درز يأتي من طرف الدرز اللامي، ويمر منتهياً إلى الإكليلي، ومن قدام جزء من الإكليلي، ومن خلف جزء من اللامي. وأما الجدار الرابع فيحده من فوق الدرز اللامي، ومن أسفل الدرز المشترك بين الرأس والوتدي ويصل بين طرفي اللامي. وأما قاعدة الدماغ فهو العظم الذي يحمل سائر العظام ويقال له الوتدي وخلق صلباً لمنفعتين: إحداهما أن الصلابة تعين على الحمل. والثاني أن الصلب أقل قبولاً للعفونة من الفضول وهذا العظم موضوع تحت فضول تنصبّ دائماً، فاحتيط في تصليبه، وفي كل واحد من جانبي الصدغين عظمان صلبان يستران العصبة المارة في الصدغ، ووضعهما في طول الصدغ على الوارب ويسميان الزوج.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الرابع: تشريح عظام الفكين والأنف ] ●
أما عظام الفك والصدغ: فيتبين عددها مع تبيننا لدروز الفك فنقول: إن الفك الأعلى يحدّه من فوق درز مشترك بينه وبين الجبهة مار تحت الحاجب من الصدغ إلى الصدغ، ويحدّه من تحت منابت الأسنان، ومن الجانبين لحرز يأتي من ناحية الأذن مشتركاً بينه وبين العظم الوتدي الذي هو وراء الأضراس، ثم الطرف الآخر هو منتهاه أعني أنه يميل نابياً إلى الإنسي يسيراً، فيكون درز يفرق بين هذا وبين الدرز الذي نذكره، وهو الذي يقطع أعلى الحنك طولاً. فهذه حدوده. وإما دروزه الداخلة في حدوده، فمن ذلك درز يقطع أعلى الحنك طولاً ولدرز آخر يبتدىء ما بين الحاجبين إلى محاذاة ما بين الثنيتين، ودرز يبتدىء من عند مبتدأ هذا الدرز، ويميل عنه منحدراً إلى محاذاة ما بين الرباعية والناب من اليمين، ودرز آخر مثله في الشمال، فيتحدد إذاً بين هذه الدروز الثلاثة الوسطى والطرفين. وبين محاذاة منابت الأسنان المذكورة عظمان مثلثان، لكن قاعدتا المثلثين ليستا عند منابت الأسنان بل يعترض قبل ذلك درز قاطع قريب من قاعدة المنخرين، لأن الدروز الثلاثة تجاوز هذا القاطع إلى المواضع المذكورة، ويحصل دون المثلثين عظمان تحيط بهما جميعاً قاعدة المثلثين، ومنابت الأسنان، وقسمان من الدرزين الطرفيين يفصل أحد العظمين عن الآخر ما ينزل عن الدرز الأوسط، فيكون لكل عظم زاويتان قائمتان عند هذا الدرز الفاصل، وحادة عند النابين، ومنفرجة عند المنخرين، ومن دروز الفك الأعلى درز ينزل من الدرز المشترك الأعلى آخذاً إلى ناحية العين، فكما يبلغ النقرة ينقسم إلى شعب ثلاثة: شعبة تمز تحت الدرز المشترك مع الجبهة وفوق نقرة العين حتى يتصل بالحاجب، ودرز دونه يتصل كذلك من غير أن يدخل النقرة، ودرز ثالث يتّصل كذلك بعد دخول النقرة وكل ما هو منها أسفل بالقياس إلى الدرز الذي تحت الحاجب، فهو أبعد من الموضع الذي يماسه الأعلى. ولكن العظم الذي يفرزه الدرز الأول من الثلاثة أعظم، ثم الذي يفرزه الثاني.
وأما الأنف فمنافعه ظاهرة وهي ثلاثة: أحدها: أنه يعين بالتجويف الذي يشتمل عليه في الاستنشاق حتى ينحصر فيه هواء أكثر ويتعدل أيضاً قبل النفوذ إلى الدماغ، فإن الهواء المستنشق وإن كان ينفذ جملة إلى الرئة، فإن شطراً صالح المقدار ينفذ أيضاً إلى الدماغ، ويجمع أيضاً للإستنشاق الذي يطلب فيه التشمم هواء صالحاً في موضع واحد أمام آلة الشمّ، ليكون الإدراك أكثر وأوفق. فهذه ثلاث منافع في منفعة.
وأما الثانية: فإنه يعين في تقطيع الحروف وتسهيل إخراجها في التقطيع، لئلا يزدحم الهواء كلّه عند المواضع التي يحاول فيها تقطيع الحروف بمقدار. فهاتان منفعتان في واحدة. ونظير ما يفعله الأنف في تقدير هواء الحروف هو ما يفعله الثقب مطلقاً إلى خلف المزمار قلا يتعرّض له بالسد. وأما الثالثة: فليكون للفضول المندفعة من الرأس ستر ووقاية عن الأبصار، وأيضاً آلة معينة على نفضها بالنفخ.
وتركيب عظام الأنف من عظمين كالمثلثين يلتقي منها زاويتاهما من فوق والقاعدتان يتماسان عند زاوية ويتفارقان بزاويتين. والعظمان كلّ واحد منهما يركب أحد الدرزين الطرفيين المذكورين تحت درز عظام الوجه وعلى طرفيهما السافلين غضروفان لينان، وفيما بينهما على طول الدرز الوسطاني غضروف جزؤه الأعلى أصلب من الأسفل وهو بالجملة أصلب من الغضروفين الآخرين. فمنفعة الغضروف الوسطاني أن يفصل الأنف إلى منخرين حتى إذا نزل من الدماغ فضلة نازلة مالت في الأكثر إلى أحدهما ولم يسد طريق جميع الاستنشاق المؤدي إلى الدماغ هواء مروحاً لما فيه من الروح. ومنفعة الغضروفين الطرفيين أمور ثلاثة: المنفعة المشتركة للغضاريف الواقعة على أطراف العظام وفرغنا منها. والثانية لكي ينفرج ويتوسّع إن احتيج إلى فضل استنشاق أو نفخ.
والثالثة ليعين في نقض البخار باهتزازها عند النفخ وانتفاضها وارتعادها وخُلق عظما الأنف دقيقين خفيفين، لأن الحاجة ههنا إلى الخفة أكثر منها إلى الوثاقة، وخصوصاً لكونهما بريئين عن مواصلة أعضاء قابلة للآفات وموضوعين بمرصد من الحس. وأما الفك الأسفل قصورة عظامه ومنفعته معلومة، وهو أنه من عظمين يجمع بينهما تحت الذقن مفصل موثق وطرفاهما الآخران ينتشر عند آخر كل واحد منهما ناشزة معقفة تتركب مع زائدة مهندمة لها ناتئة من العظم الذي ينتهي عنده، مربوطة بوقوع أحدهما على الآخر برباطات.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الخامس: تشريح الأسنان ] ●
أما الأسنان في اثنان وثلاثون سناً، وربما عدمت النواجذ منها في بعض الناس، وهي الأربعة الطرفانية فكانت ثمانية وعشرين سناً، فمن الأسنان ثنيتان ورباعيتان من فوق ومثلها من أسفل للقطع ونابان من فوق ونابان من تحت للكسر وأضراس للطحن من كل جانب فوقاني وسفلاني أربعة أو خمسة، فجملة ذلك اثتان وثلاثون أو ثمانية وعشرون. والنواجذ تنبت في الأكثر في وسط زمان النمو وهو بعد للبلوغ إلى الوقوف وذلك أن الوقوف قريب عن ثلاثين سنة، ولذلك تسمى أسنان الحلم. وللأسنان أصول ورؤوس محددة تركز في ثقب العظام الحاملة لها من الفكين، وتنبت على حافة كل ثقبة زائدة مستديرة عليها عظيمة تشتمل على السن وتشده. وهناك روابط قوية وما سوى الأضراس فإن لكل واحد منها رأساً واحدا". وأما الأضراس المركوزة في الفك الأسفل فأقل ما يكون لكل واحد منها من الرؤوس رأسان، وربما كان وخصوصا" للناجذين ثلاثة أرؤس وأما المركوزة في الفك الأعلى فأقل ما يكون لكل واحد منها من الرؤوس ثلاثة أرؤس، وربما كان- وخصوصاً للناجذين- أربعة أرؤس وقد كثرت رؤوس الأضراس لكبرها ولزيادة عملها، وزيد للعليا لأنها معلقة، والنقل يجعل ميلها إلى خلاف جهة رؤوسها. وأما السفلى فثقلها لا يضاد ركزها، وليس لشيء من العظام حس البتة إلا الأسنان. قال جالينوس: بل التجربة تشهد أن لها حسا" أعينت به بقوة تأتيها من الدماغ لتميز أيضاً بين الحار والبارد.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل السادس: منفعة الصلب ] ●
الصلب مخلوق لمنافع أربع: أحدها ليكون مسلكاً للنخاع المحتاج إليه في بقاء الحيوان لما نذكره من منفعة النخاع في موضعه بالشرح. وأما ههنا فنذكر من ذلك أمر مجملاً وهو أن الأعصاب لو نبتت كلها من الدماغ لاحتيج أن يكون الرأس أعظم مما هو عليه بكثير، ولثقل على البدن حمله، وأيضاً لاحتاجت العصبة إلى قطع مسافة بعيدة حتى تبلغ أقاصي الأطراف، فكانت متعرضة للآفات والانقطاع، وكان طولها يوهن قوتها في جذب الأعضاء الثقيلة إلى مباديها، فأنعم الخالق عز اسمه بإصدار جزء من الدماغ وهو النخاع إلى أسفل البدن كالجدول من العين، ليوزع منه قسمة العصب في جنباته، وآخره بحسب موازاته ومصاقبته للأعضاء، ثم جعل الصلب مسلكاً حريزاً له، والثانية أن الصلب وقاية وجُنَة للأعضاء الشريفة الموضوعة قدامه، ولذلك خلق له شوك وسناسن. والثالثة أن الصلب خلق ليكون مبني لجملة عظام البدن مثل الخشبة التي تهيأ في نجر السفينة أولا"، ثم يركز فيها ويربط بها وسائر الخشب ثانياَ، ولذلك خلق الصلب صلباً. والرابعة ليكون لقوام الإنسان استقلال وقوام وتمكن من الحركات إلى الجهات، ولذلك خلق الصلب فقرات منتظمة لا عظماً واحداً، ولا عظاماً كثيرة المقدار، وجعلت المفاصل بين الفقرات لا سلسة توهن القوام ولا موثقة فتمنع الانعطاف.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل السابع: تشريح الفقرات ] ●
فنقول: الفقرة عظم في وسطه ثقب ينفذ فيه النخاع، والفقرة قد يكون لها أربع زوائد يمنة ويسرة، ومن جانبي الثقب، ويسمى ما كان منها إلى فوق شاخصة إلى فوق وما كان منها إلى أسفل شاخصة إلى أسفل ومنتكسة، وربما كانت الزوائد ستا"، أربعة من جانب واثنان من جانب. وربما كانت ثمانية والمنفعة في هذه الزوائد، هي أن ينتظم منها الاتصال بينها اتصالاً مفصلياً بنقر في بعضها ورؤوس لقمية في بعض وللفقرات زوائد لا لأجل هذه المنفعة، ولكن للوقاية والجنة والمقاومة لما يصاك ، ولأن ينتسج عليها رباطات، وهي عظام عريضة صلبة موضوعة على طول الفقرات. فما كان من هذه موضوعاً إلى خلف يسمّى شوكاً وسناسن، وما كان منها موضوعاً يمنة ويسرة يسمى أجنحة. وإنما وقايتها لما وضع أدخل منها في طول البدن من العصب والعروق والعضل. ولبعض الأجنحة، وهي التي تلي الأضلاع خاصة منفعة، وهي أنها تتخلق فيها نقر ترتبط بها رؤوس الأضلاع محدبة بتهندم فيها. ولكل جناح منها نقرتان، ولكل ضلع زائدتان محدبتان. ومن الأجنحة ما هو ذو رأسين فيشبه الجناح المضاعف وهذا في خرزات العنق وسنذكر منفعته. وللفقرات غير الثقبة المتوسطة ثقب أخرى لسبب ما يخرج منها من العصب وما يدخل فيها من العروق، فبعض تلك الثقب يحصل بتمامها في جرم الفقرة الواحدة، وبعضها يحصل بتمامها في فقرتين بالشركة، ويكون موضعها الحد المشترك بينهما، وربما كان ذلك من جانبي فوق وأسفل معاً، وربما كان من جانب واحد، وربما كان في كل واحدة من الفقرتين نصف دائرة تامة، وربما كان في إحداهما أكبر منه، وفي الأخرى أصغر، وإنما جعلت هذه الثقبة عن جنبتي الفقرة ولم تجعل إلى خلف، لعدم الوقاية لما يخرج ويدخل هناك ولتعرضه للمصًادمات، ولم تجعل إلى قدام، وإلا لوقعت في المواضع التي عليها ميل البدن بثقله الطبيعي وبحركاته الإرادية أيضاً، وكانت تضعفها ولم يمكن أن تكون متقنة الربط والتعقيب، وكان الميل أيضاً على مخرج تلك الأعصاب يضغطها ويوهنها. وهذه الزوائد التي للوقاية قد يحيط بها رباطات وعصب يجري عليها رطوبات وتملس وتسلس لئلا تؤذي اللحم بالمماسة. والزوائد المفصلية أيضاً شأنها هذا فإنها يوثق بعضها ببعض إيثاقاً شديداَ بالتعقيب والربط من كل الجهات إلا أن تعقبها من قدام أوثق ومن خلف أسلس، لأن الحاجة إلى الانحناء والانثناء نحو القدام أمس من الانعطافُ والانتكاس إلى خلف، ولما سلست الرباطات إلى خلف شغل الفضاء الواقع لا محالة هناك وإن قل برطوبات لزجة ففقرات الصلب بما استوثق من تعقيبها من جهة، إستيثاقاً بالإفراط كعظم واحد مخلوق للثبات والسكون وبما سلست من جهة كعظام كثيرة مخلوقة للحركة.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثامن: منفعة العنق وتشريح عظامه ] ●
العنق مخلوق لأجل قصبة الرئة، وقصبة الرئة مخلوقة لما نذكر من منافع خلقها في موضعه. ولما كانت الفقرة العنقية- وبالجملة العالية- محمولة على ما تحتها من الصلب وجب أن تكون أصغر، فإن المحمول يجب أن يكون أخف من الحامل إذا أريد أن تكون الحركات على النظام الحكمي. ولما كان أوّل النخاع يجب أن يكون أغلظ وأعظم مثل أول النهر، لأن ما يخص الجزء الأعلى من مقاسم العصب كثر مما يخص الأسفل، وجب أن تكون الثقب في فقار العنق أوسع. ولما كان الصغر وسعة التجويف مما يرقق جرمها، وجب أن يكون هناك معنى من الوثاق يتدارك به ما برهنه الأمران المذكوران، فوجب أن يخلق أصلب الفقرات. ولما كان جرم كل فقرة منها رقيقاً خلقت سناسنها صغيرة، فإنها لو خلقت كبيرة تهيأت الفقرة للإنكسار وللآفات عند مصادمة الأشياء القوية لسنسنتها. ولما صغرت سنسنتها جعلت أجنحتها كباراً ذوات رأسين مضاعفة. ولما كانت حاجتها إلى الحركة أكثر من حاجتها إلى الثبات إذ ليس إقلالها للعظام الكثيرة إقلال ما تحتها، فلذلك أيضاً سلست مفاصل خرزتها بالقياس إلى مفاصل ما تحتها، ولأن ما يفوتها من الوثاقة بالسلاسة قد يرجع إليها مثله أو كثر منه من جهة ما يحيط بها ويجري عليها من العصب والعضل والعروق فيغني ذلك عن تأكيد الوثاقة في المفصال. ولما قلّت الحاجة إلى شدّة توثيق المفاصل، وكفى المقدار المحتاج إليه بما فعل، لم تخلق زوائدها المفصلية الشاخصة إلى فوق وأسفل عظيمة كثيرة العرض كما للواتي تحت العنق، بل جعلت قواعدها أطول ورباطاتها أسلس، وجعل مخارج العصب منها مشتركة على ما ذكرنا إذ لم تحتمل كل فقرة منها لرقتها وصغرها وسعة مجرى النخاع فيها ثقباً خاصة إلا التي نستثنيها ونبين حالها.
فنقول الآن: إن خرز العنق سبع بالعدد، فقد كان هذا المقدار معتدلاً في العدد والطول، ولكل واحدة منها- إلا الأولى- جميع الزوائد الإحدى عشرة المذكورة، سنسنة وجناحان وأربع زوائد مفصلية شاخصة إلى فوق، وأربع شاخصة إلى أسفل، وكل جناح ذو شعبتين. ودائرة مخرج العصب تنقسم بين كل فقرتين بالنصف، لكن للخرزة الأولى والثانية خواص ليست لغيرهما، ويجب أن تعلم أولاً أن حركة الرأس يمنة ويسرة تلتئم بالمفصل الذي بينه وبين الفقرة الأولى، وحركتها من قدام ومن خلف بالمفصل الذي بينه وبين الفقرة الثانية، فيجب أن نتكلم أولاً في المفصل الأول فنقول: إنه قد خلق على شاخصتي الفقرة الأولى من جانبيه إلى فوق نقرتان يدخل فيهما زائدتان من عظم الرأس، فإذا ارتفعت إحداهما وغارت الأخرى مال الرأس إلى الغائرة ولم يمكن أن يكون المفصل الثاني على هذه الفقرة، فجعل له فقرة أخرى على حدة وهي التالية، وأنبت من جانبها المتقدم الذي إلى الباطن زائدة طويلة صلبة تجوز وتنفذ في ثقبة الأولى قدام النخاع. والثقبة مشتركة بينهما وهي- أعني الثقبة من الخلف إلى القدام- أطول منها ما بين اليمين والشمال وذلك لأن فيما بين القدام والخلف نافذان يأخذان من المكان فوق مكان النافذ الواحد.
وأما تقدير العرض فهو بحسب أكبر نافذ واحد منهما، وهذه الزائدة تسمى السن وقد حجب النخاع عنها برباطات قوية أنبتت لتفرز ناحية السن من ناحية النخاع، لئلا يشدخ السن النخاع بحركتها ولا يضغطه، ثم إن هذه الزائدة تطلع من الفقرة الأولى وتغوص في نَقرة في عظم الرأس وتستدير عليها النقرة التي في عظم الرأس، وبها تكون حركة الرأس إلى قدام من خلف.
وهذه السن إنما أنبتت إلى قدام لمنفعتين: إحداهما لتكون أحرز لها، والثانية ليكون الجانِب الأرق من الخرزة داخلاً لا خارجاً. وخاصية الفقرة الأولى أنها لا سنسنة لها لئلاّ تثقلها ولئلاّ تتعرض بسببها للآفات فإن الزائدة الدافعة عما هو أقوى هي بعينها الجالبة للكسر والآفات إلى ما هو أضعف وأيضاً لئلا يشدخ العضل والعصب الكثير الموضوع حولها مع أن الحاجة ههنا إلى شوك واقٍ قليلة، وذلك لأن هذه الفقرة كالغائصة المدفونة في وقايات نائية عن منال الآفات. ولهذه المعاني عريت عن الأجنحة وخصوصاً إذا كانت العصب والعضل أكثرها موضوعاً بجنبها وضعاً ضيقاً لقربها من المبدأ، فلم يكن للأجنحة مكان. ومن خواص هذه الفقرة أن العصبة تخرج عنها لا عن جانبيها ولا عن ثقبة مشتركة، ولكن عن ثقبتين فيها تليان جانبي أعلاها إلى خلف، لأنه لو كان مخرج العصب حيث تلتقم زائدتي الرأس وحيث تكون حركاتهما القوية لتضر بذلك تضرراً شديداً، وكذلك لو كان إلى ملتقم الثانية لزائدتيها اللتين تدخلان منها في نقرتي الثالثة بمفصل سلس متحرّك إلى قدام وخلف، ولم تصلح أيضاً أن تكون من خلف ومن قدام للعلل المذكورة في بيان أمر سائر الخرز ولا من الجانبين لرقة العظم فيهما بسبب السنّ، فلم يكن بدّ من أن تكون دون مفصل الرأس بيسير وإلى خلف من الجانبين، أعني حيث تكون وسطاً بين الخلف والجانب، فوجب ضرورة أن تكون الثقبتان صغيرتين، فوجب ضرورة أن يكون العصب دقيقاً. وأما الخرزة الثانية فلما لم يمكن أن يكون مخرج العصب فيها من فوق حيث أمكن لهذه إذ كان يخاف عليها لو كان مخرج عصبها كما للأولى أن ينشدخ ويترضض بحركة الفقرة الأولى لتنكيس الرأس إلى قدام أو قلبه إلى خلف، ولا أمكن من قدام وخلف لذلك ولا أمكن من الجانبين، وإلا لكان ذلك شركة مع الأولى، ولكان النابت دقيقاً ضرورة لا يتلافى تقصير الأول، ويكون الحاصل أزواجاً ضعيفة مجتمعة معاً، ولكان أيضاً يكون بشركة مع الأولى واتضح عذر الأولى في فساد الحال لو تثقبت من الجانبين، فوجب أن يكون الثقب في الثانية في جانبي السنسنة حيث يحاذي ثقبتي الأولى، ويحتمل جرم الأولى المشاركة فيهما. والسن النابت من الثانية مشدود مع الأولى برباط قوي ومفصل الرأس مع الأولى ومفصل الرأس والأولى معا" مع الثانية أسلس من سائر مفاصل الفقار لشدّة الحاجة إلى الحركات التي تكون بهما وإلى كونها بالغة ظاهرة، وإذا تحرك الرأس مع مفصل إحدى الفقرتين صارت الثانية ملازمة لمفصلها الآخر، كالمتوجه حتى إن تحرك الرأس إلى قدام وإلى خلف صار مع الفقرة الأولى كعظم واحد، وإن تحرك إلى الجانبين من غير تأريب صارت الأولى والثانية كعظم واحد، فهذا ما حضرنا من أمر فقار العنق وخواصها.
● [ للجملة الأولى من التعليم الخامس بقية ] ●
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
منتدى حُكماء رُحماء الطبى . البوابة